أرشيف المقالات

الخلان والزمان

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 بين أبي فراس والبارودي للأستاذ محمد محمد الحوفي تمهيد: 1 - نفسية الأديب هي الشاعرة أو الناثرة؛ فهي أحق بالدراسة حين تريد أن تفهم الآثار الأدبية للشاعر أو الكاتب. 2 - المقارنة المفصلة الشاملة بين الآثار الأدبية طريقة طريفة مشوقة، تميز الجيد من الرديء، وترينا نوع العلاقة بين الأديب اللاحق والأديب السابق. 3 - وعن طريق هذا الأدب النفسي المقارن، سنعمد إلى تفهم أبي فراس والبارودي إذ وجدنا بينهما تشابهاً عجيباً في نواح كثيرة. 4 - أبو فراس الحمداني: من آل حمدان ملوك حلب، ولد 320هـ وتوفى 357. ومحمود سامي البارودي: من سلالة المماليك بمصر، ولد 1255هـ وتوفي 1327. الخلان تركت أبي طفلاً وكان أبي ...
من الرجال كريم العود ناضره هذا بيت لأبي فراس، وهو صورة لقلب آس دامع، ودليل على يتم مبكر شعر بهوله ذلك اليافع؛ فماذا عسى أن يكون هذا اليتم في نفس أبي فراس وفي تفكيره وفي عبقريته؟ خلفه أبوه في الثالثة من عمره، فشب أبو فراس في حضانة أمه، وتلقن منها ذكريات العزة والبسالة التي آثرت عن أبيه. وما ظنك بطفل أول ما يدرك يعرف أن أباه إنما عاش محارباً ومات محارباً! إن هذا الناشئ لابد أن ينطبع على شيعة أبيه فينشأ بازلاً باسلاً، ولا سيما أنه في بيئة بني حمدان، وطابعهم كلهم النزال والصيال. ثم ما ظنك بصبي يتيم ينشأ في وسط أبناء عمه من الأمراء الذين لم ييتمهم الزمان؟ إنه يرى هؤلاء الأبناء من حوله مدللين مكرمين مغمورين بعطف آبائهم، محظوظين برعايتهم، ويرى الناس يجاملون أولئك الأبناء، ويعطفون عليهم؛ رعياً لمكانة آبائهم، وتزلفاً لهؤلاء الآباء الأمراء. أما أبو فراس فمن يعوضه عطف أبيه، وأي الناس يلاعبه ويناغيه، في حين أن لا أب له يتزلف إليه الناس بالعطف على ابنه. وإذن فقد نشأ أبو فراس شاعراً بنوع من النقص - والشعور بالنقص أول مراتب الكمال - فلابد أن تدفعه الطبيعة إلى استكمال ما نقص، فينشأ فارساً أي فارس. ولابد كذلك أن يعتز بكرامته وشرفه، ويفخر بنفسه وأهله وأبيه حتى إنك تراه لا ينسى هذا الفخر، وإن كان يعاني كرب الأسر. فها هم أولاء آباؤه مغاور، يقدمون حين يحجم القساور، ومن ورائهم شهب ثواقب، وهو أثقبهم شهاباً، وأحماهم ضراباً: أنا ابن الضاربين الهام قدما ...
إذا كره المحامون الضرابا ألم تعلم ومثلك قال حقا ...
بأبي كنت أثقبها شهابا وها هو ذا يستحث سيف الدولة على فدائه، بأنه نسيج وحده في المعالي، وفي الذود عن حمى أسرته: متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى ...
شديداً على البأساء غير ملهد؟! فإن تفتدوني تفتدوا لعلاكم ...
فتى غير مردود اللسان ولا اليد يطارد عن أحسابكم بلسانه ...
ويضرب عنكم بالحسام المهند ثم يستحثه بأن الإسلام لا يستغني عن حراسته: فإن لم يكن ود قريب نعده ...
ولا نسب دون الرجال قراب فأحوط للإسلام ألا يضيعني ...
ولي عنك فيه حوزة ومناب وهو يقرع عشيرته بأنه بازلها الذي يحميها، وهو ذؤابة أشرافها وأعاليها: تمنيتم أن تفقدوني وإنما ...
تمنيتم أن تفقدوا العز أصيدا أما أنا أعلى من تعدون همة ...
وإن كنت أدنى من تعدون مولدا وهو سيد قومه وعمدتهم: منعت حمى قومي وسدت عشيرتي ...
وقلدت أهلي من هدى القلائد خلائق لا يوجدن في كل ماجد ...
ولكنها في الماجدين الأماجد وإنه في أسره ليحزنه أن تمر به الليالي آمنة ساكنة لا يغير فيها ولا يجير: تمر الليالي ليس للنفع موضع ...
لدي ولا للمستقين جناب ولا شد لي سرج على ظهر سابح ...
ولا ضربت لي بالعراء قباب ولا برقت لي في اللقاء قواطع ...
ولا لمعت لي في الحروب حراب وهكذا نجد ديوانه مليئاً بشعر الفخر والاعتزاز بالكرامة، وهذا كما قلنا طبيعة نشأها فيه اليتم المشعر بالنقص، الحافز إلى الكمال. وقد جر أبو فراس البلاء على نفسه بسبب عبقريته الحربية: فالناس في كل زمان يحقدون على العباقرة، ويتمنون لهم كل فاقرة.
وإن عشيرة أبي فراس وأقرانه ليعجبون! ما لهذا اليتيم يبز أبناء عمه ممن تربوا في رعاية آبائهم، وتلقوا عنهم دروس النزال والصيال، ثم ما له يخنق صيتهم بصيته، ويعفى على آثار سيوفهم بصليته، مع أنه - إلى يتمه - ليس أغناهم مالاً؟! لابد إذن أن يأكل الحقد صدور هؤلاء الناس، وأن يفرحوا بكل سيئة تصيب أبا فراس. كما جر أبو فراس على نفسه البلاء بسبب فخره وتعاليه، وغلوه في اعتداده بنفسه، فالناس إن حقدوا على العباقرة فهم أحرى بالحقد على المتحدثين عن أنفسهم، الفخر بأعمالهم وأحسابهم، ولا سيما إذا كان الفخر من مثل أبي فراس، هذا اليتيم الذي لم يسمع من أبيه كلمة مجد أو عزة، وأي الناس لا يحقد عليه، ولم يدع لغيره فضلاً، وكرر دعواه بأنه سيد عشيرته، وألمع شهاب في سماء أرومته. وقد كان أسر أبي فراس محكاً ميز أصدقاءه الأوفياء من غيرهم فقد حسب الذين كانوا يدارونه أن لا فداء له، ولا غناء فيه، فكشفت هذه الشدة خفاياهم، وكذبت ألسنتهم ومراياهم. وبعد: فليس بدعاً من أبي فراس بعد ما قدمنا أن يشغل بالتحدث عن الصداقات والصحاب والحساد والمرائين، في كل مناسبة، ولا سيما مدة أسره.
وقد قرر هو بعد التجربة أن الدنيا خلو من الصديق الوفي الذي يرضيك ما ظهر منه وما خفي. وها هو ذا قد خبر أصحابه، فرأى أنهم كلهم عبيد المنفعة، وأنهم يضرون ولا ينفعون، حتى أصبح الخليل هو من يبتعد عنك حتى لا يضرك: تناساني الأصحاب إلا عصيبة ...
ستلحق بالأخرى غداً وتحول وإن الذي يبقى على العهد منهم ...
وإن كثرت دعواهم لقليل أقلب طرفي لا أرى غير صاحب ...
يميل مع النعماء حيث تميل ومنها ترى أن المتارك محسن ...
وأن خليلاً لا يضر خليل تصفحت أقوال الرجال فلم يكن ...
إلى غير شاك في الزمان وصول أكل خليل أنكد غير منصف ...
وكل زمان بالكرام بخيل؟! والناس في نظره ذئاب في ثياب فلا تتخيل أن كل الملاطفين صحاب بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ...
ومن أين للحر الكريم صحاب وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ...
ذئاباً على أجسادهن ثياب وهو يتحسر في أسره على صاحب فرد، لا يريم عن وده، وإن تتنكر الزمان وأشتد: أما ليلة تمضي ولا بعض ليلة ...
أسر بها هذا الفؤاد الموجعا أما صاحب فرد يدوم وفاؤه ...
فيصغي لمن أصغى ويرعى من رعى وفي كل دار لي صديق أوده ...
إذا ما تفرقنا حفظت وضيعا وليس بدعاً كذلك من أبي فراس وقد شام الغدر في الناس أن يكون أول ما يمتدح به الوفاء، فها هو ذا يقول لصاحبه أبي الحصين وقد كان من أوفيائه: أبا حصين وخير القول أصدقه ...
أنت الصديق الذي طابت مخابره أين الخليل الذي يرضيك باطنه ...
من الخليل الذي يرضيك ظاهره وكذلك يمتدح نفسه بأنه يسار صديقه بعيبه، ويجهر أمام الناس بفضله وحبه: وإذا وجدت مع الصديق شكوته ...
سراً إليه وفي المحافل أشكر ويقول لأبي زهير ابن عمه: ابن عمي إني على شحط دار ...
والقريب المحل غير قريب صادق الود خالص العهد أن ...
س في حضوري محافظ في مغيبي وفي توديع أبي الحصين صديقه يقول: يا من أصافيه في قرب وفي بعد ...
ومن أخالصه إن غاب أو شهدا أضحى وأضحيت في سر وفي علن ...
أعده والذي إذ هدني ولدا وليس معيار الصداقة عند أبي فراس وعند أحرار الناس، أن يغدق الصديق على صديقه عطاياه، أو يمطره إطراء عندما يراه ولكن هو الذي يصون الغيب، ويصفو على البعد والقرب، والأصدقاء بهذا المعنى أعزاء قلة؛ ومن ينبئك عن حقيقة الصحاب غير أبي فراس وقد خبرهم: أعيا على أخ وثقت بوده ...
وأمنت في الحالات عقبى غدره وخبرت هذا الدهر خبرة ناقد ...
حتى أنست بخيره وبشره لا أشتري بعد التجارب صاحباً ...
إلا وددت بأنني لم أشره ويجيء طوراً ضره في نفعه ...
جهلاً وطوراً نفعه في ضره وأحب إخواني إلي أبرهم ...
لصديقه في سره أو جهره وإنه ليعرف الصداقة والعداوة تعريفاً جديداً استمده من تجاربه، كما يعرف (القريب) و (الغريب): أشد عدو بك الذي لا تحارب ...
وخير خليلك الذي لا تناسب لقد زدت بالأيام والناس خبرة ...
وجربت حتى هذبتني التجارب فأقصاهم أقصاهم من إساءتي ...
وأقربهم مما كرهت الأقارب ولا أنس دار ليس فيها مؤانس ...
ولا قرب أهل ليس فيهم مقارب وتبعاً لهؤلاء الحساد الكلاب، يتلفتون ليتأكدوا أن أبا فراس غاب، ثم يسلقونه بألسنة حداد؛ ولكنه يعتبر هذا شرفاً له؛ فإنما يحسد ذو النعمة: ومضطغن لم يحمل السر قلبه ...
تلقت ثم اغتابني وهو هائب تردى رداء الظل لما لقيته ...
كما يتردى بالغبار العناكب ومن شرفي ألا يزال يعيبني ...
حسود على الأمر الذي هو عائب رمتني عيون الناس حتى أظن - ها ستحسدني في الحاسدين الكواكب ولست أرى إلا عدواً محارباً ...
وآخر خير منه عندي المحارب فهم يطفئون المجد والله واقد ...
وهم ينقصون الفضل والله راهب ويرجون إدراك العلى بنفوسهم ...
ولم يعلموا أن المعالي مواهب وقد كان حرصه على غيظ الحساد مشجعاً له على تجلده في الأسر: وإني لمجزاع ولكن همتي ...
تدافع عني حسرة وتغالب ورقبة حساد صبرت اتقاءها ...
لها جانب مني وللحزن جانب (يتبع) محمد محمد الحوفي

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١