أرشيف المقالات

من صفحات مطوية:

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
8 إنطاكية وخليج الإسكندرونة في الحرب العظمى الأولى للأستاذ أحمد رمزي بك ينعم المرء بمناظر رائعة إذا كان على ظهر باخرة تسير على مقربة من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إذ تظهر جبال لبنان والعلويين أمام ناظريه وتحتها المرافئ متقاربة متشابهة؛ فإذا جن الليل تبدو أنوار القرى المتناثرة على سفوح الجبال وهي تتلألأ في الظلام.
إنه منظر يوحى لراكب البحر في ظلمات الليل البهيم شعور الأمن والاطمئنان، فتزول من نفسه مخاوف البحر ومخاطره.
فإن وصلت إلى خليج الإسكندرونة وجدت البحر يغزو الأرض ويبدو هذا الجزء منه كأنه بحيرة تحيط بها الجبال من ثلاث جهات، ووراءها قمم عالية شامخة كأنها تناطح السماء: هذه جبال اللكام عند العرب وأمانوس عند الفرنجة وطوروس وجبال الكفرة، كاروطاغي، عند الأتراك. ولقد كنت مسافراً مرة في أواسط الأناضول فبلغت مدينة قيصرية، وهي التي فتحها ملكنا الظاهر بيبرس، وركبت القطار منها إلى الشام، فوقف بنا عند مخرج نفق على جبال طوروس، وكان على رأسه محطة أشاروا على بالنزول فيها لآخذ منها القطار السريع من هذه الرابية العالية رأيت البحر ممتداً من بعيد، وكشفت سهول ولاية أضنة أو كيليكية، كما تبدو للناظر إليها من نافذة طائرة محلقة في السماء: قلت هذا هو أول ما تقع عليه أنظار كتائب الزاحفين من الشمال، وهذا ما رأته جنود الصائفة والحمدانيين وعسكر مصر أيام ابن طولون وبيبرس وقلاوون في عودتهم من حروب أرض الروم، بل قل هذا أول مناظر الحياة التي لقيها الصليبيون في زحفهم على سوريا بعد أيام الويل والحرمان التي ذاقوها في أرباض آسيا الصغرى. فإذا انحدرت من مضايق الجبال ودخلت السهل واتجهت إلى الساحل كان أول ما يلفت النظر هذه البحيرة التي تكون خليج الإسكندرونة، لو رآها رجل البحر لقال عنها هذي أكبر مرافئ الشرق، وتصورها الموئل الطبيعي لمئات السفن، ولو نظر إليها رجل البر لقال هذا مركز من المراكز الممتازة في العالم.
فهنا التصق الخليج بالأرض وكونا في التاريخ قطعة واحدة وأصبح لها قصة واحدة: هي قصة تلك البقاع من الدنيا التي لها ذنب واحد ه حبتها به الطبيعة وجغرافية الأرض من مزايا. هذي البقاع ليست كثيرة على الأرض ولكنها خلقت لتكون مسرحا للمشاكل والمعارك والتصادم وتتابع الحوادث والخطوب.
إن مثلها كمثل بعض الناس ممن يأتي إلى الدنيا ليثير ضجة بين الخلق من يوم مولده إلى يوم وفاته كأنهم جاءوا إلى الدنيا تحت طالع من طوالع الضجيج أو سوء الحظ، كذلك هذه الرقعة من الماء والأرض والجبال، أتراها قد برزت للوجود تحت برج خاص من بروج السماء، فحكمت عليها الأقدار أن تكون فريسة للطامعين من ذوي الغلبة والسلطان، وموطناً للحروب والقتال، وأن يكتب على أهلها تحمل مصائب الدهر من ضيق الحصار ونقص في الأموال والأنفس، وتحمل غضب الطبيعة فما تثيره من أوبئة وزلازل، أن يكتب في سجل القدر لهذه البقعة من الأرض فيقترن اسمها بالعز آنا وتعلو علوا كبيرا حتى تسمو على غيرها من بقاع الأرض، ثم يلاحقها سوء الطالع فترى الأيام السود وتذوق الويل المرة بعد المرة حينما يطأها الفاتحون والغزاة، فتندك صروحها وتفنى بشاشة أهلها وتبكي نساؤها بكاء طويل في الليل كما يتحدث بذلك تاريخها في أكثر من عشرين قرنا من الزمن؟ وغريب أمر هذه البقعة: تقوم عليها المدنيات المختلفة وتتبادلها الشعوب، وينطق أهلها بكل لسان ويفنى شعب بعد شعب على أرضها ولكنها تخرج من وسط النكبات والمصائب وهي باقية لن تبيد، لأن الحياة لا تلبث أن تعود إليها.
ولا تزال إلى اليوم إنطاكية وما حولها: ترى أسوارها القديمة وتلمس عظمتها الفانية.
تراها صغيرة بجانب ما كانت عليه، ومع هذا تشعرك بماضيها ومجدها، وقد يدخل المرء مستهينا بها فيخرج منها وهو حامل في نفسه ما يدعو لاكبارها، إن فيها سراً يجبر الناس على احترامها. نعم لقد قدر لهذه البقعة من الأرض أن تبرز خلال العصور الماضية وأن يتحدث عنها الناس من أهل الشرق والغرب، وسنبذل بعض الجهد لنأتي بشيء من ذكرها في كل عصر من العصور السالفة وخصوصا ذلك العصر المملوء بالبطولة والكفاح: عصر الحروب الصليبية، ونذكر ما حولها من حصون الإفرنج وما أقيم أمامها من حصون المسلمين وقلاعهم والكتابة في هذه الناحية من أحب الأشياء إلى من يؤمن بعظمة ماضينا، ولكن هناك ناحية لا تزال خافية عن قراء العربية هي أهمية هذا الركن من العالم في الحرب العظمى الأولى، فقد بقيت منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة بعيدة عن ميادين القتال ولم تغمرها الحوادث ولذلك لم يشهر اسمها ولم يعلم الناس عنها إلا لما أثيرت مسألتها أمام عصبة الأمم وأخذت تتطور مشكلتها بين فرنسا وتركيا ثم أخيرا سوريا وتركيا. ولهذه المنطقة تاريخ طويل في مدة هذه الحرب وما تلاها من الحوادث، سنعرضه ملخصا ما أمكن راجعين من النهاية إلى البداية: حينما قامت الحركة التركية وحصلت حكومة أنقرة على الانتصارات الأولى على اليونان.
أرسلت وفدا إلى باريس في يولية سنة 1921 أخذ يفاوض الفرنسيين في عدة مسائل، وفي 25 أكتوبر سنة 1921 عقد اتفاق أنقرة الأول وفيه سلمت فرنسا بالحدود التركية التي تبدأ من بياس إلى ميدان اكبس ثم تستمر على شريط سكة حديد بغداد، وكان من ضمن ما اتفق عليه إقامة نظام إداري خاص بسنجق الإسكندرونة واعتبار اللغة التركية لغة رسمية فيه. جاء هذا الاتفاق عقب حرب بين الفرنسيين والأتراك دامت من يناير 1920 إلى 1921 قال عنها الفرنسيون في كتابهم عن تاريخ الشرق ما يأتي: (إنها حرب مقدسة وقومية اتسمت بالقسوة والعنف اللذين يتصف بهما أهل تلك البلاد وأنها وافقت زمن غليان الحركة الكمالية التي استنفرت الأناضوليين في وجه مشروع يشعر بتفكيك الوطن التركي). ويتعجب صديقنا الأستاذ أدموند رباط في كتابه بالفرنسية عن الوحدة السورية ويتساءل (كيف سلم الفرنسيون بعد معاركهم الطاحنة في كيليكية وخسائرهم فيها بهذه الحدود؟ ويقول إن في ذلك سرا سيبقى أمام مؤرخي المستقبل من المعميات التي يجدون الصعاب لفهمها). أما نحن فلا نعجب وقد عرفنا النزاع والتنافس بين بريطانيا وفرنسا، وإنما نتساءل ونقول للكاتب الفرنسي الذي ذكرنا نظريته في المقالة الأولى: من كان يمثل دور الإمبراطورية الرومانية في عام 1921.
بريطانيا أم فرنسا؟ إن مثل هذه الأمور تأخذ وقتا طويلا لكي تكتشف تفاصيلها وما يلابسها من المعميات.
وقد يطرأ حادث طفيف يتمثل في طلب احتلال الإسكندرونة وخليجها فينتج عنه أكبر الأمور وبعيد إلى ذكريات السياسيين مسائل ومشاكل بقيت لمدة طويلة طي الكتمان. وهذا ما حدث في عام 1918 ففي أكتوبر سلمت الدولة العثمانية وأمضت هدنة مدروس، وكانت الجيوش التركية تحتل منطقة إنطاكية وتشرف على خليج الإسكندرونة وبقيت في حوزتها بعد إمضاء هذه الهدنة، ولما كانت شروطها تحتم إجلاء الجنود والضباط والقواد الألمان فقد تقرر سفر الجنزال فون ساندرس ومن معه، وعليه تسلم القائد مصطفى كمال القيادة، وقد فهم أمرين: الأول أن الهدنة عقد لوقف القتال بين المتحاربين وأن الأراضي التي في حوزة الأتراك تبقى معهم لحين إمضاء معاهدة الصلح، والثاني: أن خط الحدود لوطنه هو الذي أثبته الأتراك بقوة السلاح في آخر معركة دارت مع الإنجليز والهنود في شمالي مدينة حلب عند انسحابهم منها وترتب على هذه المعركة إيقاف الزحف البريطاني على نقطة تبعد ثلاثين كيلو متراً من المدينة. ويقرر في مذكراته ومخابرته الرسمية أن هذا الخط من صنع يديه، ولذلك تمسك به حتى النهاية في مفاوضاته مع الفرنسين، ولم يكتف بذلك بل عارض قبل ذلك الحكومة المركزية حينما طلب الإنجليز السماح لهم باستعمال خليج الإسكندرونة والميناء لتموين جيوشهم المحتلة لمدينة حلب، وتبادل مع رئيس الوزارة مكاتبات في منتهى الخطورة، وكانت هذه الفترة موجهة له في حياته المقبلة لأنه من تلك اللحظة بدأ يفكر في تأليف جيش من شراذم الوحدات التي تحت قيادته، حينما أقنعته الحوادث بأن إنقاذ البلاد يحتم مداومة القتال إلى النهاية. فالمطالبة بتسليم ميناء الإسكندرونة كان معناه احتلال المنطقة، وقد أثار هذا الطلب مخاوف الفرنسيين لماسيرد بعد ذلك من تفاصيل في هذا البحث، وأثار قلق القائد التركي الذي فسر احتلال هذه المنطقة كرغبة في احتلال غيرها من الأراضي وأن هذا الطلب يهدم الشروط المتفق عليها.
فلما طلبت منه الحكومة إجابة هذا الطلب أجابه بصراحة: (أنا لا أتزحزح عن عقيدتي بوجوب تعيين وتحديد التضحية التي يمكن أن تبذلها الدولة بعد هزيمتها)، وكتب إلى رئيس الوزارة (إن الانقياد إلى البريطانيين في طلباتهم قبل إزالة ما في نصوص المعاهدة من إبهام وليس لا يبقى هناك وسيلة للوقوف أمام أطماعهم). وكان الفرنسيون على علم بنيات البريطانيين وهم حلفاؤهم طول مدة الحرب، وكان الأتراك على علم بما يدور حولهم وما يمكن أن يسببه لهم التساهل والإغضاء عن حقوقهم، والآن وقد نشرت أغلب وثائق الحرب العظمى الأولى، أصبح من السهل تتبع المركز الخطير الذي لعبته منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة في استراتيجية الحرب بين السنوات 1914و1918. وسوف نبدأ من الناحية التركية ثم ننتقل إلى وجهة النظر البريطانية: ففي سنة 1916 تألقت مجموعة من الفرق أطلق عليها اسم مجموعة الصاعقة (ييلدريم) وكانت حلب مركزاً لها وتولى قيادتها الماريشال فون فالكنهاين ومعه نخبة من رجال الجيش والبحريةوالطيران، ومن الاطلاع على التاريخ الرسمي الذي نشرته وزارة الحربية التركية في نشراتها عن تاريخ الحرب؛ يتبين أن القصد من تأليف هذه القوة هو السيطرة على ميادين القتال في فلسطين والعراق ثم حماية منطقة إنطاكية وخليج الإسكندرونة ضد أي هجوم يشنه الحلفاء ويكون القصد منه قطع المواصلات العسكرية وعمليات تموين الجيوش في أهم نقطة حساسة في أراضي الإمبراطورية العثمانية. ويؤكد هذا ما كتبه هندنرج: (لو وفق الإنجليز إلى إنزال جنودهم في خليج الإسكندرونة لفقدت تركيا الحرب نهائياً أو اضطرت إلى الاحتماء في جبال طوروس)، وكان قد شبه في مذكراته هذه المنطقة بالشريان الحيوي لتموين الجيوش التي تقاتل في العراق وسوريا وفلسطين وقال: (إن مدافع السواحل لم يكن لها وجود). وأشار إلى ما قاله أنور باشا (من أن أمله الوحيد هو ألا يلمس العدو حالة الضعف التي عليها خليج الإسكندرونة). ولذلك ختم حديثه بقوله (إن قيام الدولة العثمانية أو استمرار الحرب كان مرتبطا بمصير هذه البقعة، وإن الضربات التي لقيتها بسقوط بغداد وتحطيم جبهة فلسطين جعل تجمع جيوش الصاعقة ضرورياً، وألزم منه إسناد قيادة هذه المجموعة إلى قائد ألماني معروف وهذا ما جعله يوافق على هذا التعيين).
ومن اطلاعك على ذلك يتضح ما مر بمخيلة مصطفى كمال حينما تمسك بشروط الهدنة ولمس في الإخلال بها رغبة جديدة لاتخاذ سياسة أشد عداء لبلاده، وقد كان محقاً في ذلك لأن نيات البريطانيين من ناحية خليج الإسكندرونة لم تكن خافية طول مدة الحرب كما قلنا؛ فقد ذكرت المؤلفات الرسمية لوزارة الحربية البريطانية عن تاريخ الحب العظمى ما دار من نقاش بين اللورد كتشنر والجنرال مكسويل في نوفمبر سنة 1914 بخصوص إنزال حملة بريطانية على خليج الإسكندرونة وتوجيه ضربة قاصمة إلى منطقة إنطاكية ونهاية الخطوط الحديدية في جبال طوروس حتى يمكن تحطيم مواصلات الإمبراطورية العثمانية. وقد تبين من هذه المحادثات أن احتلال هذه المنطقة قد درسته القيادة البريطانية درسا وافيا، وكان القصد من إنزال الجنود هو حماية مصر أو منع الحملة التركية الموجهة إلى مهاجمة قناة السويس من إتمام فتح مصر، وكان هذا المشروع جديا لدرجة أن نظر إلى الناحية السياسية التي ستنتج عنه وهي قيام ثورات الأرمن ووسط قبائل النصيرية والإسماعيلية وتحريك كل ما يؤدى إلى انحلال الحكم التركي، وقد عرض كل ذلك بموافقة الإمبريالية البريطانية على مجلس الوزراء، ولكن كتشنر عاد أمام أسباب عسكرية وسياسية إلى التمسك بضرورة حماية قناة السويس والوقوف موقفاً دفاعيا سلبياً والاكتفاء بتشديد الرقابة والحصار على شواطئ سوريا بأكملها، وبادرت القيادة البريطانية إرسال الفرق البريطانية والهندية التي صدت هجوم جمال باشا على مصر في فبراير سنة 1915. ثم عادت حملة خليج الإسكندرونة إلى الظهور مرة أخرى، وكان ذلك في نهاية عام 1915 حينما فشلت بريطانيا في حرب الدردنيل وقررت إخلاء شبه الجزيرة وسحب جنودها منها فقد جاء كتشنر بصفته وزيراً للحربية إلى ميادين القتال في غاليبولي ومصر ولمس بنفسه سوء الحالة العسكرية قبل الإخلاء وما تحمله من تطورات ومفاجآت وأشار إلى رد الفعل الذي قد يحدث بعد فشل حملة الدردنيل في العالم الإسلامي وإلى وجود عدد من الفرق التركية المدربة على أصول القتال الحديث بعد اشتباكها في معارك الدردنيل، ثم نظر إلى أن دخول بلغاريا الحرب قد فتح الطريق بين تركيا وألمانيا وأصبح تدفق الأسلحة والعتاد ممكناً، ولذلك تجدد الخطر مرة أخرى على مصر وهي مركز الزاوية في العمليات الحربية البريطانية.

وجاء التصريح الذي ألقاه أنور باشا أمام مجلس المبعوثين وقال فيه (إن الحلمة الأولى على مصر كانت عملية استكشافية تعرضية وسيعقبها حملة ثانية لاسترجاع مصر)، لتحريك هذه المخاوف. ولذلك ازداد قلق ماكسويل وصارح وزارة الحربية البريطانية بأن إخلاء الدردنيل سيكون شديد الوطأة على المكلفين بحماية مصر وسيكون أثرة بعيداً من الناحيتين السياسية والعسكرية إن لم تبادر بريطانيا بتوجيه ضربة عاجلة إلى الدولة العثمانية.
وعاد ليعزز اقتراح كتشنر بضرورة إنزال حملة بريطانية على خليج الإسكندرونة بل ذهب في تحمسه أن عرض على حكومته أن احتلال هذه المنطقة يجب أن يسبق عمليات الأخلاق في الدردنيل.
ورجعت وزارة الحربية إلى دراسة هذه الحملة وقدرت القوات اللازمة بمائة ألف مقاتل وأخذت القيادة العليا مع قيادة الأسطول تضمان الخطط التفصيلية، واتفق الطرفان على مبدأ الجمع بين المشكلة السورية ومسألة الدفاع عن مصر، وضرورة تنسيق العمليات الحربية بين قناة السويس وخليج الإسكندرونة. وعرضت جميع الخطط في الاجتماع الحربي الذي عقده كتشنر في جزيرة مدروس ودعي إليه كبار القواد، وكان قرارهم على ضرورة احتلال منطقة الإسكندرونة بالإجماع حتى حددت في هذا الاجتماع على الخرائط الأماكن الذي اختيرت لا نزال الجنود ولكن هذا المشروع تعرض من الوجهة الفنية العسكرية لانتقاد رياسة أركان الحرب العامة للإمبراطورية، ودارت عدة مناقشات طويلة يجدها الباحث مفصلة في الكتب والوثائق الرسمية، وفي أثناء ذلك جاءت المذكرة الفرنسية التي قدمها الكولونيل دي بانوس الملحق العسكري بسفارة فرنسا بلندرة، وهي المذكرة التي قضت على المشروع لتعارضه مع مصالح الفرنسيين إذ جاء فيها إن أي عمل جربي في هذه المنطقة يجب أن يكون باتفاق الحكومتين لأن فرنسا لا تدافع عن مصالحها الاقتصادية فحسب، وإنما تضع الناحية السياسية والنفوذ الأدبي قبل كل اعتبار في بلاد تعدها بواسطة الاتفاقات الدولية داخلة في مناطق نفوذها وذهب رئيس وزارة بريطانيا إلى باريس ولما عاد أصدرت الحكومة البريطانية قراراً برفض مشروع الحملة واستبعاد فكرة احتلال خليج الإسكندرونة، وإن بقيت كل من تركيا وألمانيا تنتظران هذه الحملة حتى نهاية الحرب العظمى وإعلان الهدنة. ذكر هندنبرج في مذكراته أن أعباءه مدة الحرب لم تكن تسمح له بقراءة التقارير التي يرفعها إليه خبراؤه العسكريون فكان يكتفي بالملخصات ولكن لفت نظره ما جاء في أحدها من أن نهاية الحرب سوف تقرر في خليج الإسكندرونة، وذلك باستدراج العدو إلى معركة كلس. قال (كنت أجهل هذا الاسم، ولهذا كان أول عمل لي هو البحث عنه وقد وجدته اسما لبلدة صغيرة في شمالي حلب). ومن الغريب أن الانتقادات التي وجهها الخبراء البريطانيون إلى مشروع كتشنر ترتكز على افتراض تجمع في هذه الناحية وقالوا إن طبيعة المنطقة بأكملها تساعد على إخفاء قوات كبيرة في أماكن مختلفة وتسهل عمليات الدفاع والمفاجأة. إن الفكرة التي نظر إليها باستهتار القائد الألماني العظيم كانت من ضمن الأسباب الفنية التي أخرت تنفيذ هذه الحملة. والآن وقد قامت سوريا تطالب بعودة هذه المنطقة إلى أراضيها نعرض هنا هذه الآراء على المهتمين بمستقبل الشرق وأممه إذ نستخلص منها حقيقة ثابتة هي أن الدفاع عن البحر الأبيض المتوسط سيتولاه في المستقبل أهله، وإنه لن يقتصر على المضايق وسواحل اليونان وجزر بحر ايجه بل يرتكز على منطقة الإسكندرونة وأن الدفاع عن وادي النيل كما رأينا يرتبط ارتباطا وثيقا بالدفاع عن هذه الناحية في السنوات القادمة. أما ملاحم العروبة والإسلام على هذه الأرض فلها عودة في مقال قريب بإذن الله. أحمد رمزي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣