أرشيف المقالات

الأدب في سير أعلامه

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 5 - تولستوي (قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه) للأستاذ محمود الخفيف فتى حائر كان ليو في نحو الثالثة عشره من عمره حينما انتقل مع اخوته إلى قازان؛ وكان جدهم أحد حكام قازان من قبل فكان الصبية ملحوظي المكانة في مضطربهم الجديد وكان يصحب كل صبي منهم خادم خاص جيء به من بين عبيدهم في ساسنايا، وترفع الصبية عمن حولهم من الناس إلا من كانت لهم مثل مكانتهم ولذلك قلت خبرتهم بقازان وأهل قازان.
وكانت عمتهم يوشكافا التي يعيشون يومذاك في رعايتها طيبة القلب ولكنها لم تكن على قدر من الثقافة كبير، وكان زوجها من ذوي الثراء يجعل أكثر وقته للموسيقى ولعب الورق إليها؛ ولذلك كثيراً ما كان يغشى بيته جماعات من أصحابه وكثيراً ما صرف الصبية عن الجد من الأمور مشاهدتهم هذه الجماعات وأوحى إلى نفوسهم اللعب واللهو فكان لذلك سوء أثره في دروسهم. ولكن ليو لا يسرف في ذلك إسراف اخوته، بل انه ليميل إلى مجافاتهم إلى حد ما منذ أن رآهم يتغيرون عما ألفهم، ورأى في أذواقهم وميولهم ما يحس أنه غريب عليه جديد عليهم وما لا يسمعه إلا أن ينكره منهم بينه وبين نفسه. ولعله ما أنكر ذلك منهم إلا لأنه لا يستطيعه لنفسه، فقد عاوده ما يكدر نفسه من اهتمامه بهيئته وماذا عسى أن يكون وقعها في النفوس؛ وإنه ليطيل النظر في المرآة فلا تعجبه أذناه الكبيرتان ولا أنفه المفرطح الواسع المنخرين ولا عيناه الشهباوان الجاحظتان بعض الشيء ولا شفتاه الغليظتان بعض الغلظ. على أن له في القراءة مصرفاً عن هذا، وعزاء ومتعة غير ما يسعى إليه اخوته من متعة؛ وهو اليوم في الرابعة عشرة من عمره يلتهم ما تصل إليه يده من الكتب التهاماً؛ ولن يزال مكباً على كتابه ساعات طويلة حتى لينسى نفسه، لأنه يعيش بخياله فيما قرأ؛ وكان قرأه يومئذ كتاب ألف ليلة وقد أثرت في خياله وحسه قصة (الأربعين لصاً) تأثيراً قوياً وكذلك فعلت قصة الأمير (قمر الزمان)؛ وقرأ الغلام شعر بوشكين وأعجب بقصيدته عن نابليون، وراقته قصة (الدجاجة السوداء) للكاتب الروسي بوجورولسكي؛ وقرأ الإنجيل وكم تأثر قلبه بقصة يوسف فأن أثرها فيه كان على حد قوله هائلا، ولم يزل بعد ذلك بسنين يصف ما أعجبه من وجازتها وبساطتها وصدقها، ولم يكد يبلغ الخامسة عشرة من عمره حتى أصبح مسحوراً بجان جاك روسو، وإنه من فرط تأثره به ليكاد ينسى كل شيء غيره، وقد بلغ افتتانه به أنه استبدل صورة له بما كان يضع فوق صدره من صليب، واقبل على اعترافاته وكتابيه (إميل) و (هلويز الجديدة) فقرأها مرة بعد مرهة، وكلما أعاد قراءتها ازداد حبه لها واشتد تأثره بها.
قال بعد ذلك يصف هذا السحر (كانت صفحات كثيرة منه وثيقة الصلة بنفسي، حتى لقد خيل إلي أني أنا الذي كتبتها لا محالة). ويمتلئ ذهن الفتى في السادسة عشرة بكثير من مسائل الفلسفة، بل إنه ليطمع أن يحل ألغاز هذا الوجود فيشغل نفسه بالنظر في خلود الروح ووظيفة الإنسان في هذا الكون وصلته به وإمكان وجود حياه أخرى إلى أمثالها من المعضلات والمسائل. وينظر الفتى في نفسه فيصل إلى رأي، وذلك أن سعادة المرء لا تتوقف على العوامل الخارجية في ذاتها ولكن على صلة الإنسان بهذه العوامل، ومن ذلك مثلاً أن الإنسان إذا أخذ نفسه بالتقشف وتعود الآلام ألف شقاء العيش وآلامه فلن يشقى به ولن يألم منه وعلى ذلك فقد أخذ نفسه بألوان من العنف والشدة كأن يحمل بعض الكتب الثقيلة زمناً ويداه ممدودتان، وكان يضرب جسمه وقد تعرى بحبل حتى تدمع عيناه، ثم إنه يقنع نفسه بأن التفكير في الموت أمر لا محل له وللإنسان أن يستمتع بالساعة التي هو فيها فالموت أمر لابد منه والحياة أتفه من أن يعنى بها المرء قلبه، فليمرح الفتى ما وسعه المرح ولينصرف عن الدرس وليقبل على كل ما يلذه من طيبات الحياة خيرها وشرها وليقض وقته في قراءة القصص وأكل الحلوى.
ويحاول أن يتدسس إلى أعماق نفسه ليرى ماذا يجري في شعوره فيصل به الأمر إلى ما يقرب من الخبل، تجد ذلك في قوله (وكنت أفكر في أني أفكر فيما كنت فيه أفكر) وإنه ليستغرق في تفكيره هذا حتى ليأكل ما في يده ذات مره من ديدان كان أعدها طعماً للسمك أثناء صيده ثم يمج الديدان من فمه بين الضحك والتقزز. ولا يلبث الفتى حتى يجد نفسه قد أخذه التشاؤم من جميع أقطاره، ثم يجد نفسه مستغرقاً في هذا التشاؤم استغراقاً، فلا فكاك له منه ولا منتدح عنه.
تجد ذلك واضحاً في عبارة جاءت له في كتابه (عهد اليفاعة)، ولئن كان هذا الكتاب كسابقه (عهد الطفولة) وكلاحقه (عهد الشباب) لم يكتب على أنه تاريخ حياته فأن أكثر ما جاء فيه من وصف لشخصيات خلقها وأكثر ما جاء على ألسنه هذه الشخصيات يدر حول حياته ومن كان له بهم في هذه العهود صلة.
قال (لم تشتد نزعة فلسفية في نفسي كما اشتدت نزعة التشاؤم، تلك النزعة التي أشرفت بي ذات مرة على حافة الخبل فقد تخيلت أنه ما من شيء أو شخص هو قائم في هذا الوجود بجانب شخصي؛ وأن الأشياء جميعاً ليست أشياء فقط، ولكنها صور فحسب لا تظهر إلا عندما أتجه بفكري إليها، وإنها لتختفي حين ينتهي تفكيري فيها؛ وقصارى القول أني وافقت شلنج فيما ذهب إليه من أن الأشياء لا وجود لها في ذاتها وإنما الموجود هو علاقتي بها؛ ومرت بي لحظات وصلت فيها تحت تأثير هذه الفكرة المتسلطة علي إلى حالة من الخبل حتى لألتفت في سرعة حولي كي أدرك اللا شيء.

لقد ازدهتني هذه الكشوف الفلسفية التي بلغتها وأثارت غروري إلى حد عظيم، وكثيراً ما تخيلت أني رجل عظيم يكشف حقائق لخير بني الإنسان، وبهذا الشعور الذي انطوت عليه نفسي، شعور الكبرياء نظرت إلى باقي البشر، ولكني ما واجهت أحداً من هؤلاء الفانين إلا أحسست بالخجل حياله، الأمر الذي يحمل على كثير من العجب، وكلما رفعت قدري نفسي شعرت أني أقل مقدرة لا على إظهار ما يخالجني من شعور الرفعة فحسب، بل كذلك على أن أعود نفسي أن أتجنب الخجل الذي يعتريني من أبسط كلماتي وحركاتي). وتتوزع فؤاده هواجس الشباب وأحلامه، فبينما هو مستغرق في تشاؤمه مسرف فيه، إذا به يميل بغتة إلى التفاؤل فيجمع عزمه على أن يجد في تحصيل دروسه وأن يكون خير مثال للطالب المجتهد، ويذهب به التفاؤل إلى حد أن يعتزم العمل على أن يكون موضع إعجاب كل من يراه من الناس فإن لم يتفق له هذا في نواحي الكفاية والبطولة، فليس ذلك بمانعه أن يبلغ مأربه في أن يصبح أغنى بني الدنيا وأشهرهم مكانة. ولكنه لا تكاد تنقضي أيام على ما عقد عليه العزم حتى يعود إلى تشاؤمه والى بطالته ولهوه، ثم إنه يطلق العنان لرغبات جسده، وهو فتى قوي البدن متدفق الحيوية يكاد يلتهب مم يخالجه من رغبات هذا البدن على الرغم من إسرافه فيما يطفئ به هذا الظمأ المتصل به؛ وما يزال به شيطانه يغريه ويزين له كثيراً من الإثم، ويسوقه إلى مهاوي الفتنة حتى يوقع في حبائله فتاة من الخدم ذات ملاحة فيغويها ويقضى منها وطره! ويبلغ نبأ هذا الإثم عمته فتطرد الفتاه من البيت إلى حيث تتلقاها مهاوي الرذيلة ثم يطويها الموت قبل أوانه على صورة محزنة نكراء.
وما يعنينا هذا الفعل إلا لأنه استقر في أعماق وجدانه.
فكان منه حين تجاوز السبعين من عمره صورة فذة لأهم شخصية في قصة تعد من أعظم آثاره الفنية وأخلدها ألا وهي قصة (البعث) ويضطرب الفتى اضطراباً شديداً بين وساوس الشباب، فما يكاد يخالجه الندم على ما يعده تفريطاً منه في جنب الفضيلة، حتى يستسلم ثانية إلى الرذيلة، ثم يعود فيجمع عزمه على الورع والطهر والعفة وعلى أن يأخذ نفسه بالجد من الأمور، ولكنه لا يلبث حتى ينقاد إلى ما يوسوس له به شيطانه. وهكذا ما يزال الفتى يتعلق بالكمال مرة، وينحدر حتى يقرب من قرارة الانحطاط مرة، ويرضى عن نفسه حيناً ويجثم على صدره الندم حيناً، دون أن يستقر على وضع أو يركن إلى رأي.
وللمرء أن يعجب حقاً من أن تشغل الفتى مثل هاتيك الأمور في سن كسنه يومئذ؛ ولقد كان بعد ذلك بسنين يشعر بما عسى أن تثير من عجب، بل إنه كان يخشى ألا يصدقها المرء أو أن يردها إلى المبالغة في القول كما ذكر ذلك في كتابه (عهد اليفاعة).
فما كان التفكير المتصل في الحياة والناس، وما كانت الرغبة في بلوغ الكمال وتلمس السبيل إلى تحقيق تلك الرغبة مما يكافئ تلك السن، ولولا ذلك الوضع الذي كان فيه وهو حدث لم يلتحق بعد بجامعة من الجامعات، وحسب أنداده أن يقرأ الفتى منهم قصة أو يلهو بديوان شعر.
ولكنه كان فيما يشبه الحمى يومئذ مما يجول في رأسه من أفكار وما يهجس في نفسه من خواطر، وما يلج تلك النفس الحائرة من رغبة في السمو ومن طموح نحو المثل الأعلى، وإن تولستوي الفتى اليوم لهو صورة مصغرة لتولستوي الكاتب العظيم في غد، يوم يشتغل ذهنه الجبار بالفن وبالدين وبمسائل الاجتماع، ويوم يبحث حائراً قانطاً أول الأمر عن الغرض من هذه الحياة، حتى تنزل الكنيسة عليه إذ يرى أن الغرض من الحياة يتلخص في العمل على السمو بها نحو ما يريد الله من كمال. وإن تحمسه للمعرفة على هذه الصورة واهتمامه بان يبلغ ما يطمح إليه من رفعة لدليل لا يدع مجالاً للريب على أنه فطر على البحث عن الحقيقة وأنه من العباقرة القلائل الذين تفطن بهم الإنسانية إلى سر وجودها، والذين يأتون إلى العالم على فترات من الزمن ليقيموا الدليل بوجودهم في ذاته على أن حياة الإنسان جديرة بأن يحياها الإنسان. وإنك لتجد مثالا لما كان يعنى به نفسه يومئذ فيما جاء بكتابه (عهد اليفاعة) قال: (كنت يومئذ في نحو السادسة عشرة، وكان العرفاء لا يزالون يترددون علي، وكنت أتهيأ في فتور وكره لألتحق بالجامعة.

وفي ذلك الوقت الذي أعده نهاية اليفاعة وبدء الشباب، كانت تقوم أحلامي على مشاعر أربعة: أولها حبي (لها) تلك المرأة الخيالية التي كنت أحلم بها دائماً على وتيرة واحدة والتي كنت أتوقع أن ألقاها في أية لحظة في أي مكان ما؛ وثانيها محبتي في أن أغدو محبوباً، فقد رغبت في أن يعرفني كافة الناس وأن يحبوني، ورغبت في أن أصرح باسمي فأجد من الناس جميعاً ما يدل على اهتمامهم بما أصرح به وأراهم يحيطون بي فيسمعوني شكرهم إياي على أمر ما؛ وثالثهما أملي في حظ عظيم غير عادي، وقد بلغ من تسلط هذا الأمل علي أن أشرف بي على الجنون، ورابع مشاعري وهو أهمها كان إحساسي باشمئزازي من نفسي واستشعاري الندم، ولكنه كان ندماً ممتزجاً بالأمل في السعادة ولذلك لم يخالطه الحزن.

ولقد أحسست السرور في نفوري من الماضي وحاولت أن أجعله أكثر اسوداداً مما كان عليه في واقع الأمر.
وذلك أنه كلما كانت ذكرياتي عن الماضي أكثر سواداً، ظهر لي الحاضر الناصع الواضح أكثر وضاءة ووضوحاً، وتراءت لقلبي أحلام المستقبل أكثر جمالا وبهجة، ولقد كان ذلك الصوت المنبعث في نفسي صوت الندم والرغبة القوية الحادة في بلوغ الكمال هو الإحساس الرئيسي لروحي في تلك الحقبة من نموي، وكان هو الذي رسم لي أساس نظراتي في نفسي وفي البشرية وفيما خلق الله من كون). وكان له يومئذ صديق في قازان، كان فتى طويل القامة، عريض المنكبين حسن الهيئة، في وجهه ملاحة ورقة، يبتسم عن أسنان جميلة دقيقة، ويزين رأسه شعر مسبل ناعم، ولكنه كان على الرغم من ذلك خجولاً كصاحبه إذا لقي الناس، بل لعله كان أشد منه خجلاً وأكثر حساسية.
وقد حبب هذا الفتى إلى تولستوي إخلاصه لما يعتقد من رأي وتحمسه له وصراحته في التعبير عما في نفسه مهما يكن من أمره، وقد سأل ديا كوف ذات مرة - وهذا هو اسمه - صاحبه تولستوي قائلا أتدري لماذا أحبك أكثر مما أحب غيرك؟ ذلك لأنك صريح لا تكتم شيئا في نفسك، وهكذا يجتمع الفتيان على الصراحة فتربط بينهما، وإنهما ليتقاربان في كثير من ميولهما، ويتضح لهما ذلك فيما يديرانه بينهما من حوار في أمور كثيرة، فيما يتصل بالدين وفيما يتصل بالمجتمع وأركانه من حكومة وتعليم ونظم مالية وما إليها. ولقد كان هذا الفتى شديد التأثير في حياة صاحبه فما فرغ من محاورته مرة إلا قويت في نفسه الرغبة في العمل على الكمال المنشود، والانطلاق من حياه اللهو والعبث، تلك الحياة التي يذهب فيها العمر سدى، ولئن لم يك لتولستوي ما لصاحبه من حسن الهيئة فليس ذلك بمانعه أن يعمل على كسب ما يحمل الناس على الإعجاب به مما هو أهم وأجدى من المنظر وحسن الطلعة، بل إنه لحافزه إلى ذلك العمل الذي يعقد عليه عزمه. على أنه عزم كأكثر مما يعتزم الشباب فما يلبث أن يذهب فيما تحيطه به الحياة من مسراتها ومغرياتها، ولكم اضطرب تولستوي بين عزمه وبين لهوه، ولكم جدد العزم ثم تحلل من عزمه. وكان ديا كوف هو شخصية ديمتري في كتابه (عهد اليفاعة) فما يفوت كاتب الغد أن يصور أشخاصه كما رآهم في مضطرب الحياة، ولن ينسى شيئاً مما رأى أو يسهو عن أمر يتصل بما يقوم في رأسه من فكرة مهما بلغ من ضآلة هذا الأمر، وتلك ناحية من أهم نواحي مقدرته الفنية يوم يغدو أعظم من كتب القصة في أدب قومه وأحد أفذاذها القلائل في أدب أوربا كلها.
. وستمضي الاعوام ويبقى أثر ديا كوف في نفسه، فقد كان مما أوحته إليه صحبته عبادة الفضيلة، وأن غاية الإنسان في الحياة العمل على بلوغ الكمال والسمو بالنفس أبداً، وسوف يظهر أثر ديا كوف في قصة الحرب والسلم فيما جاء على لسان (أندري) أحد شخصيات القصة قبل معركة أوسترلتز إذ يقول (إني أرغب في المجد، أرغب أن أكون معروفاً عند الناس وأن يحبني الناس، ومالي رغبة غير هذه، وما أعيش إلا من أجلها.

وإني وإن كان ذلك مني أمراً مروعاً غير طبيعي لأضحى حتى بأعز الناس عندي في سبيل لحظة من المجد والفوز على الرجال ومحبة من لا أعرفهم من الناس ومن سوف لا أعرفهم أبداً (يتبع) الخفيف

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن