أرشيف المقالات

صحائف مطوية:

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 التحكيم بين العمال وأصحاب الأعمال فتوى دينية اجتماعية للمغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف تعتبر العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال من أهم المشاكل الاجتماعية التي تشتغل تفكير الحكومات والهيئات، وعلى الرغم من الجهود الطويلة التي بذلت في الخمسين سنة الماضية لتذليل هذه المشكلة بما يحسم الخلاف الذي ينشب بين الجانبين على وضع عادل سليم يضمن للعامل راحة الجهد ووفرة الأجر، ويضمن لصاحب العمل تقدم الإنتاج وحسن الربح، وعلى الرغم من تأليف النقابات والهيئات ووضع اللوائح والتشريعات لتنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال فإن المشكلة لا تزال قائمة، وكلما نشب خلاف بين الطرفين انتشر الأمر، وتشبث كل بوجهته ووقعت الحكومة في حيرة لأنها لا تجد مجالا لاستخدام نفوذها في هذه الحال إلا بمنع ما قد يقع من تخريب. وبينا كنا نقلب الصفحات، وقفنا على فتوى جليلة للمغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في شأن ما يكون من الخلاف بين العمال وأصحاب الأعمال، وكان المرحوم الأستاذ فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة قد كتب إلى الأستاذ الإمام يستفتيه في هذا الموضوع فكتب إليه بتلك الفتوى، فنشرها الأستاذ أنطون في مجلته ومهد لها بمقدمة طويلة قال فيها: (كنا نطالع ما كتب بشأن العمال وأصحاب الأعمال في البلاد الإسلامية فعثرنا في أثناء المطالعة على مقال هام لكاتب فرنسي موضوعه (العمل والعمال في الجزائر).
ومما أدهشنا في هذا المقال قول كاتبه: أن عقدة العقد التي يتخاصم الآن حولها أهل العمل وأهل المال في العالم كله، والتي هي مشكلة المسائل الاجتماعية في هذا العصر قد حلتها الشريعة الإسلامية.
فإنها أوجبت التحكيم بين العامل وصاحب العمل متى قام نزاع بينهما، فوقفنا عند القول الخطير، إذا كان قائله لم يلق الكلام على عواهنه فالشريعة الإسلامية يحق لها أن تفخر بأنها تقدمت في مبدأ العمل الشريعة المدنية الحديثة، ولم نستبعد هذا الأمر لأن مبادئ الأديان القديمة قائمة على عدم احترام حق الملك احتراماً مهماً، وعلى التعاون والمساواة بين أفرادها، خلافاً لمبادئ المدنية الجديدة القائمة على بقاء الأفضل وتنازع البقاء، أي قيام القوي وسقوط الضعيف، وهو معنى حماية حرية الأفراد وملكهم شخصياً وتجارياً وصناعياً، وقد أخذنا نبحث عن هذه المسألة في الكتب التي لدينا ولما لم يرتو لنا منها غليل لم يبق أمامنا سوى استفتاء حملة الشرع الإسلامي فيها، فاغتنمنا هذه الفرصة لنجدد عواطف الاحترام لفضيلة العلامة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وحجة الشرق على الغرب في هذا العصر ونغترف من بحر علمه بالشريعة الغراء فضلا عن رغبتنا في الوقوف على رأي الشرع في هذه المسألة، فكتبنا إلى فضيلة الأستاذ نستفتيه فيها فتفضل علينا فضيلته بالكتاب التالي: (تلوت كتابكم بعد رجوعي من السفر ولا يخفى على حضرتكم أن التحكيم كما يفهم من لفظه يلزم أن يكون باتفاق الخصمين اللذين يريدان أن يقضى النزاع بينهما بالتحكيم فهو اختياري بطبيعته، ولا يكون إلا فيما هو من حقوق العباد التي يقع التنازع فيها بينهم ولا يجبر أحد خصمين على أن يتحاكم إلى من يفصل بينه وبين خصمه إلا إذا كان الترافع إلى محكمة من تلك المحاكم التي تقررها القوانين العامة أو الخاصة.
والعامل متى علة الأجرة وزمن العلم فهو حر أن شاء قبل أن يعمل على شرط مقدار الأجرة ومدة العمل وأن شاء لم يقبل.
فهذه هي القواعد العامة المتعلقة بأجرة العمال وتقيد أزمان عملهم ولا وجه لاختلاف العامل ورب المال قبل الدخول في العمل، والمقصود أن يكون الاختلاف في الوفاء بالشرط وعدم الوفاء به والذي يفصل فيه عند ذلك المحاكم أو المحكمون إذا اختار المتنازعان طريقة التحكيم.
أما الحالة القائمة الآن في أوربا فمنشؤها أمران: أحدهما اضطرار العامل للعمل لأنه لا وسيلة له إلى المعيشة سواه.
وثانيهما مبالغة رب المال في طلب الربح لأن توفير المال أصبح من أهم ما يسعى إليه طلابه في تلك البلاد.
فالأول يرغب أن يزاد له الأجر وأن ينقص من زمن العمل، والثاني يبتغي تقدير الأجر والزمن كما يريد، والأول لا يجد من أرباب المال من يجيبه إلى طلبه، والآخر لا يجد من العمال من يرضى بتقديره.
فإذا اتفق العمال على ما يلجئون به أرباب الأموال إلى موافاة رغبتهم حدث ما يسمى بالاعتصاب فيتفق العمال على تعطيل الأعمال حتى يلجئوا أرباب الأموال إلى إجابة مطالبهم، ولرب المال أن يصير حتى يلدغ الجوع عماله فيرضوا بما يريد، وللعمال أن يصبروا حتى يضطر الخسران رب المال إلى إجابتهم فيما يطلبون، ولكل منهم أن يتفق مع الآخر في تحكيم محكمين يذعن الفريقان لحكمهم بعد استيفاء شرائط التحكيم، ولا يلزم أحد الفريقين بأن يحكم أحداً أو لا يحكم). إنما يوجد في أصول الأحكام الإسلامية أن القيام بالصناعات الضرورية لقوام المعيشة أو للدفاع عن حوزتها فإذا تعطلت الصناعات وجب على القائم بأمر الأمة أن يتخذ السبيل إلى إقامتها بما يرفع الضرورة والحرج عن الناس، وكذلك إذا تحكم باعة الأقوات ورفعوا أثمانها إلى حد فاحش وجب على الحاكم في كثير من المذاهب الإسلامية أن يضع حداً للأثمان التي تباع بها). (وهكذا يدخل الحاكم في شؤون الخاصة وأعمالهم إذا خشي الضرر العام في شيء من تصرفهم.
فإذا تعصب العمال في بلد وأضربوا عن الاشتغال في عمل تكون ثمرته من ضروريات المعيشة فيه، وكان ترك العمل يفضي إلى شمول الضرر كان للحاكم أن يتدخل في الأمر وينظر بما خوّل له من رعاية المصالح العامة.
فإذا وجد الحق في جانب العمال وإن ما يكلفون به من قبل أرباب الأموال مما لا يستطاع عادة ألزم الأموال بالرفق سواء كان بالزيادة في الأجرة أو النقص في مدة العمل أو بهما جميعاً.
وإذا رأى الحق من جانب أرباب الأموال وكان النزق من العمال قضى عليهم بالعمل كما يقضي على المغالين في ثمن الأقوات بالبيع بالثمن متى ظهر فحش عملهم وظلمهم للعامة.
هذا ولا يعرف في الشرع الإسلامي أيجاب التحكيم بين العامل ورب المال إلا أن يكون شيء لم نطلع عليه). (نعم جاء وجوب التحكيم في كثير من المذاهب الإسلامية في مسألة واحدة، وهي مسألة الشقاق بين الزوجين إذا رفع إلى القاضي.
فقال الشافعية (إذا اشتد شقاق بينهما (الزوجين) بأن داما على التساب والتضارب وجب على القاضي أن يبعث حكمين، لكل منهما حكم يرضاه ويسن أن يكون الحكمان من أهل الزوجين) وقال المالكية (ذا ظهر ظلم أحد الزوجين للآخر وجب ردع الظالم، فإذا شكل الأمر على القاضي ولم يعرف أيهما الظالم وجب عليه أن يبعث بالحكمين على نحو ما عند الشافعية) وجعل الحنفية ذلك حقاً من حقوق الحاكم يعمل به إذا اشتد النزاع بين الزوجين ورفع إليه الأمر.
والأصل في ذلك قوله تعالى في سورة النساء (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهلها أن يريد إصلاحاً يوفق الله بينهما) فالذي يظهر من لفظ الآية إيجاب التحكيم على أولي الأمر إذا رفع إليهم نزاع بين زوجين أو هو إيجاب للتحكيم على من بلغه الأمر من الحاكم أو جماعة المسلمين، فإن الخطاب في قوله (وإن خفتم) للمسلمين سواء كانوا أولي أمر أو غيرهم وذلك لأن الزوجين قد ارتبطا برباط عقد الزواج ووحد بينهما من الصلة ما يهتم بالحرص عليه ووجد بين أهلهما من وشائج القرابة بالمصاهرة ما لا يصح التساهل في توهينه وتقطع ما اتصل به، ولهذا أمر الله تعالى عباده متى أحسوا بشقاق بين الزوجين وهو النزاع الشديد أن يختاروا من أهل الزوجين حكمين حكما من أهل الزوج يرضاه وحكما من أهل الزوجة وحكما من أهل الزوجة ترضاه ليبحث كل مع صاحبه ويقف على أسباب النزاع وما عساه يكون من أسرار لا يقف عليها القاضي ولا أعوانه، وعلى الحكمين أن يبذلا ما في وسعهما للتوفيق بين الزوجين المتنازعين وإلزام كل منهما بما يريانه لازماً في صلاح العشرة بينهما وحاسماً للنزاع فيما يستقبل من أمرهما فإذا لم يجدا سبيلاً إلى الوفاق بعد بذل ما في طاقتهما فلهما أن يقضيا بالطلاق في بعض المذاهب على طريقة معينه إذا رأيا المصلحة فيه، وبعض المذاهب لا يعطيهما الحق بل ينتهي عملهما بالعجز عن التوفيق بين الزوجين.
وعلى كل حال فإيجاب التحكيم في أمر الزوجين معقول فإن ما يقع بينهما لو لم يصلح بنحو هذه الطريقة أفضى إلى فساد في البيوت بين الأولاد والأقارب، ومثل هذا الفساد مما يسرى وينتشر حتى يؤذي الأمة بتمامها في صلاتها بعضها مع بعض كما شوهد ذلك عند إهمال هذا الحكم الجليل من زمن طويل كأنه لم يرد في التنزيل.
فإذا كان ذلك الكاتب الفرنسي يعني هذا الأصل ويشير إليه ويريد أن يقتبس به ما يقع بين العملة فذلك رأيه وحده والسلام. 14 رجب 1323 محمد عبده مفتي الديار المصرية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣