طوب قابي سراي: في هذا المتحف يتباهى التاريخ

  • كتبه: مجدي إبراهيم علي
  • شـوهــد: 13
مدة قراءة الترجمة : 15 دقائق .

طوب قابي سراي

في هذا المتحف يتباهى التاريخ

♦ أمانات الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قاعة العرش.

♦ طوب قابي سراي يلخِّص عظمة وتاريخ سلاطين بني عثمان.

•  •  •  •  •

يعتبر "طوب قابي" من أشهر معالم أسطنبول السياحية، ويستطيع السائح بقليل من اللِّيرات التوَغُّل في عالَمٍ كان سِرَّ الأسرار ذات يوم، ومقرِّرَ الحُكْم، ومهج الحريم، مكانٍ كانت منه تنطلق تلك القراراتُ التي كان مِن شأنِ بعضها أن يغيِّر سياسة العالَم.

 

وعلى رغم أن أسطنبول تعدُّ واحدةً من أجمل مدن العالم، وعلى رغم أن ما يَصنع جمال أسطنبول إنما هو قصورها ومَعالمها التاريخية - ولا سيما مساجدها الرائعة - فإن طوب كابي يكاد وحده أن يلخِّص عظمة وتاريخ سلاطين بني عثمان، وعلى الأقل منذ البداية وحتى العام 1853، حين قرر السلطان عبد المجيد أن ينقل مركز الحكم إلى قصر "دولمابهجة" الجديد.

 

قبل ذلك، ومنذ محمد الثاني حتى عبد المجيد، ظل سلاطين بني عثمان جميعًا يُقِيمون في "طوب كابي سراي" ومنه يحكمون إمبراطوريتهم الفسيحة، حتى توسع، وامتلأ بالتحف والذكريات ما جعله أشبه بتاريخ تلك الإمبراطورية الحافل.

 

طوب قابي = باب المدفع:

وكان طوب كابي في الأصل مجرَّدَ باب من أبواب أسطنبول، يُطِلُّ على بحر مرمرة، وسَطَ السور الذي كان يَحمي المدينة، وعند ذلك الباب كان العثمانيون الأوائل قد نصبوا مِدفعًا، ولأن المدفع في التركية يعني "طوب"؛ كان من الطبيعي أن يُطلَق على ذلك الباب اسم طوب كابي "باب المدفع".

 

وكانت البداية حين أَنشأ أحمد الثالث (1730 - 1730) وراء ذلك الباب قصرًا صيفيًّا، وهو القصر نفسه الذي دمَّره حريق هائلٌ في العام 1843، ومنذ أحمد الثالث راحت مباني القصر الحاليِّ تتزايد.

 

وقد أنشئ معظمها في المكان الذي كان يشغله أكوبول (بيزنطة القديمة) على واحدةٍ مِن أجمل تلال أسطنبول السبع، وكانت هذه التلة - أصلاً - مغطَّاةً بأشجار الزيتون، ومن هنا لا يزال يطلَقُ على المنطقة حتى اليوم اسم الزيتونة - زيتونات.

 

وروعة المنطقة الأساسية تكمن في أن التلة تطل - في الوقت نفسه - على بحر مرمرة، كما على "قرن الذهب".

 

واليومَ تبلغ المساحة الإجمالية للقصر 70 ألف متر مربع، وهو مُحَاط بأسوار يبلغ طولها 1400 متر، بُني معظمها في العام 1478 حيث التقت بالأسوار البيزنطية القديمة التي كانت تحمي المدينة.

 

وإمعانًا في الحماية؛ أُقيمت على طول الأسوار أبراجُ مراقبةٍ قائمة حتى اليوم، ولكن إذا كانت مباني القصر قد ازدادت عددًا وروعةً مع مرور القرون فنًّا، كانت أيضًا تُدَمَّر وتزول في فترات أخرى، بحيث إنَّه في عصر محمد الثاني لم يكن قد تبقى من آثار القصر سوى الجناح المسمى "تشينلي كيوسك"، القائم أصلاً خارج مساحة القصر، في مواجهةِ مَا يُسمَّى اليوم بالمتحف الأركيولوجي، الذي بات يشكِّل جزءًا منه.

 

أما طوب كابي في شكله الحاليِّ، فيتألَّفُ مِن سلسلة من المباني المستقلة عن بعضها البعض: مساكن، أجنحة، صالات استقبال، مكتبات، حمامات، مطابخ، مخازن، مساجد.
.
.

وهي موزَّعة من حول أفناء واسعة، تَوَاصل بِنَاؤُها حتى أوساط القرن التاسع عشر.

 

أما المدخل الرئيس، فهو عبر الباب المسمى "باب همايون"، والذي عرَفه العالَمُ كلُّه باسْم الباب العالي، وهو يفتح خلف أيا صوفيا، الكنيسة البيزنطية التي حوَّلها محمد الثاني إلى مسجد، ثم حولها مصطفى كمال إلى متحف للفنِّ البيزنطي.

 

وفي مواجهة الباب العالي توجد نافورة أحمد الثالث، التي بُنِيت بأسلوب يجمع بين عظمة الأسلوب العثماني وفن الروكوكو الأوروبي، والفناء الذي أقيمت منه النافورة تعلوه خمس قباب، وهو يُفضي إلى ساحة الأسلحة التي تفصل بين الباب العالي والباب المركزي.

 

والعابر من الفناء الثاني يجد نفسه وقد دخل المباني الأساسية التي يتألف منها القصر، وأهمها صالة المجلس التي يُفترض أن يكون المعماريُّ العثمانيُّ سنان هو الذي صممها، أو على الأقل صمَّم نسختَها القديمة التي دمَّرها حريقٌ في العام 1665، ثم أعيد بناؤها أيام أحمد الثالث، زُوِّدت بثلاث قباب، ما جعلها تحمل اسم "كوبيالتي"؛ أي: تحت القباب.

 

ويعلو تلك الصالةَ برج "بويوك كول" الذي يمكن مشاهدته من أي زاوية من زوايا القصر، وفي تلك الصالة كان السلاطين يستقبلون سفراء الدول الأجنبية.

 

الفناء الثالث لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المرور بباب "السعادة كابوسي" الذي كان من أشهر أبواب القصر، وكان الخصيان يقومون على حراسته، وخلف ذلك الباب كان يقوم "القصر الداخلي" المعروف باسم "أندرن"، وهو مؤلَّف مِن الأجنحة الخاصة بالسلطان.

 

ومعظم الاحتفالات كانت تُقام أمام باب السعادة، وعند مدخل الأندرن، حيث توجد مكتبة أحمد الثالث وجناح الخصيان البيض وصالات الكنوز.

 

على أن الجناح الذي يجذب أكبر عدد من الزوار هو الذي يقع مختبئًا خلف هذه الأجنحة؛ كجناح الحريم الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عبر المرور بالباب المسمى "عربة قابيسي"؛ أي: باب العربات، وهو يقع في الفناء الثاني أصلاً غيرَ بعيد عن صالة المجلس.

 

ويَلمح الزائرُ للقصر الثيابَ والمجوهرات والأسلحة الكتب والمخطوطات واللوحات وقطع الأثاث والأواني.

 

إذا أراد الزائر أن يلمح آثار الشرق وسحره، فحَسْبُه أن يتجوَّل بين المخطوطات العربية والفارسية، أو ينظر إلى قفطان بايزيد الثاني الذي يعتبر باللَّون الأرجواني والخيوط الذهبية، وعشرات الأحجار الكريمة التي ترصعه مِن أقدم وأجمل القطع التي يضمها متحف طوب كابي.

 

وفي زاوية ثانية كرسِيُّ عرش إسماعيل شاه أحد غنائم الحروب العثمانية في الند المغولية، ويوجد إبريق ماء من الذهب الخالص المرصع بعشرات الجواهر، والذي يُعدُّ من مفاخر صناعة الذهب التركية في القرن السابع عشر، وجواهر وخناجر ساحرة.

 

أقسام المتحف

قاعات المطابخ:

خرطومية الشكل، تتكون من عشر قباب، فيها: المطابخ، وجامع الطباخين، وجامع الحلوانيين، ورَدْهَات الطبخ والحمامات.
.
.

تُعرض فيها الأدوات الفخارية - الصينية واليابانية والتركية - من عهود مختلفة، والأدوات المعروضة عبارة عن مَرايا أطباق وصحون ومَعالق وشوك وأوانٍ نحاسية وزجاجية.

 

قاعات الملابس:

تعرض فيها ملابس 29 سلطانًا، بدءًا من عند الفاتح 453م حتى السلطان عبد المجيد، وملابس السلاطين وأحذيتهم.

 

قاعات الخزينة:

تتكون من أربع غرف واسعة تعرض أثمن ممتلكات سلاطين بني عثمان؛ مِن محافظ مطعَّمة بالألماس والشمعدان، وصناديق، وسيوف، ومباخر، وأباريق، وخناجر.

 

قاعات رسوم السلاطين والمخطوطات:

تتكون من طابقين لعرض نماذج المخطوطات - عربيةً وفارسيةً وتركيةً - منمنمةً، ونماذج لمصاحفَ مخطوطةٍ يعود بعضها إلى القرن الرابع الهجري، بالإضافة إلى أدوات الكتابة من أقلام ريش وأحبار، ورسوم لمجلِّدي الكتب وتذهيبها، وصور لسلاطين بني عثمان.

 

قاعات الساعات:

تتميز بعرض نماذج كثيرة لجميع أنواع الساعات النادرة، وهذه القاعة تمثل بعرض مادة مهمة لمن يؤرخ لتاريخ اختراع الساعات.

 

قاعات السرادق البغدادي وقسم الإنكشارية:

أجمل أقسام المتحف بقاعاته الرخامية والمرمرية، وحدائقه، وصالوناته، وفي هذه القاعات كان السلاطين ينشدون الراحة والاستجمام.

 

قاعات الحريم:

عبارة عن مبانٍ فخمة، وصالونات مذَهَّبة، وقاعات لجلوس السلاطين (قاعات العرض، ونافورات مائية، وقاعات الطرب، والحمامات).

 

وتبلغ الفنون الزخرفية قمَّتَها، ويتناهى الإبداع في تزيين السقوف والشبابيك والأَسِرَّة، في تلك الفِرَق المخصَّصة لنوم السلطان مع إحدى زوجاته، والتي غالبًا ما تُزيَّن باللوحات الزيتية الرائعة التصوير والتلوين.

 

قاعات الأمانات المقدسة:

أَمر السلطان محمدٌ الفاتح بإنشاء جناح الأمانات المقدَّسة بين عامي 1474 - 1478م في القصر طوب قابي، وقد زدات الأتمام بجمع الأمانات بعد فتح مصر على يدي السلطان سليم في عام 1517 بعد أن توافرت عديدةً مع اتساع وامتداد الإمبراطورية على الأرض وفي الزمن.

 

كان السلطان أحمد الأول 1603 - 1617 هو أوَّلَ من فكَّر، ووضع الصندوق الذي يحتوي على بردة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق كرسي العرش؛ متبرِّكًا بها.

 

وهكذا ظل الحال حتى غادر السلطان محمود الثاني 1808 - 1839 قصر طوبي كابي نائيًا، وأمر بتخصيص القصر بالكامل ليكون متحفًا لحفظ الأمانات المقدسة.

 

في الزاوية اليسرى من الغرفة الخاصة - غرفة العرش سابقًا - توجد شبكة الأمانات المقدسة التي صُنعت بأمر السلطان.
.

احتلت أمانات الرسل عرش الإمبراطورية، وغرفَةَ الحكْم التي كانت تُدار منها مصاير شعوب ودول عديدة.

 

في هذه الشبكة يوجد صندوق من الذهب منقوش بالآيات القرآنية والزخارف البديعة، أَمر بصنعه السلطان عبدالعزيز 1861 - 1876 كوعاء يحفظ فيه صندوق أصغر - مِن الذهب أيضًا - هو الذي يضم بداخله البردةَ النبوية الشريفة، أما البردة نفسها فقد وُضعت في بقجة من الحرير مطرَّزة رائعة.

 

هذه البردة هي التي أهداها النبي للشاعر كعب بن زهير، بعد أن ألقى في حضرة الرسول قصيدته الميمية الشهيرة؛ سميت لذلك بقصيدة البردة.

 

وانتقلت البردة من الأمين بعد زوال ملكهم إلى العباسيين، ثم انتقلت إلى مصر مع آخر الخلفاء العباسيين.

 

وعندما فتح السلطان سليم مصرَ تسَلَّم البردة النبوية في العاشر من فبراير 1517م مع باقي الأمانات المقدسة، وحُمِلا معه جميعًا إلى قصر طوب كابي.

 

ومن الأمانات أيضًا العَلَمُ النبوي الشريف، الذي يُحفظ داخل صندوق من الذهب.

 

أما رسالة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي بعث بها إلى المقوقس مَلِك القبط سنة 627م، فقد أمر السلطان عبد المجيد بحفظها داخل إطار مِن الذهب، وصنع لها أيضًا صندوقًا من الذهب المزخرف بحليات رائعة، وقد كتبت الريالة على الجلد تلتَفُّ من وسطها، وقد وضع إلى جانبها لوحة كتب عليها نص الرسالة.

 

وتتضمن الأمانات المقدسة 21 سيفًا من سيوف الخلفاء الصحابة، في مقدمتها سَيفان للنبي محمد، موضوعان على حشية من المخمل الأزرق، فوق صندوق من الفضة المزخرفة.

 

السيف الموجود في المقدمة أمَر السلطان أحمد الأول بصنع غمده وقبضته من الذهب الخالص، وتم ترصيعه بالأحجار الكريمة، كما أمر بإعادة صنع السيف الثاني على نفس الطراز، وقد تم إصلاح أغمادٍ وقبضاتٍ ونصالٍ لمعْظَم السيوف في عهود السلاطين العثمانيين، كما غُلِّفَت بالمعادن الثمينة، ورُصِّعَت بالأحجار الكريمة.

 

وهناك أيضًا خاتم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المصنوع من حجر العقيق، وهو بيضاوي الشكل، في حجم فص خاتم كبير، منقوش عليه عبارة "محمد رسول الله".

 

وهناك جزء من سن من أسنان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بقج مرصعة، داخل محفظة على شكل علبة فضية مزخرفة، وهي السن التي انكسرت أثناء موقعة أحد، وهناك العلبة التي يحتفظ فيها بشعرة من اللحية النبوية الشريفة، وهي مصنوعة من الزجاج، وحولها إطار من الذهب، ويتم وضعها في علبة فضية مزخرفة.

 

ومن بين الأمانات المقدسة هذا المصحف الشريف، المخطوط على جلد غزال، كان سيدنا عثمان يتلو فيه عندما استُشهد في بيته، ويلاحظ أنه ملطخ بالدماء.

 

وتوجد بعض العلب الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة، والتي تحتوي على تراب جُلِب من ضريح النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

وإلى جانب أمانات الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - تَجد بعضَ الأمانات الخاصة بالكعبة المشرفة، فيوجد مفتاحا الكعبة والقفل، وكلٌّ من الفضة، وكذلك توجد ستارتان مأخوذتان من عطاء الكعبة، وتزيِّنان جدران الغرفة الخاصة، وعليها نجد آياتٍ قرآنية.

 

وللحجر الأسود محفظة من الذهب الخالص، داخل خزانة بلورية، موجودة في غرفة كان السلطان يوزع فيها الهدايا على زائريه ليلة نصف رمضان، بعد زيارته للبردة الشريفة.

 

وهناك مزاريب في غرفة السعادة صنعت الكعبة، منها مزراب صنع من الفضة والذهب بأمر من السلطان سليمان القانوني 1520 - 1566، وهناك مزراب صنع بأمر السلطان أحمد الأول، ومحفظة فضية أمر بصنعها السلطان المراد الرابع؛ ليوضع فيها المزراب الفضي الذي صُنع بأمر السلطان سليمان القانوني، وتوجد على المحفظة آيات قرآنية.

 

وهناك سيوف تنسب إلى كل من: داود، أبي بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، زين العابدين، الزبير بن العوام، أبي الحسن، جعفر الطيار، خالد بن الوليد، وعمار بن ياسر - رضي الله عنهم.

 

وهناك مِن بين مقتنيات المتحف طَنْجَرة، يُقال: أنها لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - وعَصًا تُنسب إلى سيدنا موسى - عليه السلام - وهناك جزء (عم) الذي كتبه السلطان العثماني عبد المجيد.

 

وهناك بالمتحف حجر عليه أثر القدم الشريفة، والسجادة النبوية، والقوس النبوي، وماء الغسل النبوي، وقميص يوسف - عليه السلام.

 

حقيقة أن تركيا مليئة بعشرات المتاحف ودور الآثار، ولكن متحف طوب كابي يقف في مقدمتها، بما حواه من مقتنيات تُنافِس أشهر المتاحف العالمية، بل وتتفوق عليها.

 

وكفى الزائرَ لأمانات الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يشعر أنه في حضرةِ نورٍ ورُوحٍ سامقة، تقود إلى الصفاء والمحبة.