ابحث في الأعلام
طالوت القائد
طالوت القائد
اصطفى الله جل جلاله طالوت ملكًا على بني إسرائيل، وجاء الاصطفاء يوم طلب بنو إسرائيل من أحد أنبيائهم أن يُعيِّن لهم مَلِكًا يقاتلون تحت لوائه ضدَّ أعدائهم الذين اعتدوا عليهم، وبالغوا في إيذائهم؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 246]، وقد فعلوا ذلك؛ لأن بني إسرائيل كانت تَسُوسُهم أنبياؤهم، فأنبياء بني إسرائيل هم مَن يملك السلطة في تعيين القادة والملوك بأمرٍ من الله جل جلاله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كانت بنو إسرائيل تَسُوسُهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبيَّ بعدي، وسيكون خلفاءُ فيكثرون)) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببَيْعَةِ الأول فالأول، أعطوهم حقَّهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم))[1].
فجاء قرار تعيين طالوت ملكًا على بني إسرائيل بأمر إلهي بلَّغهم به نبيُّهم عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً ﴾ [البقرة: 247].
لقد جاء اعتراض بني إسرائيل - وهو دأبهم - على أن يكون طالوت ملكًا عليهم في مسألتين، كانوا يرونهما حقًّا، ولهما تبريرهما المنطقي من وجهة نظرهم، وهما في الواقع ليستا كذلك، وهما:
الأولى: أنهم يعتقدون أن الملك في بني إسرائيل كان مقتصرًا على أولاد يهوذا بن يعقوب عليه السلام حصرًا؛ فلهذا قالوا: ﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾ [البقرة: 247]، ففنَّد الله جل جلاله هذه القضية؛ لأن طالوت من عامة بني إسرائيل، وفي هذا الأمر دلالة على:
• أن الجرأة على تسمية مَن يقود الأمة من عائلة معينة، أو فصيلة ما، أو قبيلة ما - في ذلك تعدٍّ على الله جل جلاله؛ ذلك أن الله جل جلاله هو مَن خلق الخلق، وهو أعلم مَنْ مِنَ العائلات أو الأفراد أو العروق من يكون مؤهَّلاً لقيادة الناس، فإذا جاء الأمر الربّاني في أن تُحدَّد قومية، أو فئة، أو عائلة لتقود الناس، فعلى العين والرأس، ووجب الالتزام بذلك، ولكن حين يتطاول من يُسمِّي عائلةً بعينها، يخصِّص منها قادة الناس، فذلك أمر مرفوض وليس له أي اعتبار، وإنما يكون التعيين وَفْقَ الكفاءة والخبرة والملاءمة.
• أحقية جمهور الأمة في مناقشة تعيين قائدهم، وأسباب اختياره من غير أن يتعرضوا للمُساءَلة، أو التضييق أو العقوبة، واعتبار ذلك من الحريات الشخصية.
• في حالة وقوع الاختيار على القائد بطريقة شرعية أو قانونية أو عرفية، وجب على جميع الرعية - حتى المعارضين له منهم - أن ينصاعوا لأمره، ويسيروا تحت لوائه، لا أن يَعملَ المُعارِضُ ضدَّ عمل ورغبة الفريق، ويحاول بشتى الطرق وضع العصا في عجلة المسيرة؛ من أجل إفشال التجربة؛ لأن في ذلك ضررًا عليه شخصيًّا، ومن ثَمَّ على الجماعة.
الثانية: لم يكن طالوت من أصحاب رؤوس الأموال، وكان بنو إسرائيل يرون أن المَلِك ينبغي أن يكون ثريًّا، وقد جاء ذلك في قولهم: ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ [البقرة: 247].
ومن خلال ذلك نجد أن بني إسرائيل كانوا يعرفون معلومات كاملة عن قائدهم الجديد، فهم يعرفون أصله، وهذا يدل على أنهم يعرفون أهله وعائلته أيضًا، وحالته المالية، وهذا أيضًا يدلُّ على أنهم يعرفون طبيعة عمله، وحجم ما يمتلك من المال، ومن ثم هو أمر من الأهمية بمكان، أن يعرف الناس الكثير عن قائدهم، حتى تُتاح لهم الفرصة الكاملة في تقويمه، وإنزاله منزلته المناسبة.
ما تحتاج الرعية معرفته عن قائدها:
• طبيعة شخصيته وقدراته ومهاراته.
• تاريخه الشخصي، وكذلك تاريخ عائلته.
• طبيعة علاقاته مع الآخرين قبل أن يكون قائدًا.
• إنجازاته السابقة، ونجاحاته أو إخفاقاته في شتى المجالات.
• خبرته وإمكانياته الفنية أو التخصصية.
• قابليتُه للإبداع والتطوير في مجال القيادة.
وإن الله تعالى قد وصف طالوت بصفات من صفات القيادة الإيجابية، هي:
1- الزيادة في العلم، وهي كما ذكرنا صفة قيادية مهمة وأساسية، وينبغي ألا تفارق القائد الذي يطمح أن يكون إيجابيًّا وناجحًا، فالقائد الجاهل يكون وبالاً على نفسه، وعلى من يقودهم.
2- الزيادة في الجسم، صفة في عموم صفات القائد الإيجابي، هي ليست صفة أساسية، أو رئيسة؛ إنما هي صفة شكلية، ولكنها جاءت هنا تخصيصًا لطالوت، وكانت أساسية له؛ لأن بني إسرائيل في الأصل حين طلبوا ملكًا عليهم حدَّدوا علةَ طلبهم، وسمَّوا الوظيفة الأساسية التي يريدون أن يضطلع بها ذلك الملك، وهي قتال الأعداء، وأنهم يرغبون أن يقاتلوا تحت لوائه، وفي قتال الأعداء يكون من الأفضل أن يكون القائد عظيمَ الجسم؛ حتى إذا رآه الأعداء هابوه، وتزعزعت الثقة في نفوسهم.
3- اختبار الأتباع: وكان طالوت قد شرع في ممارسة مهام القيادة، ثم مارس صلاحياتها، فعرَّض من معه من جنوده للاختبار؛ ليعرف مَن يلتزم بتعليماته ممن هو ليس كذلك، ومن حق القائد أن يميز الخبيث من الطيب، والصادق من المُدِّعي، والجادَّ من اللاهي من رعيته، باختبارهم بشكل مباشر أو غير مباشر، وبشكل معلن أو خفي؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين ﴾ [البقرة: 249].
فمن حق القائد؛ بل من واجباته: أن يختبر أتباعه؛ لمعرفة درجة الولاء لقضيتهم وله شخصيًّا، ويُفضَّل ألا يكون الاختبار بمرحلة واحدة، بل أن يكون بمراحل؛ لمعرفة المزيد من قوة وصدق إرادة الأتباع، وتعيين مراتبهم.
ومما تجدر الإشارة إليه أن اختبار القائد للأفراد ينبغي أن يتصف بما يأتي:
• ألا يكون الاختبار تعجيزيًّا؛ فإن اختبار طالوت لجنوده كان على مراتب، فإنه في بداية الأمر نهاهم عن الشرب بالكامل، ثم خفَّف شيئًا قليلاً لهم؛ حتى لا يسود شعور بأنه يعاقبهم أو ينتقم منهم، أو أنه يختبرهم اختبارًا تعجيزيًّا، فاستثنى مَن يشرب بأن يغترف غرفة واحدة بيده، فكان حالهم بعد الاختبار على درجات إيمانهم بقضيتهم وولائهم لقائدهم، فمن شرب شربًا كثيرًا، فإنه بقي عطشانَ وَلْهانَ لا يشبع من ماء، وقد فَشِل في الاختبار، وأما من أخذ بالرخصة، وغرف غرفة واحدة، فقد كَفَتْه تلك الشَّرْبة القليلة، فارتوى بها، وكانت كافية له، وأما من لم يشرب على الإطلاق فكان أفضل الثلاثة.
• ألا يكون الاختبار من أجل إسقاط الأتباع؛ لأسباب لا عَلاقة لها بالاختبار، بمعنى أن يكون للاختبار هدفٌ لمصلحة الجماعة، فلا يكون عشوائيًّا.
• اختيار التوقيت المناسب للاختبار، فيكون الاختبار قريبًا من الحدث الذي يقع الاختبار من أجله، وهكذا فعل طالوت، فلو كانت هناك فسحةٌ زمنية بين الاختبار والحدث لما تحصَّل المقصد منه، وذلك بسبب التغيير الذي يقع في صفات الرعية بعد الاختبار، ولاحتاجوا إلى اختبار آخرَ مرة أخرى قبل الحدث.
• يُفضَّل أن يكون من جنس العمل الذي يقوم به الأتباع، ففي قصة طالوت نجد أن الاختبار حصل في الصبر على الامتناع من شرب الماء، فيحتاج الأتباع أن يصبروا لينجحوا في الاختبار، ذلك أنهم قادمون على عمل كبير يحتاج إلى صبر كبير وجميل، أَلَا وهو الجهاد، فكيف سيصبر على الجهاد من لا يستطيع أن يصبر على شربة ماء.
• كما يمكن أن يكون الاختبار من أجل إثارة مَكامِن القوة والإبداع في النفوس؛ وذلك من أجل الاستمرار بالجهد والبذل من قبلهم.
القائد الإيجابي لا يتأثَّر حينَ يتساقَطُ بعض الأتباع، ويفشلون في الاختبارات، ولا تتزعزع الثقة بنفسه، ولا بمن بَقِي من الأتباع، ولا يصيبه اليأس؛ لأنه إنما يبحث عن النوعية في الأتباع وليس الكَميَّة، وإنَّ درجة الثقة بالأتباع تكون على أساس درجة نجاحهم في تلك الاختبارات؛ لذلك حين فشل الكثير من أتباع القائد طالوت، وشرب الأكثرية من النهر، ولم يتبقَّ معه إلا الأقلية، استمرَّ في طريقه بهؤلاء المخلصين، وكتب الله جل جلاله لهم النصر بالرغم من قلتهم.
[1] صحيح البخاري - كتاب أحاديث الأنبياء - باب: ما ذكر عن بني إسرائيل.