لم يكتف المأمون باعتناق مسألة القول بخلق القرآن، بل كتب إلى عماله في الأمصار بامتحان العلماء في هذه المسألة من أجاب وإلا كان العقاب، وربما بطانته من العلماء كانوا وراء هذا الامتحان، فكتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وأن يرسل إليه جماعة منهم، وكتب إليه يستحثه في كتاب مطول، وكتب غيره مضمونها الاحتجاج على أن القرآن محدث، وكل محدث مخلوق، وهذا احتجاج لا يوافقه عليه كثير من المتكلمين فضلا عن المحدثين؛ فإن القائلين بأن الله تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية لا يقولون بأن فعله تعالى القائم بذاته المقدسة، مخلوق، بل لم يكن مخلوقا، بل يقولون: هو محدث وليس بمخلوق، بل هو كلام الله القائم بذاته المقدسة، وما كان قائما بذاته لا يكون مخلوقا، وقد قال الله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}، وقال تعالى، {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) فالأمر بالسجود صدر منه بعد خلق آدم، فالكلام القائم بالذات ليس مخلوقا، والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس، وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فبعث بهم إلى المأمون في الرقة، فامتحنهم بخلق القرآن، فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء، ففعل إسحاق ذلك وأحضر خلقا من مشايخ الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، فدعاهم إلى ذلك عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك، فأجابوا بمثل جواب أولئك موافقة لهم، ووقعت بين الناس فتنة عظيمة.

ثم كتب المأمون إلى إسحاق أيضا بكتاب ثان يستدل به على القول بخلق القرآن بشبه من الدلائل لا تحقيق تحتها ولا حاصل لها، بل هي من المتشابه، وأورد من القرآن آيات هي حجة عليه، وأمر نائبه أن يقرأ ذلك على الناس وأن يدعوهم إليه وإلى القول بخلق القرآن، فأحضر أبو إسحاق جماعة من الأئمة؛ منهم قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، ومقاتل، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وعلي بن الجعد، وغيرهم، وقال لبشر: ما تقول في القرآن؟ قال: القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء، قال: والقرآن شيء؟ قال: نعم، قال: أمخلوق هو؟ قال: ليس بخالق، قال: ليس عن هذا أسألك، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك.

قال إسحاق للكاتب: اكتب ما قال، ثم سأل غيره وغيره ويجيبون بنحو جواب بشر.

من أنه يقال: لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، فيقول: نعم، كما قال بشر.

ثم سأل قتيبة، وعبيد الله بن محمد، وعبد المنعم بن إدريس بن نبت، ووهب بن منبه وجماعة، فأجابوا أن القرآن مجعول؛ لقوله تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا} والقرآن محدث لقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}.

قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قالوا: لا نقول مخلوق، لكن مجعول.

فكتب مقالتهم ومقالة غيرهم إلى المأمون.


بعد أن أحضر إسحاق بن إبراهيم العلماء والمحدثين لامتحانهم، كان من بينهم الإمام أحمد، ومحمد بن نوح، وغيرهم كثير، ولما انتهت النوبة إلى امتحان الإمام أحمد بن حنبل، قال له: أتقول إن القرآن مخلوق؟ فقال: القرآن كلام الله، لا أزيد على هذا، فقال له: ما تقول في هذه الرقعة؟ بالرقعة التي وافق عليها قاضي القضاة بشر بن الوليد الكندي، فقال: أقول: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فقال رجل من المعتزلة: إنه يقول: سميع بأذن، بصير بعين! فقال له إسحاق: ما أردت بقولك: سميع بصير؟ فقال: أردت منها ما أراده الله منها؛ وهو كما وصف نفسه، ولا أزيد على ذلك.

فكتب جوابات القوم رجلا رجلا وبعث بها إلى المأمون، فلما وصلت جوابات القوم إلى المأمون، بعث إلى نائبه يمدحه على ذلك ويرد على كل فرد ما قال في كتاب أرسله.

وأمر نائبه أن يمتحنهم أيضا فمن أجاب منهم شهر أمره في الناس، ومن لم يجب منهم فابعثه إلى عسكر أمير المؤمنين مقيدا محتفظا به حتى يصل إلى أمير المؤمنين فيرى فيه رأيه، ومن رأيه أن يضرب عنق من لم يقل بقوله.

فعند ذلك عقد النائب ببغداد مجلسا آخر وأحضر أولئك، وفيهم إبراهيم بن المهدي، وكان صاحبا لبشر بن الوليد الكندي، وقد نص المأمون على قتلهما إن لم يجيبا على الفور، فلما امتحنهم إسحاق أجابوا كلهم مكرهين متأولين قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} إلا أربعة، وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والحسن بن حماد سجادة، وعبيد الله بن عمر القواريري.

فقيدهم وأرصدهم ليبعث بهم إلى المأمون، ثم استدعى بهم في اليوم الثاني فامتحنهم فأجاب سجادة إلى القول بذلك فأطلق.

ثم امتحنهم في اليوم الثالث فأجاب القواريري إلى ذلك فأطلق قيده، وأخر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجند؛ لأنهما أصرا على الامتناع من القول بذلك، فأكد قيودهما وجمعهما في الحديد، وبعث بهما إلى الخليفة وهو بطرسوس، وكتب كتابا بإرسالهما إليه.

فسارا مقيدين في محارة على جمل متعادلين- رضي الله عنهما- وجعل الإمام أحمد يدعو الله عز وجل ألا يجمع بينهما وبين المأمون، وألا يرياه ولا يراهما، ثم جاء كتاب المأمون إلى نائبه أنه قد بلغني أن القوم إنما أجابوا مكرهين متأولين قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} وقد أخطؤوا في تأويلهم دلك خطأ كبيرا، فأرسلهم كلهم إلى أمير المؤمنين.

فاستدعاهم إسحاق وألزمهم بالمسير إلى طرسوس فساروا إليها، فلما كانوا ببعض الطريق بلغهم موت المأمون، فردوا إلى الرقة، ثم أذن لهم بالرجوع إلى بغداد، فاستجاب الله سبحانه دعاء عبده ووليه الإمام أحمد بن حنبل.


وجه زيادة الله بن الأغلب، صاحب إفريقية، جيشا لمحاربة فضل بن أبي العنبر بجزيرة شريك، وكان مخالفا لزيادة الله، فاستمد فضل بعبد السلام بن المفرج الربعي، وكان أيضا مخالفا من عهد فتنة منصور الترمذي، فسار إليه، فالتقوا مع عسكر زيادة الله، وجرى بين الطائفتين قتال شديد عند مدينة اليهود بالجزيرة، فقتل عبد السلام، وحمل رأسه إلى زيادة الله، وسار فضل بن أبي العنبر إلى مدينة تونس، فدخلها وامتنع بها، فسير زيادة الله إليه جيشا، فحصروا فضلا بها وضيقوا عليه حتى فتحوها منه، وقتل وقت دخول العسكر كثير من أهلها، وهرب كثير من أهل تونس لما ملكت، ثم آمنهم زيادة الله، فعادوا إليها.


هو بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي، شيخ المعتزلة، وأحد من أضل المأمون، وقد كان هذا الرجل ينظر أولا في شيء من الفقه، وأخذ عن أبي يوسف القاضي، وروى الحديث عنه وعن حماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة وغيرهم، ثم غلب عليه علم الكلام, وقد نهاه الشافعي عن تعلمه وتعاطيه، فلم يقبل منه، وقال الشافعي: "لئن يلقى الله العبد بكل ذنب- ما عدا الشرك- أحب إلي من أن يلقاه بعلم الكلام", فانسلخ المريسي من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن، ودعا إليه حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة، ولم يدرك جهم بن صفوان، بل تلقف مقالاته من أتباعه، وحكيت عنه أقوال شنيعة، وكان مرجئا، وإليه تنسب المريسية من المرجئة، وكان يقول: إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر، وإنما هو علامة للكفر، وكان يناظر الشافعي، وكان لا يحسن النحو، وكان يلحن لحنا فاحشا، وكان أبو زرعة الرازي يقول: "بشر بن غياث: زنديق"، ومناظرة عبدالعزيز الكناني لبشر المريسي مشهورة، وهي المعروفة بالحيدة، ويقال: إن أباه كان يهوديا صباغا بالكوفة، وكان يسكن درب المريسي ببغداد، وتوفي ببغداد.


هو أبو محمد عبدالملك بن هشام بن أيوب المعافري، العلامة النحوي الأخباري، أبو محمد الذهلي السدوسي، وقيل: الحميري المعافري البصري، نزيل مصر، هذب السيرة النبوية لابن إسحاق مصنفها.

سمعها من زياد البكائي صاحب ابن إسحاق, وإنما نسبت إليه، فيقال سيرة ابن هشام؛ لأنه هذبها وزاد فيها ونقص منها، وحرر أماكن، واستدرك أشياء، وكان إماما في اللغة والنحو، وقد كان مقيما بمصر، واجتمع به الشافعي حين وردها، وتناشدا من أشعار العرب شيئا كثيرا.

كانت وفاته بمصر.


وجه المأمون ابنه العباس إلى أرض الروم وأمره بنزول الطوانة وبنائها، وكان قد وجه الفعلة والفروض، فابتدأ البناء وبناها ميلا في ميل، وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب، وبنى على كل باب حصنا.


هو أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور المأمون العباسي.

ولد سنة سبعين ومائة, واسم أمه: مراجل ماتت في نفاسها به.

قرأ العلم والأدب والأخبار، والعقليات وعلوم الأوائل، وأمر بتعريب كتبهم، وبالغ في تعريبها، وعمل الرصد فوق جبل دمشق، ودعا إلى القول بخلق القرآن وامتحن العلماء به.

كان ذا حزم وعزم، ورأي وعقل، وهيبة وحلم، ومحاسنه كثيرة في الجملة.

كان أبيض ربعة حسن الوجه، تعلوه صفرة، قد وخطه الشيب، وكان طويل اللحية أعين ضيق الجبين، على خده شامة.

أتته وفاة أبيه وهو بمرو سائرا لغزو ما وراء النهر، فبويع من قبله لأخيه الأمين، ثم جرت بينهما أمور وخطوب، وبلاء وحروب، إلى أن قتل الأمين، وبايع الناس المأمون في أول سنة ثمان وتسعين ومائة.

كان متشيعا فقد كانت كنيته أبا العباس، فلما استخلف اكتنى بأبي جعفر، واستعمل على العراق الحسن بن سهل، ثم بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضا ونوه بذكره، ونبذ السواد شعار العباسيين، وأبدله بالخضرة شعار العلويين.

مرض المأمون مرضه الذي مات فيه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة، فلما مرض المأمون أمر أن يكتب إلى البلاد الكتب من عبد الله المأمون أمير المؤمنين، وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد؛ وأوصى إلى المعتصم بحضرة ابنه العباس، وبحضرة الفقهاء والقضاة والقواد، ثم بقي مريضا إلى أن توفي قرب طرسوس ثم حمله ابنه العباس، وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفناه بدار خاقان خادم الرشيد، وصلى عليه المعتصم، وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوما.


هو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد، بويع له بالخلافة بعد موت المأمون، ولما بويع له شغب الجند، ونادوا باسم العباس بن المأمون، فأرسل إليه المعتصم، فأحضره فبايعه، ثم خرج العباس إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد؟ قد بايعت عمي، فسكتوا، وأمر المعتصم بخراب ما كان المأمون أمر ببنائه من طوانة، وحمل ما أطاق من السلاح والآلة التي بها وأحرق الباقي، وأعاد الناس الذين بها إلى البلاد التي لهم، ثم ركب المعتصم بالجنود قاصدا بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فدخلها يوم السبت مستهل شهر رمضان في أبهة عظيمة وتجمل تام.


دخل كثير من أهل الجبال، وهمذان، وأصبهان، وماسبذان، وغيرها في دين الخرمية، وتجمعوا فعسكروا في عمل همذان، فوجه إليهم المعتصم العساكر، وكان فيهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وعقد له على الجبال، فسار إليهم، فأوقع بهم في أعمال همذان، فقتل منهم ستين ألفا وهرب الباقون إلى بلد الروم، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية.