كما أصاب الشام طاعون عمواس فقد أصيبت الحجاز بقحط شديد جدا وجفاف عام، وسمي ذلك اليوم بعام الرمادة، حتى طلب عمر الغوث من مصر ومن الشام، فأرسل له عاملاه عليها المؤونة التي خففت عن الناس.


بعد انتصار المسلمين في موقعة عين شمس مكن هذا النصر معسكرات المسلمين من أن تشرف على حصن باب ليون مباشرة من جهته الشمالية والشرقية، وكانت أسوار هذا الحصن تضم مساحة تزيد عن الستين فدانا, ضرب المسلمون حصارا قويا على الحصن المنيع، غير عابئين بمجانيق الروم، تدفعهم حماستهم، وحب الجهاد ونيل الشهادة في مهاجمة الحصن، والقيام بسلسلة من المناوشات التي كانت نتائجها تضعف معنويات المحاصرين، ولم يكد يمضي على الحصار شهر حتى دب اليأس في نفس "المقوقس" حاكم مصر، فأرسل في طلب المفاوضة والصلح، فبعث عمرو بن العاص وفدا من المفاوضين على رأسه عبادة بن الصامت الذي كلف بألا يتجاوز في مفاوضته أمورا ثلاثة يختار الروم واحدة منها، وهي: الدخول في الإسلام، أو قبول دفع الجزية للمسلمين، أو الاحتكام إلى القتال، فلم يقبل الروم العرضين الأولين، وأصروا على مواصلة القتال، وحاول المقوقس أن يعقد صلحا مع عمرو بعد أن تيقن أنه لا قبل له بمواجهة المسلمين، وآثر الصلح وحقن الدماء، واختار أن يدفع الجزية للمسلمين، وكتب شروط الصلح، وأرسلها إلى هرقل إمبراطور الروم للموافقة عليها، وأسرع إلى الإسكندرية مغادرا الحصن، وأردف شروط الصلح برسالة إلى هرقل يعتذر فيها لهرقل عما أقدم عليه من الصلح مع المسلمين، فما كان من هرقل إلا أن أرسل إليه وإلى قادة الروم يعنفهم على تخاذلهم وتهاونهم إزاء المسلمين، ولم يكن لهذا معنى سوى رفض شروط الصلح، استأنف المسلمون القتال وشددوا الحصار بعد فشل الصلح، وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بوفاة هرقل ففت ذلك في عضد الجنود داخل الحصن، وزادهم يأسا على يأس، في الوقت الذي صحت فيه عزائم المسلمين، وقويت معنوياتهم، وفي غمرة الحصار تطوع الزبير بن العوام بتسلق سور الحصن في ظلام الليل، وتمكن بواسطة سلم وضع له أن يصعد إلى أعلى السور، ولم يشعر الروم إلا بتكبيرة الزبير تهز سكون الليل، ولم يلبث أن تبعه المسلمون يتسابقون على الصعود، تسبقهم تكبيراتهم المدوية فتنخلع لها أفئدة الروم التي ملأها اليأس، فكانت تلك التكبيرات أمضى من كل سلاح قابلهم، حتى كان قائد الحصن يعرض الصلح على عمرو ومغادرة الحصن.


لما افتتح المسلمون باب ليون ثم افتتحوا قرى الريف فيما بينها وبين الإسكندرية قرية فقرية، حتى انتهوا إلى بلهيب -قرية يقال لها: الريش- أرسل صاحب الإسكندرية الى عمرو بن العاص: إنني كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم: فارس والروم، فإن أحببت الجزية على أن ترد ما سبيتم من أرضي فعلت.

فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك، ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر، فورد الجواب من عمر: لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تقسم ثم كأنها لم تكن، وأما السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه، فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين، ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأما من تفرق في البلدان فإنا لا نقدر على ردهم.

فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندرية، فأجاب إليه، فجمعوا السبي، واجتمعت النصارى وخيروهم واحدا واحدا، فمن اختار المسلمين كبروا، ومن اختار النصارى نخروا وصار عليه جزية، حتى فرغوا.

وكان من السبي أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن، فاختار الإسلام وصار عريف زبيد.


تجمع الفرس في نهاوند بقيادة ذي الحاجب بعد أن ذهبت أكثر مدنهم، وبقوا فترة على ذلك لعدم سماح عمر رضي الله عنه بالانسياح في فارس، ولكن لما كثر نقض العهود بسبب تقويهم بمن بقي في نهاوند، شاور عمر المسلمين في أمر الفرس المجتمعين في نهاوند، وكان يهم أن يسير بنفسه لملاقاتهم، فأشار عليه علي: أن ابعث إلى أهل الكوفة فليسر ثلثاهم، وكذلك تبعث إلى أهل البصرة.

فقال عمر أشيروا علي من استعمل عليهم؟ فقالوا: أنت أفضلنا رأيا وأعلمنا بأهلك.

فقال: لأستعملن عليهم رجلا يكون لأول أسنة يلقاها.

بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه السائب بن الأقرع، مولى ثقيف -وكان رجلا كاتبا حاسبا- فقال: الحق بهذا الجيش فكن فيهم، فإن فتح الله عليهم فاقسم على المسلمين فيئهم، وخذ خمس الله وخمس رسوله، وإن هذا الجيش أصيب، فلا أراك، واذهب في سواد الأرض، فبطن الأرض خير من ظهرها يومئذ.

وبعث عمر إلى أهل الكوفة أن يمدوا جيش المسلمين فسار النعمان بقرابة ثلاثين ألفا، ومعه حذيفة بن اليمان، والزبير بن العوام، والمغيرة بن شعبة، والأشعث بن قيس، وعمرو بن معدي كرب، وابن عمر، حتى أتوا نهاوند فالتقوا بالفرس يوم الأربعاء، فحث النعمان الناس على القتال، فأشار المغيرة بن شعبة أن يتعجل الفرس بالقتال، فقال النعمان: إني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وتحضر الصلاة، ويطيب القتال، وينزل النصر، فما منعني إلا ذلك.

ثم دعا: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام، وذل يذل به الكفار، ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمنوا يرحمكم الله.

فأمنوا وهم يبكون، ثم قال النعمان: إني هاز اللواء ثلاث مرات، فالهزة الأولى فليقض الرجل حاجته وليتوضأ، والهزة الثانية فليرم الرجل ثيابه وسلاحه، والهزة الثالثة فاحملوا ولا يلوي أحد على أحد، فإن قتل النعمان فلا يلوي عليه أحد، وإني داع الله بدعوة فعزمت على امرئ إلا أمن عليها، فقال: اللهم ارزق النعمان شهادة بنصر المسلمين وفتح عليهم.

فأمن القوم، فهز اللواء ثلاث مرات وحمل وحمل الناس معه, وكان الأعاجم قد شدوا أنفسهم بالسلاسل لئلا يفروا، وحمل عليهم المسلمون فقاتلوهم، فرمي النعمان بنشابة فقتل رحمه الله، فلفه أخوه سويد بن مقرن في ثوبه، وكتم قتله حتى فتح الله عليهم، ثم دفع الراية إلى حذيفة بن اليمان، وقتل الله ذا الحاجب قائد الفرس، وافتتحت نهاوند، فلم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة.

كتب إلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين، فلما أتاه قال له: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعز الله به الإسلام وأهله، وأذل به الكفر وأهله.

قال: فحمد الله عز وجل، ثم قال: النعمان بعثك؟ قال: احتسب النعمان يا أمير المؤمنين.

قال: فبكى عمر واسترجع، قال: ومن ويحك! قال: فلان وفلان.

حتى عد له ناسا كثيرا، ثم قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم.

فقال عمر وهو يبكي: لا يضرهم ألا يعرفهم عمر، ولكن الله يعرفهم.


هو خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن محزوم القرشي المخزومي، سيف الله، أبو سليمان، كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه أعنة الخيل في الجاهلية، وشهد مع كفار قريش الحروب إلى عمرة الحديبية، كما ثبت في الصحيح: أنه كان على خيل قريش طليعة، ثم أسلم في سنة سبع بعد خيبر، وقيل قبلها، أرسله أبو بكر إلى قتال أهل الردة فأبلى في قتالهم بلاء عظيما، ثم ولاه حرب فارس والروم، فأثر فيهم تأثيرا شديدا، وفتح دمشق، واستخلفه أبو بكر على الشام إلى أن عزله عمر، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله سله الله على الكفار).

وقال خالد عند موته: ما كان في الأرض من ليلة أحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بهم العدو فعليكم بالجهاد.

مات خالد بن الوليد بمدينة حمص وقيل: توفي بالمدينة.

فلما توفي خرج عمر إلى جنازته فقال: ما على نساء آل الوليد أن يسفحن على خالد دموعهن ما لم يكن نقعا أو لقلقة.

قال ابن حجر وهذا يدل أنه مات في المدينة.