ندب عمر بن الخطاب سراقة بن عمرو، وعبد الرحمن بن ربيعة للمسير إلى بلاد الباب، وهي بلاد الترك خلف باب الأبواب المعروف بالدربند، وأمده عمر بن الخطاب بحبيب بن مسلمة، ولكن شهريراز ملك تلك البلاد طلب من عبد الرحمن أن يمهله ففعل، كما عبر له عن كرهه للأرمن والقبج الذين يقيمون حول بلاده، وأعرب عن نواياه الطيبة للمسلمين، وطلب أن يعفوه من الجزية مقابل أن يساعدهم في حروبهم على الأرمن ومن حولهم، فقبل ذلك سراقة، وأقره عمر على ذلك، فوجه سراقة أربعة جيوش إلى البلاد المحيطة بأرمينية وفتحها.


هي ماريا القبطية، أهداها المقوقس القبطي للنبي صلى الله عليه وسلم، تسرى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وولدت له إبراهيم، فقال: (أعتقها ولدها)، فلا تعد من زوجاته صلى الله عليه وسلم، وبالتالي ليست من أمهات المؤمنين، أنفق عليها أبو بكر وعمر إلى أن توفيت في خلافته وصلى عليها بنفسه.


كان انتصار المسلمين في القادسية دافعا لهم للاستمرار في زحفهم نحو المدائن عاصمة الفرس، وسار سعد بجنوده حتى وصل إلى بهرسير "المدائن الغربية" وكانت إحدى حواضر فارس، فنزل سعد قريبا منها، وأرسل مجموعة من جنوده لاستطلاع الموقف، وعاد الجنود وهم يسوقون أمامهم آلاف الفلاحين، من أهل تلك المدينة.

وحينما علم شيرزار دهقان -أمير- ساباط بالأمر أرسل إلى سعد يطلب منه إطلاق سراح هؤلاء الفلاحين، ويخبره أنهم ليسوا مقاتلين، وإنما هم مجرد مزارعين أجراء، وأنهم لم يقاتلوا جنوده؛ فكتب سعد إلى عمر يعرض عليه الموقف ويسأله المشورة: إنا وردنا بهرسير بعد الذي لقينا فيما بين القادسية وبهرسير، فلم يأت أحد لقتال، فبثثت الخيول، فجمعت الفلاحين من القرى والآجام.

فأجابه عمر: إن من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به.

فلما جاءه خطاب عمر خلى سعد سبيلهم.

وأرسل سعد إلى الدهاقين - رؤساء المدن والأقاليم- يدعوهم إلى الإسلام، على أن يكون لهم ما هم عليه من الإمارة والحكم، أو الجزية ولهم الذمة والمنعة، فدخل كثير منهم الإسلام لما وجدوه من سماحة المسلمين وعدلهم مع ما هم عليه من بأس وقوة، ولكن بهرسير امتنعت عنه، وظن أهلها أن حصونها تحول دون فتح المسلمين لها، فحاصرها سعد بجنوده طوال شهرين يرمونها بالمجانيق، ويدكونها بالدبابات التي صنعوها من الجلود والأخشاب، ولكن المدينة كانت محصنة فنصب سعد حولها عشرين منجنيقا في أماكن متفرقة ليشغلهم ويصرفهم عن ملاحظة تقدم فرسانه نحو المدينة لاقتحامها، وأحس الفرس بمحاولة المسلمين اقتحام المدينة؛ فخرج إليهم عدد كبير من الجنود الفرس ليقاتلوهم ويمنعوهم من دخول المدينة، وضرب المسلمون أروع الأمثلة في البطولة والفداء، وقوة التحمل والحرص على الشهادة، وكان القائد زهرة بن الجوية واحدا من أولئك الأبطال الشجعان، استطاع أن يصل إلى قائد الفرس شهربراز، فضربه بسيفه فقتله، وما إن رأى جنود الفرس قائدهم يسقط على الأرض مضرجا في دمائه حتى تملكهم الهلع والذعر، وتفرق جمعهم، وتتشتت فرسانهم، وظل المسلمون يحاصرون بهرسير بعد أن فر الجنود والتحقوا بالفيافي والجبال، واشتد حصار المسلمين على المدينة؛ حتى اضطر أهلها إلى أكل الكلاب والقطط، فأرسل ملكهم إلى المسلمين يعرض الصلح على أن يكون للمسلمين ما فتحوه إلى دجلة، ولكن المسلمين رفضوا وظلوا يحاصرون المدينة، ويضربونها بالمجانيق، واستمر الحال على ذلك فترة من الوقت، وبدت المدينة هادئة يخيم عليها الصمت والسكون، وكأنه لا أثر للحياة فيها، فحمل المسلمون عليها ليلا، وتسلقوا أسوارها وفتحوها، ولكن أحدا لم يعترضهم من الجنود، ودخل المسلمون بهرسير "المدائن الغربية" فاتحين بعد أن حاصروها زمنا طويلا.


عزم سعد بن أبي وقاص أن يعبر جيشه دجلة بالخيل، فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه ويخلصون إليكم إذا شاءوا في سفنهم فيناوشونكم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكم أهل الأيام وعطلوا ثغورهم، وقد رأيت من الرأي أن تجاهدوا العدو قبل أن تحصدكم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم.

فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل.

فندب الناس إلى العبور وقال: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من العبور؟ فانتدب عاصم بن عمرو ذو البأس، في ستمائة من أهل النجدات ليحموا لهم الشاطئ من الفرس حتى تتلاحق الجند، ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام وقال: قولوا: نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن دينه، وليهزمن عدوه، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وتلاحق الناس في دجلة وإنهم يتحدثون كما يتحدثون في البر، وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطئ شيء.

فلما رأى الفرس ذلك، وأتاهم أمر لم يكن في حسابهم خرجوا هاربين نحو حلوان، وتركوا في الخزائن من الثياب والمتاع والآنية والفصوص والألطاف ما لا يدرى قيمته، وخلفوا ما كانوا أعدوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة، وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف، ثلاث مرات، وكان أول من دخل المدائن كتيبة الأهوال، وهي كتيبة عاصم بن عمرو، ثم كتيبة الخرساء، وهي كتيبة القعقاع بن عمرو، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا يخشونه إلا من كان في القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم فاستجابوا على تأدية الجزية والذمة، فتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم، ليس في ذلك ما كان لآل كسرى، ونزل سعد القصر الأبيض، واتخذ سعد إيوان كسرى مصلى، ولما دخل سعد الإيوان قرأ: {كم تركوا من جنات وعيون} [الدخان: 25].
.
.
الآية، وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات، ثم جمع ما في القصر والإيوان والدور من الغنائم، وكان أهل المدائن قد نهبوها عند الهزيمة، وهربوا في كل وجه، فما أفلت أحد منهم بشيء إلا أدركهم الطلب، فأخذوا ما معهم، ورأوا بالمدائن قبابا تركية مملؤة سلالا مختومة برصاص فحسبوها طعاما، فإذا فيها آنية الذهب والفضة.


لما دخل المسلمون المدائن وفتحوها واتخذ سعد بن أبي وقاص قصرها مسكنا جعل إيوانها المشهور مسجدا ومصلى وتلا قوله تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذلك وأورثناها قوما آخرين (28) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان: 25 - 29] ثم صلى الجمعة في الإيوان.


كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال بعضهم: لمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر: بل نؤرخ لمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل.

قاله الشعبي، وقال ميمون بن مهران: وقيل: رفع إلى عمر صك محله شعبان، فقال: أي شعبان؟ أشعبان الذي هو آت، أم شعبان الذي نحن فيه؟ ثم قال لأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئا يعرفونه.

فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم، فإنهم يؤرخون من عهد ذي القرنين.

فقال: هذا يطول.

فقال: اكتبوا على تاريخ الفرس.

فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح تاريخ من كان قبله.

فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة، فوجدوه عشر سنين، فكتبوا التاريخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر فقال: أرخوا.

فقال عمر: ما أرخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا.

فقال عمر: حسن، فأرخوا.

فاتفقوا على الهجرة، ثم قالوا: من أي الشهور؟ فقالوا: من رمضان.

ثم قالوا: فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام.

فأجمعوا عليه.


لما افتتح سعد بن أبي وقاص المدائن بلغه أن أهل الموصل قد اجتمعوا بتكريت على رجل يقال له: الأنطاق, فكتب إلى عمر بن الخطاب بأمر جلولاء، واجتماع الفرس بها, وبأمر أهل الموصل, فكتب عمر في قضية أهل الموصل أن يعين جيشا لحربهم, ويؤمر عليه عبد الله بن المعتم, ففصل عبد الله بن المعتم في خمسة آلاف من المدائن, فسار في أربع حتى نزل بتكريت على الأنطاق، وقد اجتمع إليه جماعة من الروم, ومن نصارى العرب, من إياد, وتغلب, والنمر, وقد أحدقوا بتكريت, فحاصرهم عبد الله بن المعتم أربعين يوما, وزاحفوه في هذه المدة أربعة وعشرين مرة, ما من مرة إلا وينتصر عليهم, وراسل عبد الله بن المعتم من هنالك من الأعراب, فدعاهم إلى الدخول معه في النصرة, وفل جموعهم, فضعف جانبهم, وعزمت الروم على الذهاب في السفن بأموالهم إلى أهل البلد, فجاءت القصاد إليه عنهم بالإجابة إلى ذلك, فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فيما قلتم فاشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله, وأقروا بما جاء من عند الله.

فرجعت القصاد إليه بأنهم قد أسلموا, فبعث إليهم: إن كنتم صادقين، فإذا كبرنا وحملنا على البلد الليلة فأمسكوا علينا أبواب السفن, وامنعوهم أن يركبوا فيها, واقتلوا منهم من قدرتم على قتله, ثم شد عبد الله وأصحابه, وكبروا تكبيرة رجل واحد, وحملوا على البلد, فكبرت الأعراب من الناحية الأخرى, فحار أهل البلد, وأخذوا في الخروج من الأبواب التي تلي دجلة, فتلقتهم إياد والنمر وتغلب, فقتلوهم قتلا ذريعا, وجاء عبد الله بن المعتم بأصحابه من الأبواب الأخر, فقتل جميع أهل البلد عن بكرة أبيهم ولم يسلم إلا من أسلم من الأعراب من إياد وتغلب والنمر, وقد كان عمر عهد في كتابه إذا نصروا على تكريت أن يبعثوا ربعي بن الأفكل إلى الحصنين، وهي الموصل سريعا, فسار إليها كما أمر عمر، ومعه سرية كثيرة وجماعة من الأبطال, فسار إليها حتى فاجأها قبل وصول الأخبار إليها, فأجابوا إلى الصلح, فضربت عليهم الذمة عن يد وهم صاغرون, ثم قسمت الأموال التي تحصلت من تكريت, فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألف درهم، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان, وبالفتح مع الحارث بن حسان, وولي إمرة حرب الموصل ربعي بن الأفكل وولي الخراج بها عرفجة بن هرثمة.


بعد أن فر يزدجرد من المدائن وسار باتجاه حلوان، والتف من التف حوله خلال مسيره فأمر عليهم مهران وأقاموا بجلولاء، وتحصنوا فيها، وحفروا الخنادق حولها، فبعث سعد إلى عمر يخبره بذلك، فأمره أن يقيم بالمدائن، ويرسل إليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، فسار إليهم هاشم وحاصرهم، واشتد القتال، وكانت النجدات تصل إلى الطرفين حتى فتح الله على المسلمين، وقد قتلوا من الفرس الكثير.