عن جابر قال: (مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة.

حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك.

ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف.

فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله، نبايعك.

قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة.

قال فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم، فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبينة فبينوا ذلك فهو عذر لكم عند الله.

قالوا أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدا، ولا نسلبها أبدا.

قال فقمنا إليه فبايعناه فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة)


عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا».

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما» وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين، فستر الجبل فلقة، وكانت فلقة فوق الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد».

والمشهور أن انشقاق القمر حصل مرة واحدة، أما ما ورد في إحدى روايات مسلم: (.
.

فأراهم انشقاق القمر مرتين)
.

فقد أجاب عنها العلماء.

ورجح ابن القيم وابن حجر وغيرهما أنه وقع مرة واحدة.


كان عبد الله بن سلام رضي الله عنه حبرا من أحبار يهود، عالما، قال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوقع له، فكنت مسرا لذلك، صامتا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء، في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت! قال: فقلت لها: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به.

قال: فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال: فقلت لها: نعم.

قال: فقالت: فذاك إذن.

قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي، فأمرتهم فأسلموا.

قال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك، وتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني، حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي؛ فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني.

قال: فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته، ودخلوا عليه، فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟" قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا.

قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم، فقلت لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأومن به وأصدقه وأعرفه.

فقالوا: كذبت.

ثم وقعوا بي، قال: فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور! قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث، فحسن إسلامها.


قال ابن إسحاق: «كتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم» .

أي لما امتنعوا من إتباعه، وذلك قبل الإذن بالقتال وأخذ الجزية ممن أبى الإسلام، وقد أبى عامتهم إلا الكفر.

وكانوا ثلاث قبائل: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وحاربه الثلاثة، فمن على بني قينقاع، وأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة، وسبى ذريتهم، ونزلت (سورة الحشر) في بني النضير، و (سورة الأحزاب) في بني قريظة.


عن ابن عمر قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرنا مثل قرن اليهود.

وقال عبد الله بن زيد: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى.

قال: فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.

قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.

فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به؛ فإنه أندى صوتا منك.

فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلله الحمد)
.


لما تمت بيعة العقبة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالا، كان من السابقين للهجرة بعد العقبة الثانية مصعب بن عمير, ثم عامر بن ربيعة حليف بن بني عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم، ثم عبد الله بن جحش بأهله وأخيه عبد بن جحش أبي أحمد، وكان ضريرا، وكان منزلهما ومنزل أبي سلمة بقباء في بني عمرو بن عوف، فلما هاجر جميع بني جحش بنسائهم فعدا أبو سفيان على دارهم فتملكها، فذكر ذلك عبد الله بن جحش لما بلغه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها؟ قال: بلى.

قال: فذلك لك".

فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمه أبو أحمد في دارهم، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس لأبي أحمد: يا أبا أحمد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء أصيب منكم في الله، فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام قد خرجوا كلهم إلى المدينة، ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا فقدموا المدينة، وكان هشام بن العاص بن وائل قد أسلم، وواعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه، وقال: تجدني أو أجدك عند أضاءة بني غفار، ففطن لهشام قومه فحبسوه عن الهجرة.

ثم إن أبا جهل والحرث بن هشام خرجا حتى قدما المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلما عياش بن أبي ربيعة وكان أخاهما لأمهما وابن عمهما، وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها ولا تستظل حتى تراه، فرقت نفسه وصدقهما وخرج راجعا معهما، فكتفاه في الطريق وبلغا به مكة، نهارا موثقا، ثم قالا: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.

فحبساه بها إلى أن خلصه الله تعالى بعد ذلك بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له في قنوت الصلاة: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة".

ولما أراد صهيب بن سنان الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، لا والله لا يكون ذلك.

فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، فقال: فإني قد جعلت لكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ربح صهيب، ربح صهيب".

ثم تتابع المهاجرون بالهجرة إلى المدينة إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.


لما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج في يثرب، أصابتهم الكآبة والحزن، وساورهم القلق والهم، فاجتمع طواغيت مكة في دار الندوة ليتخذوا قرارا حاسما في هذا الأمر.

وكان اجتماعهم بعد شهرين ونصف تقريبا من بيعة العقبة، وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة, تكفل القضاء سريعا على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته, ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، ووقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد, سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيا ونصحا.

قالوا: أجل، فادخل.

فدخل معهم.

وبعد أن تكامل الاجتماع, ودار النقاش طويلا.

قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا, وألفتنا كما كانت.

قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، ثم يسير بهم إليكم - بعد أن يتبعوه - حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا.

قال أبو البختري: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله - زهيرا والنابغة - ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.

قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه -كما تقولون- ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره.

بعد ذلك تقدم كبير مجرمي مكة أبو جهل بن هشام باقتراح آثم وافق عليه جميع من حضر, قال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد.

قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم.

قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره.

ووافقوا على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع.


عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: «إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين».

وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي».

فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: «نعم».

فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- أربعة أشهر.

قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك».

فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله.

قال: «فإني قد أذن لي في الخروج».

فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم».

قال أبو بكر: فخذ -بأبي أنت يا رسول الله- إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بالثمن».

قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت: ذات النطاقين.

قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب، ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا، يكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما ورضيفهما، حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي، هاديا خريتا -والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.

قال: سراقة بن جعشم: جاءنا رسل كفار قريش، يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، دية كل واحد منهما، من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال يا سراقة: إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة، فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي، حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني، إلا أن قال: «أخف عنا».

فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشأم، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم، لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار -ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.


لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بقباء بضع عشرة ليلة، وأسس فيها المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.


ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته من قباء فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر، لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل».

ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد، ليتخذه مسجدا، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول، وهو ينقل اللبن: "هذا الحمال لا حمال خيبر، هذا أبر ربنا وأطهر.

ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخره، فارحم الأنصار، والمهاجره" وعن أنس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف.

فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار، فجاءوا متقلدي السيوف كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وأنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملإ من بني النجار فقال: «يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا».

قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.

فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم، وهو يقول: «اللهم لا خير إلا خير الآخره، فاغفر للأنصار والمهاجره».

 قال عبد الله بن عمر، " إن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل.


كان من آثار هجرته صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة تلك المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، حتى كان يرث بعضهم بعضا في أول الأمر.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما: {ولكل جعلنا موالي} قال: «ورثة»: {والذين عاقدت أيمانكم} قال: " كان المهاجرون لما  قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت: {{ولكل جعلنا موالي} نسخت".

ثم قال: {والذين عاقدت أيمانكم} «إلا النصر، والرفادة، والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له».

وعن أنس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوما أبذل من كثير، ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنإ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم».

وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: لما قدمنا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي  زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها.

قال: فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع.

قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بأقط وسمن، قال: ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوجت؟».

قال: نعم.

قال: «ومن؟»، قال: امرأة من الأنصار.

قال: «كم سقت؟»، قال: زنة نواة من ذهب -أو نواة من ذهب- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أولم ولو بشاة».