أرشيف المقالات

على هامش النقد:

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 مواضع النقد الأدبي للأستاذ سيد قطب التعبير في الفن للتصوير والتأثير.
التصوير للتجربة الشعورية التي مرت بالفنان، والتأثير في شعور الآخرين بنقل هذه التجربة إلى نفوسهم في صورة موحية مثيرة لانفعالهم، وهذه هي غاية العمل الأدبي. ولما كان العمل الأدبي مؤلفاً من عنصرين هما التجربة الشعورية والتعبير عن هذه التجربة، فإن مواضع النقد الأدبي تنحصر في هذين العنصرين. ولكن التجربة الشعورية لا تبدو لنا - في العمل الأدبي - إلا من خلال التعبير.
فهو وسيلتنا الوحيدة لإدراك هذه التجربة التي مرت بالأديب فحركته للتعبير عنها.
وإذا نحن فقدنا هذه الوسيلة لم نستطع بحال أن ندرك ما جاش بنفسه، ولا نوع إحساسه به، ولا درجة انفعاله كذلك. ومن هنا يستمد التعبير قيمته في النقد.
فليس هو ألفاظاً وعبارات؛ ولكنه العمل الأدبي كاملا باعتبار ما يصوره من التجارب الشعورية. وهذا التعبير يدل على التجربة الشعورية بخصائص ثلاث مجتمعة وهي: 1 - الدلالة اللغوية للألفاظ والعبارات. 2 - الإيقاع الموسيقي للكلمات والتراكيب. 3 - الصور والظلال التي يخلعها التعبير من خلال الكلمات والعبارات. ونزيد خاصة أخرى مشتركة بين الشعور والتعبير تدل على طبيعة التجربة الشعورية ونوعها ودرجتها وعلى سمة الأديب التعبيرية أيضاً.
هذه الخاصية هي طريقة التناول أو طريقة السير في الموضوع أو ما نسميه الأسلوب. ومعروف أن لكل أديب أسلوبه المعين.
وكثيرا ما يطلق بعضهم الأسلوب على العبارة اللفظية، ولكنه في الحقيقة اشمل، فهو طريقة الإحساس بالموضوع والسير فيه وطريقة تنسيق العبارات واختيار الألفاظ. يقول عمر الخي طوت يد الأقدار سفر الشباب ...
وصوحت تلك الغصون الرطاب وقد شدا طير الصبى واختفى ...
متى أتى؟ يا لهفا! أين غاب؟ فما المعنى العام الذي يريد أن يبلغه لنا في هذه الشطرات؟ انه يريد أن يقول: أن شبابه قد ولى، وقد جف عودة سريعاً، وانتهى صباه عاجلاً، فما كاد يبدأ حتى انتهى. ولكن الأمر لم يكن معنى في ذهنه، بل شعورا في نفسة، وهو لا يريد المعنى بل يريد ما وراء.
ولهذا اثر أن يسلك طريقة أخرى في التعبير غير التي سلكناها، فعرض علنا صورة ليد الأقدار تطوى كتاب الشباب، وصورة بجوارها للغصون الرطاب تصوح وتجف، وهما صورتان توقعان في النفس الكآبة والأسى، وتغمرانها بالحسرة والوجوم، وتخلعان على المشهد ظلالا كابية حزينة.
ثم شاء أن يشعرنا انه لم يحس بشبابه ولم يستمتع فلم يقل لنا هذا المعنى مباشرة.
بل رسمة لنا صورة متحركة، فقد شدا طير الصبى واختفى، وأنه لواقف يتلفت في لهفة ويتساءل في وجيعة: متى أتى؟ متى غاب؟ ومن هنا ينقل إلينا شعوره نقلاً حياً موحياً فنكاد نتلفت معه على هذا الطائر - طائر الصبى الجميل السريع - الذي ما كاد يظهر حتى اختفى، وترك وراءه اللهفة والأسى! طريقة السير في الموضوع أذن هي التي جعلتنا نزداد شعورا بما يخالج نفس الشاعر في الأسى والكآبة، وفي اللهفة والحسرة، دون أن يقول لنا: أنه مكتئب أس ملهوف حسير.
وهذه الطريقة هنا هي نظام عرض الصور واحدة بعد الأخرى، فتخلع كل صورة ظلا، وتجتمع الظلال وتتناسق فتثير في نفوسنا انفعالا خاصا، هو الانفعال الذي عاناه الشاعر أو ما يشبه. وبطبيعة الحال لقد اشترك في أحداث هذا الأثر كل من المعاني اللغوية للألفاظ والعبارات، والإيقاع الموسيقي للتراكيب، والصور والظلال التي يخلعها التعبير. انتهينا إذن إلى أن العمل الأدبي يبلغ غايته وهي التأثير بتوافر عناصر الكمال في خصائص التعبير، وهي طريقة الأداء والدلالة اللغوية للألفاظ والعبارات، والإيقاع الموسيقي للكلمات والتراكيب والصور والظلال التي يخلعها التعبير، وهي زائدة على المعنى العام للتعبير ولكن التعبير بعناصر هذه انما هو وسيلة لغاية هي إبراز التجربة الشعورية وتجليتها. وعلى هدى هذا البيان يظهر أن مواضع النقد الأدبي هي: أولاً: التجربة الشعورية أو الشعور كما يبدو من خلال التعبير ثانياً: التعبير بخصائص التي أسلفنا عنها الحديث ونقد التعبير وخصائصه والحكم عليها سهل نوعا إذا قيس بنقد الشعور والحكم عليه، لان إخضاع خصائص التعبير لقواعد عامة آمر مستطاع - مع ما هذا من حرج - ما دمنا نملك وضع قواعد للنقد الأدبي فيها سماحة كبيرة وشمول، بحيث تسمح بظهور الخصائص الشخصية كاملة في كل أديب، ولا تقيده باتباع (مشق) معين في طرق الأداء أو طرق التعبير! أما إخضاع خصائص الشعور لقواعد معينة فتحكم في النفوس والطبائع والمشاعر غير مأمون، والحكم على الشعور الإنساني مسالة ليست من حقنا على إطلاقها، فقد يطرق الأديب عوالم من الأحاسيس والخطرات والانفعالات لم تتهيأ لنا من قبل لأنه هو إنسان ممتاز غير مكرور! ولكن ماذا نصنع؟ ترانا نقبل كل شعور ونعده في صف واحد مع كل شعور آخر من حيث قيمته الفنية، مادام صاحبة قد عبر عنه بطريقة صحيحة من ناحية التعبير؟ إننا بهذا نبخس العمل الأدبي قيمته، لأننا نعده صوراً وألفاظاً خارجية، لا رصيد لها في عالم النفس والشعور. ولحسن الحظ أن لدينا حقيقتين واقعتين في هذا المجال: أولاهما أن التجارب الشعورية الإنسانية مشتركة في مساحة واسعة من النفس الإنسانية؛ وثانيتهما أن الناقد هو الذي يستطيع أن يعلل لنا حكمه. وفي الحقيقة الأولى ضمان بان عدداً كبيراً من الناس سيدركون قيمة التجارب الشعورية التي يصورها الأدب، لأن لها صدى في نفوسهم على كل حال، وإذا لم يتحقق هذا في جيل، فإن تتابع الأجيال كفيل بتحقيقه، فركب الإنسانية متصل المواكب، والتجارب الشعورية ملك للجميع. وفي الحقيقة الثانية ضمان بان الحكم على قيمة شعور ما لن يلقى مجرداً كإشارات الصم البكم، بل ستتبعه أسبابه، وبيان الأسباب يتيح للآخرين أن يقتنعوا بها أن وجدوا لها في نفوسهم صدى، أو لا يقتنعوا، ولهم ما يشاءون! لهذا كله نرى انه لابد للنقد الأدبي أن يتناول طبيعة الشعور الذي يصوره التعبير، فيصفه - على الأقل - كما يبدو من خلال الصورة التعبيرية، ويحكم على قيمته في عالم التجارب الشعورية. ونضرب هنا بعض الأمثال: يقول شاعر حديث في قصر أنس الوجود: قف بتلك القصور في اليم غرقى ...
ممسكا بعضها من الذعر بعضا كعذارى أخفين في الماء بضا ...
سابحات به وأيدين بضا وكل بيت بمفردة جميل من ناحية التعبير والإيقاع والأداء، ولكنهما مجتمعين يكشفان عن اضطراب في الشعور، أو عن تزوير في هذا الشعور، ذلك أنا حين نستعرض البيت الأول: قف بتلك القصور في اليم غرقى ...
ممسكا بعضها من الذعر بعضا نجد أنفسنا أمام مشهد غرق، والغرقى مذعورون يمسك بعضهم من الذعر بعضا، فالشاعر أذن يرسم لنا مشهداً مثيراً لانفعال الحزن والأسى، مشهداً يظلله شبح الفناء المتوقع بين لحظة واخرى، ونفهم أن هذا هو الانفعال الذي خالج نفسه وهو يتملى ذلك المشهد الذي يثير الذعر ويقبض الصدر. ولكنة ينتقل بنا فجأة ونحن أمام لمشهد نفسه لم نزايله، فيقول: كعذارى أخفين في الماء بضا ...
سابحات به وأيدين بضا فأي شعور بالانطلاق والخفة والمرح يوحيه مشهد العذارى، ينزلن الماء سابحات، يخفين في الماء بضا ويبدين بضا؟! هنا ظل لا يتسق مع الظل الأول، ولا تفسير لوجوده هنا إلا بأن الشاعر زور لنا تجربة شعورية لم تمر بنفسه، لأنه لو كان قد انفعل حقيقة بالمنظر لغمره شعور نفسي واحد إزاءه في اللحظة الواحدة، أو غمرته مشاعر مختلفة، ولكن في جو واحد. فحكمنا هنا ينصب على شعور الشاعر لا على تعبيره، ولكننا انما نحكم على هذا الشعور من خلال التعبير، ومن حقنا أن نحكم هذا الحكم لان التعبير المعروض علينا يصور لنا شعوراً مزوراً، والفن شعور صحيح.
ولو أنه في بيته الثاني رسم لنا ظلالا تتسق مع ظلال البيت الأول، ولكان هذا دليلا على صحة الشعور وصدق تأثره بالموقف. ويقول شاعر قديم في وصف زهرة حمراء على عود اخضر: أنها مثل (أوائل النار في أعواد كبريت) فنحس حين نقرا البيت أن شعوره بالزهر والطبيعة كان شعوراً (من الظاهر) ولم يتصل حسه بالطبيعة أي اتصال، فاقتصر بصره على تشابه الأشكال، ومسخ الطبيعة الحية شكلاً جامداً لا حس فيه ولا شعور، ولا تعاطف بينه وبين قلب الشاعر ولا منافذ له إليه عن أي طريق. وفي الناحية الأخرى نجد شاعراً كالبحتري يقف أمام إيوان كسري المهجور، فتجيش نفسه بانفعال صادق يغشي الجو كله بغشاء واحد، غشاء الأسى وشجون الذكرى. فهذا الإيوان: يُتظنَّى من الكآبة إذ يب ...
دُو لعينيْ مصبّح أو ممسىّ مُزعجاً بالفراق عن أُنس إلفٍ ...
عزَّ أو مُرهقاً بتطليق عِرْس فهو يبدي تجلداً وعليه ...
كلكل من كلاكل الدهر مرسى فهو يحس بالإيوان المهجور كئيباً حتى ليظنه من يراه مزعجا بالفراق عن أليف عزيز، أو مرهقاً بتطليق عرس، وهو يبدي التجلد، ولكن كلكل الدهر ينيخ عليه ويرسي بثقله.

وهي صور حية موحية، تشعر بالانفعال الصادق العميق. ونجد شاعراً كابن الرومي ينظر إلى مشهد في الطبيعة فيحسه (من الباطن) حياً، ويتجاوب معه ويتعاطف كالأحياء: ذلك حين هبت ريح الشمال: هبت سُحَيْرا فناجى الغصن صاحبه ...
موسوساً وتنادى الطير إعلانا ورق تغنى على خضر مهدلة ...
تسمو بها وتشم الأرض أحيانا تخال طائرها نشوان من طرب ...
والغصن من هزه عطفيه نشوانا وهكذا يحس الغصن حيا ذا نفس يناجي صاحبه موسوسا، والطير تنادى إعلاناً، والورق تتغنى على الأفرع الخضر المهدلة، وكأنما هذه تداعبها وتؤرجحها (تسمو بها وتشم الأرض أحيانا) والطائر يخال نشوان من الطرب، والغصن يشاركه فيهز عطفيه وهكذا يحس الطبيعة حية، وكأنما هي في مرقص تميل النشوة وتتغنى من الفرحة.
وهكذا يعاطف الطبيعة وتعاطفه، ويتصل حسه بحسها.
وذلك معنى الصدق في الإحساس بالتجارب الشعورية! سيد قطب

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢