أرشيف المقالات

وجهة نظر. . .

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 للأستاذ محمود عزت عرفة عندما استويت على مقعدي في مرسم المدرسة وعرفت المهمة التي كلفنا بها أستاذنا، أدركت في لحظة أني مغبون مغبون. كان أمامي نموذج مجسم للفيل علي أن أرسمه كما يتراءى لي وأنا في مجلسي دون ما تصرف ولا تغيير.
ولم أكن أشهد لهذا النموذج خرطوماً ولا رأساً ولا قائمتين أماميتين، دعك مما يتصل بكل هذا من صدر وعنق وأذن وعين وناب.

حتى جفرتا الفيل على انبعاجهما لم تكونا من عيني بمرأى. وعجبت كيف يكون منظر فيلي بدون هذه الأشياء جميعا.
إنه لن يكون أكثر من خطين غليظين بينهما خط قصير دقيق.
والتمعت إذ ذاك في ذهني صورة المقصلة التي ينصبها الجزارون في أسواق القرى.
لقد كان كل ما ينقصني هو تغيير الموضع لتحسين وجهة النظر؛ ولا أعني بهذا تغيير موضع الفيل، إذ كان أقل عبث به كفيلاً بأن يضع زملائي جميعاً في صفوف المغبونين بعد أن فرغوا من خططهم، وأوغلوا على الورق في تخطيطاتهم. وبدا لي أن انتقل إلى موضع زميل غائب، فوضح لي منه ما فيه الكفاية مما كان محتجباً عني، ثم بدأت أرسم تلك تجربة مرت بي في عهد الطلب كما يمر أمثالها بالكثيرين؛ والواقع أن وجهة النظر شيء له قيمته الكبرى في الحياة، وإن التأنق في اختيار هذه الوجهة وانتقاء أحسن أوضاعها لخطوة أساسية ينبغي ألا نغفلها، إذ عليها يتوقف ما نأتيه من الخطأ والصواب جميعاً وكما يختلف الجسم باختلاف النظرة إليه جمالاً وقبحاً، وضوحاً وإبهاماً، ضخامة وضؤولة؛ كذلك يختلف الرأي باختلاف عمل العقل فيه، وهو يقاس في مبلغ سلامته أو ضعفه، وبلوغه أو عجزه، واستقامته أو عوجه، على مقدار معالجة التفكير لعناصره واستيعابه لجميع جزئيات صوره.
وإن الخطأ في التقدير الحسي لأمر من السهل إصلاحه بالرجوع إلى التجارب الحسية السابقة والنظر في المكتنز من نتائجها؛ فمعرفتي بأوضاع الفيل المختلفة هي التي هدتني إلى موضع النقص عند أول نظرة ألقيتها إليه من وراء، وبالتالي هدتني إلى إصلاح هذا النقص بتغيير الذي كنت أتخذه من نموذجه.
أما الخطأ في التقدير الذهني فأمر يتعذر إصلاحه إلى حد كبير بالإضافة إلى سابقه، لأن الفكرة الواحدة ليست إلا حلقة مفردة من سلسلة طويلة متصلة من الأفكار.
وليس الخطأ الأخير في تقدير أمر ما إلا نتيجة أخطاء متكررة سبقت، أو هو شعبة حديثة من الغلط لأصل عميق غائر الجذور من أغلاط متعددة متباينة، والحنظل لا ينبت إلا الحنظل.
وإن مراجعة الفكرة الأخيرة لمما يقتضي مراجعة الأسباب التي أنتجتها؛ وهذه الأسباب ليست إلا خلاصة المبادئ والقوانين العقلية التي ارتضاها الإنسان لنفسه واعتنقها، لا جملة واحدة، ولكن مبدأ مبدأ؛ وكل مبدأ منها كان الأساس لما تلاه والنتيجة المحتومة لما سبقه.
أو هي - على الأقل - الخلاصة المصطفاة لوحدة تامة مستقلة من هذه المبادئ والقوانين.
لذلك يبدو من المعتذر أن يصلح الإنسان خطأ نفسه بنفسه، إلا أن يكون من غير المتعذر على ناسج الثوب أن يستل الخيط الذي أخطأ في تقدير وضعه، دون أن يخل بأوضاع ما جاوره من الخيوط أو يشوه من ترتيبها.
وإنما يهون الأمر علينا كثيرا أن نستعين على إصلاح نتائجنا المغلوطة بوسائل غيرنا الصحيحة.
ويكون ذلك بالرغبة الشديدة في الاقتناع، والتهيؤ التام لقبول وجهات النظر وإن اختلفت، ثم التجرد الكامل لها بالفهم والإحاطة والتقدير والتمحيص؛ حتى ينبثق خلالها نور الحق، وتنضرح شوائب الريبة فيها عن محض اليقين.
والمثل الجلي لاختلاف الحواس في التقدير - تبعا لقصور الفحص أو قلة التعمق فيه - تبسطه لنا هذه القصة التي ساقها الغزالي في إحيائه عن جماعة من العميان ذهبوا ليتعرفوا كنه الفيل وقد أقدمه الملك إلى بلدهم.

فلمسوه بأيديهم جميعاً في مواضع من بدنه مختلفات، ثم انصرفوا وقالوا قد عرفناه! ولما استوضحهم إخوانهم حقيقته قال الأول، وكان قد لمس رجله: الفيل كأسطوانة من أساطين المسجد، خشنة الظاهر وفيها بعض اللين.

وقال الثاني وكان قد عثر بنابه: لعمري إن الفيل لم يبلغ قدر الأسطوانة وإنما هو كعمود صغير، ثم إنه ناعم الملمس غير خشن، وصلب لا لين فيه.
وتكلم الثالث فقال: بل هو مثل جلد عريض غليظ خلا من شبه الأسطوانة ومن النعومة والصلابة جميعاً.
فخالف زميليه فيما قالاه؟ ولا غرو فقد كان يصف - وحده أذن الفيل ولو تأملنا قليلا لوجدنا الجميع هنا صادقين في وصف ما عرفوا، ولكنهم مقصرون عن الإحاطة بالحقيقة مبلغ تقصيرهم في وسائل التعرف إليها؛ ولو أنهم عاودوا اللمس المستوعب لأعضاء الفيل، لتسنى لهم إذا أن يعرفوا أقصى ما تهيئه لهم وسائلهم المحدودة من اللمس، وهكذا الشأن في كل حاسة يستخدمها الإنسان في التعرف إلى ما يحيط به من حقائق الأشياء.
.

ونعود إلى النظريات العقلية فنقول إن إصرار الإنسان على الخطأ في فكرة ما، ليس معناه العناد أو المكابرة دائما؛ وإنما قد يصدر ذلك - وهو الأكثر - عن إيمان بالرأي عميق وثقة بصحة التفكير ثابتة.
ولا يلام الإنسان على هذا الإصرار إلا بقدر ما يصده ذلك عن قبول النقاش أو يحول بينه وبين فحص أراء الغير بالعقل المجرد. ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن كل فكرة خاطئة لا تخلو من ناحية صواب - ولو ضئيلة - يستمسك بها صاحبها؛ وهي التعليل الحق لهذا الإصرار الذي نشاهده منه، ما دمنا على ثقة من عقله ومن خلقه جميعاً.
وفي الواقع إن الخير المحض أو الشر المحض شيئان منعدمان في هذا الوجود؛ وكذلك الصواب والخطأ.

لا يخلو أحدهما من شائبة ولو يسيرة تلحقه من الآخر.
ولقد يتفق أكثر الأدباء على أن المعري كان من أزهد الناس في الحياة، وأعزفهم عن طلب الشهرة والتماس الجاه والنبالة فيها، ثم يأتي من يخالفهم في ذلك ويقول: بل الذي عندي أن الرجل كان من أكلف الناس بالجاه، وأبعدهم همة في طلب المجد والتماس نباهة الشأن.

أليس هو الشاعر الذي يقول: ذَرِ الدنيا إذا لم تحظَ منها ...
وكن فيها كثيرا أو قليلا واصبحْ واحدَ الرجلين: إما ...
مليكاً في المعاشر أو أبيلا ولو جَرَت النباهةُ من طريق الْ ...
خمولِ إلىَّ لاخترتُ الخمولا فها هو ذا قد ترك دنيا الناس لأنه فقد الحظوة فيها، ولكنه ملك دنيا أعظم من الجاه العريض والشهرة المدوية.

دنيا لم يمتلكها من الناس إلا القليل.
ولقد عجز عن أن يكون ملكاً نابه الذكر، فكان أبيلا - أو راهباً - أنبه من سائر الملوك ذكراً، وأخلد منهم على الأيام اسماً.
إنه اتخذ من الخمول سبيلاً إلى النباهة كما قال، فأين وجه الزهادة في كل هذا؟ تلك حجج تتقارع ولكل منها سنده من دليل وعماده من برهان؛ ولكن التسليم بضرورة التفاهم وتبادل الإقناع والاقتناع أهم من كل هذا، وأعظم جدوى في تعرف الحقائق على اختلافها ولنعرض هنا نموذجاً طريفاً نرى فيه كيف تلتبس الحقائق الواضحة على بعض العقول الحصيفة، حتى يكشف النقاش عن جوهرها؛ فلا يبقى ثمة إلا التسليم والاقتناع، متى خلصت النية وكان الحق هو الهدف المقصود والغاية المبتغاة قالوا: حضر الوجيه النحوي بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله.
فجرى حديث المعري فذمه الخازن، وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيه فغسلته.
فقال له الوجيه: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب (نقض القرآن) فقال له: أخطأت في غسله! فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه؛ واستشاط أبن هبة الله وقال له: مثلك ينهى عن مثل هذا؟! قال: نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيراً منه أو دونه.
فإن كان مثله أو خيراً منه - وحاش لله أن يكون ذلك - فلا يجب أن يفرط في مثله.
وإن كان دونه وذلك ما لاشك فيه، فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه.
فاستحسن الجماعة قوله، ووافقه أبن هبة الله على الحق وسكت هذه وجهة نظر سديدة أبداها الوجيه، وقد صحبها اعتراف بالحق أعظم منها سداداً، وأجمل في النفوس موقعاً.
لكن أين من يراجع اليوم نفسه مثل هذه المراجعة، ويقيس رأيه برأي غيره في مثل هذه الدقة؛ ثم يقتنع شاكراً إن أخطأ، ويقنع متلطفاً إن أصاب.
وهو في كل ذلك يأبى على نفسه اللجاج، ويأنف لها من المكابرة، ويتكره أن يكون كمن أنشد فيه الجاحظ قول الشاعر: وأخلفُ من بول البعير فانه ...
إذا قيل للإقبال أقبلَ، أدبرا! خلافاً علينا من فَيالةِ رأيه ...
كما قيل قبل اليوم: خالف فتُذكرا (جرجا) محمود عزت عرفة

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢