أرشيف المقالات

حكومة الحدائق

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 للأستاذ صلاح الدين المنجد ما عليّ وقد تهت بين الجبال في البحث عن المدينة الضائعة، ملبياً نداء المجهول، مبتعداً عن ثقل الحضارة؛ أن أنتقل مع (دوهامل) بين الأزاهير؛ فأستنشق العطر، وأرشف الحكمة، وأنعم بهدوء البال. الحق أن ثقل المدنية يدفع إلى الهرب منها؛ وهذا ما فعله (دوهامل) حين فر إلى حدائق (فالموندوا) في (إيل دوفرانس) فتمتع بالزهر، وسكر بالأرَج، وحلم بحكومة الحدائق.

فخط رسومها، وبين خططها.
هاهي ذي الطبيعة البكر، لم تلمسها يد ولم تطأها قدم تنمو على غير نسق، ودون نظام.
فإذا امتدت إليها يد الإنسان ورعتها بالتهذيب، وجملتها بالترتيب، حَلَتْ ونَمتْ.
وهاهي ذي الخُضارات والنباتات تربو بفن البستاني، وتزهر بالعناية والحرث والسقيا، ففنٌّه إذن يفيد.
إنه حياة ثمرتها الإبداع والجمال.

أفلا نستطيع أن نجني من ذلك عبرة تتبعها في حكومة الناس.
! هذا ما يبدأ به دوهامل كتابه.

على أنه يصف بستانه الذي حكم بحكومته أنه ليس بالكبير ليقصر الإنسان عن العناية به، وليس بالصغير ليوجب إهماله، وليس بالخيالي كبستان الأب موريه، ولا بالبارع كبستان (بلوميه) الذي ابتدعه هوجو في البؤساء.
لا.

ولكنه وسط بين أولئك.
ومهما يكن من أمر، فإن هذا البستان يوجب العناية ويدفع إلى العمل: إنه يتطلب جناناً بارعاً، وعملاً متواصلاً، ونظاماً سائداً؛ وعندئذ يطيب الغرس، ويتألق الزهر، ويحلو الثمر، ويربو القطف. لا جرم أن النظام سر الإبداع وسر الجمال، وهو الذي يحيي النفوس ويرهف الأذواق، ويخلق النبلاء.
ولابد لكل مخلوق منه، حتى النباتات؛ فينبغي أن تخضع لقانون تتبعه، وتسلك نهجاً تسير فيه.
لكن ما الذي يكون إذا أُهمل البستان، فنسيه الفكرُ الذي ينظِّمه، وجَفتْه الأيدي التي تعتني به.
؟ لاشك أن ذلك البستان يميد من الفرح في أيامه الأُول؛ فتسكره الحرية، وينطلق من النظام الذي كان يراه قيوداً فيعيش على هواه: نوم دائم، واستقرار طويل، وخمول لازب؛ وفجاء تعتلّ النباتات الضعاف لسعة حريتها، فتعبّ الماء الكثير.

وتبلى.
ثم تغرق الأزاهير الصحاح في الماء فتندى، ثم تروى، ثم يداخل سوقها الوهن، فتصبح كما أصبحت من قبل أخواتها؛ وتفسد الثمار التي تركت على أشجارها فلم تقطفها يد الجنّان، وينثر الهواء البذور في الأرض فتضيع، وتستولي الأعشاب الوحشية على الممرات، وتزاحم النباتات الطائشات الأزاهير الصغار.
وعندئذ تسود الفوضى، ويحكم البستان ثلاثة أصناف من الأعاشيب، يرجع إليها الأمر، وتكون الحكم والخصم.
ثم يتقاسمن البستان، وتنشأ حولهن أزاهير بورجوازية تكون من الأعوان والأنصار.
ثم تغتنم هذه الأزاهير فرصة الفوضى فتنتشر هنا وهناك.
فإذا مضى الشتاء وأقبل الربيع، وجاء في موكبه النور والجمال.

لم تجد في البستان الحياة والرونق، ولا الجمال وبراعة النسق، ولا الحرية المهذبة والنظام.

بل تجد الاضطراب والفوضى والظلام، وترى بضعة أعشاب أنانية، شرسة، تحكم بعنف، ولا تتراجع أمام شيء، لتشبع نهمها، وتغذي نفسها بالبطش والشر والانتقام. على أن سلطة رعاع العشب لا تدوم.
فهناك، على حفافي البستان تقوم برابرة الأشجار.

في الغابة.
وفيها تجثم قوة مخيفة لا تعرف ولا توصف.
لقد كان فن البساتني يوقفها، لأن النظام الذي نراه رَّفافاً في جنبات الحديقة كان يخيفها، وكان يدفعها إلى احترام من يتبعون النظام.
أما الآن.

فلا شيء يمنعها عن التقدم. ورويداً رويداً تتقدّم الغابة فتستعبد البستان بقوة لا تغالب، وجبروت لا يٌقهر؛ فتقضى على الثائرين الصغار، وتبطش بالفاسدين الكبار؛ ثم تنمو وتترعرع حتى يأتي يوم يمّحى فيه البستان ويغيب في ظلال الشجرات العتاق.

ويعود عالمنا كما بدأ مضطرباً مظلماً موحشاً.
فالنظام لا جرم سيد الكون، وإن فن الحكومة - حكومة الحدائق - يدل على أنه لابد من خضوع الطبيعة لسلطةٍ ما تقودها نحو النظام، لأن الطبيعة هي حياة أصناف وحشية عندها، وموت أصناف أخر، واستخدام أصناف ثالثة.
أما فنّ الجنّان فهو الذي يقاوم قوى الطبيعة الجبارة.
فيحمي الأزاهير الجميلة لأنها أرق النباتات، ويضع كلاً في موضعه، ويحدد ذلك الموضع والمكان؛ ويساعد الضعيفة منها؛ ويخفف من غلواء ذوات الطيش والإقدام، ويضع مجموعة من القواعد ملؤها الحكمة والانسجام تكون قابلة للتطبيق والاتباع. ولابد من وقفة صغيرة.
إن السلطة ضرورية، ولكن ينبغي التفريق بينها وبين العنف، وإلا ما استطاع أحد قيادة الناس، لأن القوة الوحشية التي تسود بالحديد والجرانيت والرخام لا قيمة لها أمام الحياة.

لأنها ستغلب يوماً.
فالبستاني البارع يمارس سلطته باحترام أزاهيره ونباتاته والرفق بها، ويبدّل قواعده التي تستند إلى القوة بالإقناع، لأن الإقناع أشد تأثيراً في النفوس من الحديد.
إنه يدفع إلى الهاوية، وإنه يحيى ويميت.
فإذا كان ذلك أصبح البستان رقعة من رقاع الفردوس، ورفرف حوله العدل والانسجام والسلام. (دمشق) صلاح الدين المنجد

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣