أرشيف المقالات

بين سيد الشعراء وسيد رجال المال

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
8 للأستاذ صالح جودت في ليلة مشهودة في التاريخ، عشية الجمعة المباركة من اليوم السابع من شهر مايو سنة 1920، ائتمر نفر من سراة القوم في دار الأوبرا (السلطانية)، ليحتفل بتأسيس أول دعامة من دعائم النهضة الاستقلالية المصرية، هي (بنك مصر). وفي تلك الليلة المزدهرة، وقف مؤسس هذه النهضة، محمد طلعت حرب، يقول بصوت يختلجه الإيمان: سادتي: ما كاد يظهر نبأ تأسيس البنك حتى وجهت إلينا الاعتراضات الآتية: أولاً: إننا أردنا لبنك مصر ورأس ماله صبغة مصرية، فأثبتنا تعصبنا وتأخرنا في المدنية. ثانياً: إنه ليس في مصر من يصلح لأعمال البنوك. ثالثاً: إن الأمة، مع كل الطبل والزمر اللذين أحاطا بالمشروع، لم يمكن أن يجمع منها سوى ثمانين ألفاً من الجنيهات، من أسماء كثيرين، اكتتب كل منهم بمبلغ زهيد، مما يدل على أن الأمة غير مستعدة للأعمال الاقتصادية.
وماذا يراد أن يُعمل بمثل هذا المبلغ الزهيد الذي لا يفي ربحه لدفع أجرة المحل ومرتبات بعض الموظفين.
دعونا نبتعد عن هذا الحديث قليلاً، لنتدرج فنعود إليه. نشأ طلعت حرب - أول ما نشأ - أديباً يحمل القلم، ويصدر عنه المقال تلو المقال، والكتاب إثر الكتاب، ينافح بها في إيمان الكاتب المخلص، والمسلم المؤمن، والأديب الموهوب، عن كيان المجتمع وحرمة التقاليد، والمحافظة على تراثنا الإسلامي من الفضيلة والعفاف.
وكانت جهوده الاقتصادية آنذاك تقوم في ركن هادئ من حياته القلمية البارزة. وهناك.

في أفق الأدب المتسع، والفن الوضاء، ارتبطت روح طلعت الأديب، بروح شوقي الشاعر، وأدرك كل منهما نواحي العظمة في صاحبه، ثم مرت الأيام تجلو أقدار الرجال، وإذا بالروحين الحبيبين، روح الأديب وروح الشاعر، لا يزيدهما مر الأيام إ تسانداً، فكلما بنت يد طلعت حرب، عزفت قيثارة شوقي.
وكلما تحدث طلعت حرب، تغنى بشاعرية شوقي.
فترى طلعت حرب يحتفظ بآثار صاحبه الشاعر في أعز ركن من بيته، ثم تراه في الحفلة التي أقامها التجار لتكريم الزعيم الطيب الذكر سعد زغلول في فندق سميراميس يوم 13 أبريل سنة 1921، ينتهي في خطابه الكريم بقوله: واختتم متمثلاً بقول شاعرنا شوقي: صح بالصباح وبَشِّر ...
أبناء بالمستقبل واسأل لمصر عناية ...
تأتي وتهبط من عل قل ربنا أفتح رحمةً ...
والخير منك فأرسل أدرك كنانتك العز ...
يزة ربنا وتَقَبَّلِ أما تراه يقول (شاعرنا شوقي)؟ أو لم يكن شوقي شاعر بنك مصر الذي صحبه في شعره من يوم تأسيسه، وسجل حركاته وبركاته وشركاته؟ أليس هو القائل للامية المشهورة في تأسيس بنك مصر، والتي مطلعها: قف بالممالك وأنظر دولة المال ...
واذكر رجالاً أدالوها بإجمال وانقل ركاب القوافي في جوانبها ...
لا في جوانب رسم المنزل البالي ما هيكل الهرم الجيزي من ذهب ...
في العين أزين من بنيانها الحالي أو ليس هو قائل الدالية العصماء في الاحتفال بوضع الحجر الأول في أساس بنك مصر، التي مطلعها: نراوَحُ بالحوادث أو نُغَادَى ...
وننكرها ونعطيها القيادا ونحمدها وما رعت الضحايا ...
ولا جَزَتْ المواقف والجهادا لحاها الله! باعتنا خيالاً ...
من الأحلام واشترت اتحادا أو ليس هو صاحب الميمية الخالدة في حفلة افتتاح الدار الجديدة لبنك مصر، التي مطلعها: نبذ الهوى وصحا من الأحلام ...
شرقٌ تنَّبه بعد طول منام ثابت سلامته وأقبل صحوه ...
إلا بقايا فترة وسقام والآن، آن أن نستجمع آثار هذه الصلة بين سيد الشعراء وسيد رجال المال، لنرى كيف عكست صورتها الجلية على روحيهما في تلك الليلة المشهودة، ليلة تأسيس بنك مصر في اليوم السابع من مايو سنة 1920، حين وقف طلعت يردد ما يثيرون تجاهه من اعتراضات، فراعنا كل الروعة أن نجد هذه الاعتراضات مردودة كلها في قصيدة شوقي التي قالها في نفس الليلة، ويدهشك أن يحدث هذا الاتفاق بغير سابق اتفاق إلا صلة الروحين الساميتين. الاعتراض الأول، أننا أردنا لبنك مصر ورأس ماله صبغة مصرية، فأثبتنا تعصبنا وتأخرنا في المدنية.
وفي ذلك يقول شوقي إن الدنيا للمال، ولا حياة لأمة بغير المال: والمال، مذ كان تمثال يطاف به ...
والناس مذ خلقوا عُبَّاد تمثال إذا جفا الدور فانع النازلين بها ...
أو الممالك فاندبها كأطلال والاعتراض الثاني، أنه ليس في مصر من يصلح لأعمال البنوك، وفي ذلك يقول شوقي إننا قد خطبنا المعالي، وأردنا جلائل الأعمال، فعلينا أن نعد العدة لها، فيومئذ لن يصعب على المصري شيء، ويومئذ يصلح المصري لكل جليل، وهذه العدة هي العلم والمال يا طالباً لمعالي المُلك مجتهداً ...
خذها من العلم أو خذها من المال بالعلم والمال يبني الناس ملكهم ...
لم يُبْنَ مُلْكٌ على جهل وإقلال والاعتراض الثالث، أن الأمة مع كل الطبل والزمر اللذين أحاطا المشروع، لم يمكن أن يجمع منها سوى ثمانين ألفاً من الجنيهات وعندئذ يهيب شوقي بسراة مصر أن يهبوا لدفع هذه الدعوى، ونصرة الوطن، إذ يقول: سراة مصر، عهدناكم إذا بسطت ...
يد الدعاء، سراة غير بَخَّال تبين الصدق من مَيْن الأمور لكم ...
فامضوا إلى المال لا تلووا على الآل ويحدثهم عن الخير المنتظر من وراء هذه الدار فيقول: دار إذا نزلت فيها ودائعكم ...
أودعتم الحبَّ أرضاً ذات إغلال آمال مصر إليها طالما طمحت ...
هل تبخلون على مصر بآمال؟ فابنوا على بركات الله واغتنموا ...
ما هيأ الله من حظ وإقبال يقول الأديب الكبير (تورناد) إن الرجال يذهبون، ولا يبقى من مجدهم إلا ورقات تتعب رؤوس التلاميذ في المدارس ولكن مجد طلعت حرب، شيء أسمى من مجد الرجال، وهو باقٍ ما بقى بنك مصر ومؤسساته على أثبت الدعائم، ودعائمه هي القلوب، إلى ما شاء الله. صالح جودت

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣