أرشيف المقالات

لبرلة الأخلاق

مدة قراءة المادة : 3 دقائق .
لبرلة الأخلاق


لا نستطيع أن نفهم الأخلاق إلا في كيفية ممارستها وتطبيقها على أرض الواقع في كافة المجالات والمعاملات، ولا يُمكن لنا أن نجرِّدَها مِن ذاتيتها، ونصغِّرها فنجعل منها كتلة مُتجزِّئة لا تَستطيع تحقيق المنفعة منها، تتَّفق الأخلاق دائمًا في كافة العصور والأديان على أنها عامَّة، لا يمكن لأيِّ شخص أن يحتكرها أو يسوقها أو يقلِّل من ماهيتها تبعًا للتطور العلمي والتكنولوجي، أو تماشيًا مع السياق السياسي العام للمنظومة السياسية في إطار تحقيق المنفعة الكلية تحت شعارات: الانفتاح، والحرية، والأمن، والسلام.
 
إنَّ عولمة الأخلاق ليست إنجازًا بقدر ما هي انحدار خلقيٌّ وأخلاقي، لازَمَ المجتمعات الضَّعيفة تحت شعار تحريرها من الظلم والقيود المفروضة عليها.
 
تدفعني ذاتي أحيانًا للوقوف على مدى الظلم الذي خلَّفته لنا منظَّمة عولمة الأخلاق، وسأَذكر في ثنايا هذا المقال لماذا أطلقتُ منظَّمة وليس منظومة؛ فعولمة الأخلاق هي ردٌّ مُمنهج لعقيدة الإسلام بحد ذاته، فالإسلام - منذ بزوغه وحتى اكتِمال دعوته - انطلَقَ وسار على منهج الأخلاق القويمة التي تُلازم البشرية في حياتها في كافة المجالات، فالأخلاق ليست مُقتصرةً على منهج السلوك بقدر ما هي تطبيق وفعلٌ يُمارسه أيُّ فرد مع أسرته وعمله، ومع أصدقائه وجيرانه، وفي تعاملاته الاقتصادية والسياسية، ومع ذلك لم أكن مستوعبًا مفهوم "لَبْرلَة الأخلاق"؛ لماذا غَزانا وحل ضيفًا عزيزًا على مجتمعاتنا، ورحَّبنا به وأكرمناه، وجعَلْنا منه عُنوانًا للمُمارسة الأخلاقية الأبدية لنا؟
 
فترحيبنا به يأتي نتاجًا للضَّعف والقصور الذاتي في عدم تطبيق الأخلاق قولًا وفعلًا في حياتنا، والدليل على ذلك أن جعل هذا المفهوم من ذاته منظمة عملاقة تحمي مجتمعاتنا من الذئاب التي تستوطن بداخلِه، ولم نكن نُدرِك أن تلك المنظمة هي الذئب التي افترست الآدميِّين منَّا تحت ستار الحماية وتوفير الأمن والحرية.
 
أمام هذا الواقع الهشِّ الذي تُعانيه مجتمعاتنا، فإن "لبرَلَة الأخلاق" قد زادت الطين بلَّة؛ فلم تَستطِع أن تُداوي الجرح وتسعف المريض وتشخِّص حالتَه، وتُعطي له الدواء المناسب، بل على العكس تمامًا؛ زادت حالة المريض خطورةً أكثر؛ فمعَها فهمت المُجتمعات أن الحرية أن تفعل ما تشاء، وأن تخرج وقتما تشاء بدون أي رقابة أو مساءلة، وأن يجلس الشاب مع فتاة بدون أيِّ ضوابطَ أو قيودٍ تنظِّم طبيعة العلاقة، وأن يتكلم الموظف مع زميلته في العمل بدون مُراعاة لمشاعرِها، وأن يخلو الأبناء بشاشات التلفزة والكمبيوتر بدون إرشاد ومراقبة مِن أُسَرِهم.
 
وفي نهاية الأمر لم نكن على قدرٍ من المسؤولية والوعي الكافي، فانتشرت الرذيلة، وعمَّت الفاحِشة في مجتمعاتنا، وفقَدْنا مركز السيطرة والضبط في علاقتنا، وخرجنا عن الطَّور المعهود، فلم يعدْ يَعني لنا الحياء شيئًا، بل أصبَحَ ممرًّا عابرًا في حياتنا، تَلفِظُه ألسنتُنا، ولا تَستشعِرُ به جوارحنا.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن