أرشيف المقالات

لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض   عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها، وصاعًا من تمر".   وفي لفظ: "وهو بالخيار ثلاثًا".   تلقي الركبان من البيوع المنهي عنها لما يحصل فيها من الغرر على الجالب والضرر على أهل السوق، وروى مسلم عن أبي هريرة يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار"، وقال البخاري: (باب النهي عن تلقي الركبان، وأن بيعه مردود؛ لأن صاحبه عاص آثم إذا كان به عالِمًا وهو خداع في البيع، والخداع لا يجوز).   قوله: (لا تلقوا الركبان) في حديث ابن عمر: "ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلى السوق"، وعنه قال: (كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى يبلغ به وسق الطعام)، قال البخاري: (هذا في أعلى السوق يبينه حديث عبيدالله، قال: حدثني نافع عن عبدالله رضي الله عنه قال: كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق، فيبيعونه في مكانهم، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه).   قوله: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" في حديث ابن عمر: "ولا بيع بعضكم على بيع أخيه"، ولمسلم: "لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له"، وللنسائي: "لا يبع الرجل على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر"، وللبخاري من حديث أبي هريرة: "وأن يستام الرجل على سوم أخيه"، ولمسلم: "لا يسم المسلم على سوم المسلم"، قال الجمهور: لا فرق في ذلك بين المسلم والذمي، وذكر الأخ خرج للغالب، فلا مفهوم له.   قال العلماء: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأزيد وهو مجمع عليه، وأما اليوم فصورته أن يأخذ شيئًا ليشتريه، فيقول له: رده لأبيعك خيرًا منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استرده لأشتريه منك بأكثر، ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر[1]؛ انتهى.   وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلسًا وقدحًا، وقال: من يشتري هذا الحلس والقدح، فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يزيد على درهم؟ من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه)؛ أخرجه أحمد وأصحاب السنن، قال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم ولم يروا باسًا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث، قال ابن العربي: لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث، فإن الباب واحد والمعنى مشترك)؛ انتهى.   قوله: (ولا تناجشوا) النجش: هو الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، فإن كان ذلك بمواطأة البائع، فيشتركان في الإثم، وإلا فيختص بذلك النجش، وقال ابن قتيبة: النجش الختل والخديعة، ومنه قيل للصائد: ناجش؛ لأنه يختل الصيد ويحتال له؛ انتهى.   وقال البخاري: وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا خائن، وهو خداع باطل لا يحل، قال النبي صلى الله عليه وسلم-: "الخديعة في النار، ومن عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد"، وأخرج عبدالرزاق من طريق عمر بن عبدالعزيز أن عاملًا له باع سبيًا، فقال له: لولا أني كنت أزيد فأنفقه، لكان كاسدًا، فقال له عمر: هذا نجش لا يحل، فبعث مناديًا ينادي: أن البيع مردود وأن البيع لا يحل.   قوله: (ولا يبع حاضر لباد)، وفي رواية لمسلم: (لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)، وقال البخاري: باب هل يبيع حاضر لباد بغير أجر وهل يعينه أو ينصحه.   وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استنصح أحدكم أخاه، فلينصح له"؛ انتهى.   وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد"، قال: فقلت لابن عباس ما قوله لا يبيع حاضر لباد، قال: لا يكون له سمسارًا".   وقوله: (ولا يبع) نفي بمعنى النهي، وصورت به الحاضر للبادي: أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه، ويرجع فيأتيه البلدي، فيقول: ضع عندي لأبيعه على التدريج بزيادة سعر، وذلك إضرار بأهل البلد، وروى أبو داود: أن أعرابيًّا قدم بحلوبة له، فنزل على طلحة بن عبيدالله، فقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، ولكن اذهب إلى السوق، فانظر من يبايعك، فشاورني حتى آمرك أو أنهاك.   والجمهور على أن النهي على التحريم بشرط العلم به، وأن يكون المتاع المجلوب مما يحتاج إليه، وقوله: "ولا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردَّها وصاعًا من تمر"، وفي لفظ: "وهو بالخيار ثلاثًا"، وقوله: "لا تُصروا" بضم التاء من صري يصري بالتشديد تصرية، والمصراة التي صري لبنها وجمع، فلم يحلب أيامًا، وهذا حرام؛ لأنه غش وخداع، وفي رواية: "من اشترى غنمًا مصراة فاحتسبها، فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من اشترى شاة محفلة فردها، فليرد معها صاعًا، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تلقى البيوع"؛ رواه البخاري، وللنسائي عن أبي هريرة: "إذا باع أحدكم الشاة أو اللقحة فلا يحفلها"، قوله: "فهو بخير النظرين"؛ أي الرأيين، قوله: "إن رضيها أمسكها"؛ أي: أبقاها على ملكه.   قال الحافظ: (وهو يقتضي صحة بيع المصراة وإثبات الخيار للمشتري، وقال ابن دقيق العيد: حكم التصرية قد خالف القياس في أصل الحكم لأجل النص، فيطرد ذلك ويتبع في جميع موارده.   قوله: (وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر). قال الحافظ: واستدل به على وجوب رد الصاع مع الشاة إذا اختار فسخ البيع، فلو كان اللبن باقيًا ولم يتغير، فأراد ردَّه هل يلزم البائع قبوله فيه وجهان أصحهما لا لذهاب طراوته ولاختلاطه بما تجدد عند المبتاع، والتنصيص على التمر يقتضي تعيينه.   وقال: وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جمهور أهل العلم، وأفتى به ابن مسعود وأبو هريرة، ولا مخالف لهم من الصحابة، وقال به من التابعين ومن بعدهم مَن لا يُحصى عددُه، ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلًا أو كثيرًا، ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا، وخالف في أصل المسالة أكثر الحنفية، وفي فروعها آخرون؛ انتهى.   وحكى البغوي: أنْ لا خلاف في المذهب أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره كفى، وقال ابن عبدالبر: هذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وأصل في ثبوت الخيار لمن دلَّس عليه بعيب، وأصل في أنه لا يفسد أصل البر، وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام، وأصل في تحريم التصرية، وثبوت الخيار بها؛ انتهى.   وقال ابن السمعاني: متى ثبت الخبر صار أصلًا من الأصول، ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر؛ لأنه إن وافقه فذاك، وإن خالفه فلا يجوز ردُّ أحدهما؛ لأنه رد للخبر بالقياس، وهو مردود باتفاق، فإن السنة مقدمة على القياس بلا خلاف، إلى أن قال: والأولى عندي في هذه المسالة تسليم الأقيسة، لكنها ليست لازمة؛ لأن السنة الثابتة مقدمة عليها)[2]، والله تعالى أعلم.


[1] فتح الباري: (4 /353). [2] فتح الباري: (4 /362).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن