أرشيف المقالات

شرح حديث جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان (9)

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2شرح حديث جبريل وسؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان (9)   قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ثم قال عمر رضي الله عنه فيما نقله عن جبريل عليه الصلاة والسلام، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».   الإحسان: ضدُّ الإساءة، والمراد بالإحسان هنا إحسان العمل، فبيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه؛ يعني: تُصَلِّي وكأنك ترى الله عز وجل، وتزكِّي وكأنك تراه، وتصوم وكأنك تراه، وتحج وكأنك تراه، تتوضأ وكأنك تراه، وهكذا بقية الأعمال؛ وكون الإنسان يعبد الله كأنه يراه دليل على الإخلاص لله عز وجل وعلى إتقان العمل في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل من عبد الله على هذا الوصف فلا بد أن يقع في قلبه من محبة الله وتعظيمه ما يحمله على إتقان العمل وإحكامه.   «فإن لم تكن تراه فإنه يراك»؛ أي: فإن لم تعبد الله على هذا الوصف فاعبده على سبيل المراقبة والخوف؛ فإنه يَرَاك، ومعلوم أن عبادة الله على وجه الطلب أكمل من عبادته على وجه الهرب.   فها هنا مرتبتان: المرتبة الأولى: أن تعبد الله كأنك تراه، و هذه مرتبة الطلب، والثانية: أن تعبد الله وأنت تعلم أنه يراك، وهذه مرتبة الهرب، وكلتاهما مرتبتان عظيمتان، لكن الأولى أكمل وأفضل.   ثم قال جبريل: «أخبرني عن الساعة»؛ أي: عن قيام الساعة التي يبعث فيها الناس ويُجازَونَ فيها على أعمالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»؛ المسؤول عنها؛ يعني: نفسه عليه الصلاة والسلام، بأعلم من السائل؛ يعني: جبريل؛ يعني: أنك إذا كنت يا جبريل تجهلها، فأنا كذلك أجهلها؛ فهذان رسولان كريمان أحدهما رسول ملكي، والثاني رسول بشري، وهما أكمل الرسل، ومع ذلك فكلٌّ منهما ينفي أن يكون له علم بالساعة؛ لأن علم الساعة عند من بيده إقامتها عز وجل، وهو الله تبارك وتعالى؛ كما قال الله في آيات متعددة: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ﴾ [الأعراف: 187]، ﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 63]؛ فعلمها عند الله، فمن ادَّعى علم الساعة فإنه كاذب، ومن أين له أن يعلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم، وجبريل عليه الصلاة والسلام لا يعلم، وهما أفضل الرسل.   ولكن الساعة لها أمارات، كما قال الله تعالى: ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ [محمد: 18]؛ أي: علاماتها؛ ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أنه لا علم له بذلك قال: «فأخبرني عن أماراتها»؛ أي: علاماتها الدالة على قربها.
فقال: «أن تلدَ الأمةُ ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان»؛ الأول: «أن تلد الأمة ربتها»؛ يعني: أن تكون الأمة المملوكة تتطوَّر بها الحال حتى تكون ربَّةً للمماليك الآخرين، وهو كناية عن كثرة الأموال، وكذلك الثاني: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان»؛ الحفاةُ: الذين ليس لهم نعال من الفقر، والعُراةُ: ليس لهم كسوة من الفقر، العالة: الفقراء، يتطاولون في البنيان: يعني أنهم لا يلبثون إلا أن يكونوا أغنياء يتطاولون في البنيان حسًّا ومعنى، يتطاولون في البنيان حسًّا بأن يرفعوا بنيانهم إلى السماء، ويتطاولون فيها معنى بأن يحسِّنوها ويزيِّنوها ويُدخلوا عليها كل ما يكون من مكمِّلاتها؛ لأن لديهم وفرة من المال، وكل هذا وقع، وهناك أمارات أخرى وعلامات أخرى ذكرها أهل العلم في باب الملاحم والفتن وأشراط الساعة، وهي كثيرة.   ثم انطلق جبريل عليه الصلاة والسلام، ولبثوا ما شاء أن يلبثوا، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «أتدرى من السائل؟»، قال: الله ورسوله أعلم! قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».   وفي هذا الحديث من الفوائد: 1- إلقاء المسائل على الطلبة ليمتحنهم؛ كما ألقى النبي عليه الصلاة والسلام المسألة على عمر رضي الله عنه.   2- وفيه أيضًا جوازُ قول الإنسان: الله ورسوله أعلم، ولا يلزمه أن يقول: الله ثم رسوله أعلم؛ لأن علم الشريعة الذي يصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام من علم الله، فعلم الرسول من علم الله سبحانه وتعالى؛ فصحَّ أن يقال: الله ورسوله أعلم؛ كما قال الله تعالى ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 59]، ولم يقل: ثم رسوله؛ لأن الإيتاء هنا إيتاء شرعي، وإيتاء النبي صلى الله عليه وسلم الشرعي من إيتاء الله؛ فالمسائل الشرعية يجوز أن تقول: الله ورسوله، بدون «ثمَّ»، أما المسائل الكونية؛ كالمشيئة وما أشبهها، فلا تقال: الله ورسوله، بل: الله ثمَّ رسوله؛ ولهذا لما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: «أجعلتني لله ندًّا، بل ما شاء الله وحده».   3- وفي هذا دليل على أن السائل إذا سأل عن شيء يَعْلَمهُ من أجل أن ينتفع الآخرون فإنه يكون معلِّما لهم؛ لأن الذي أجاب: النبي عليه الصلاة والسلام وجبريل سائل لم يعلِّمِ الناس، لكن كان سببًا في هذا الجواب الذي ينتفع به الناس، فقال بعض العلماء: إنه ينبغي لطالب العلم إذا جلس مع عالم في مجلس أن يسأل عن المسائل التي تَهمُّ الحاضرين وإن كان يعلم حكمها؛ من أجل أن ينفع الحاضرين ويكون معلِّما لهم.   4- وفي هذا دليل على بركة العلم، وأن العلم ينتفعُ به السائل والمجيب، كما قال هنا: «يُعَلِّمُكُم دِينَكُم».   5- وفيه أيضا دليل أن هذا الحديث حديث عظيم يشتمل على الدين كُلِّه؛ ولهذا قال: «يعلِّمكم دينكم»؛ لأنه مشتمل على أصول العقائد وأصول الأعمال.
أصول العقائد وأصول الأعمال هي أركان الإسلام الخمسة.
والله الموفق.   المصدر: «شرح رياض الصالحين» (1 /480 - 484)



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير