أرشيف المقالات

ماذا عن التسري بملك اليمين؟

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2ماذا عن التسري بملك اليمين؟
من المعلوم في نظام الرقِّ في الإسلام أن الإسلام أباح للسيد أن يكون عنده عدد من الجواري من سبي الحرب يستمتع بهن وحده، ويتزوَّج منهن أحيانًا إذا شاء، والقرآن الكريم قد أقرَّ هذه الحالة حين قال: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [المؤمنون: 5، 6].   فبعض الذين في قلوبهم مرضٌ من مستشرقين أو مستغربين أو مُلحِدين يقولون: كيف يبيح الإسلام نظامَ الجواري؟ وكيف يترك المجالَ للسيد أن يقضي وطرَه بعدد من النساء رغبة في لذة الجنس وإشباع الشهوة؟[1]، قبل أن أُجيب على الشُّبهة التي يُثيرها أعداء الإسلام حول نظام الجواري أريد أن أُبيِّن هاتين الحقيقتين:   لا يجوز للمسلم أن يقضي وطرَه مع أيَّة أسيرة من أسرى الحرب إلا بعد أن يقضي الحاكم باسترقاقهن، ولا يجوز للمسلم أن يقضي وطرَه إلا بعد أن تُصبح مِلْك يمين له.   ولا تصبح الأسيرة بعد استرقاقها مِلك يمين المسلم إلا في حالتين: الأولى أن تصبح الأسيرة نصيبه من الغنيمة.   الثانية: أن يشتريها من الغير إذا كانت مملوكة، وبعد أن تصبح مِلكًا له، لا يجوز له أن يَمَسها إلا بعد أن يستبرئَها بحيضة على الأقل؛ للتأكد من عدم الحمل، ثم يأتيها - إن شاء - كما يأتي زوجته[2].   وبعد تِبيان هذه الحقائق أجيب على هذه الشبهة التي يثيرها أعداء الإسلام حول التسري بمِلْك اليمين، سبق أن ذكرنا أن الأَمَة حينما تكون مملوكة للمسلم يجوز لمالكها أن يُعاشِرها معاشرة الأزواج، فإذا ولَدت له ولدًا أصبحت في نظر الشرع "أم الولد"، وفي هذه الحالة يَحرُم على السيد أن يبيعها، وإذا مات ولم يُعتِقها في حياته فإنها تصبح حرَّة بعد مماته مباشرة، وكذلك يَحِق لها أن تُطالِب بحريتها بنظام المكاتبة الذي سبق ذكره، وتصبح على مقتضاه حرة طليقة[3].   إذًا، فالإسلام حين أباح للسيد نظام الجواري أراد من وراء ذلك الإحسان إليهن بالمعاملة، وتحريرهن من الاسترقاق، وأراد أيضًا تخليصهن من التشرد والبِغاء، بينما كانت أسيرات الحرب في الأنظمة الاجتماعية غير الإسلام، يهوين إلى حمأة الرذيلة، ومُستنقَع الفاحشة، بحكم أنه لا عائل لهن؛ ولأن سادتهن لا يشعرون نحوهن بنخوة العِرض، وحمية الشرف، بل كانوا يشغلون الأسيرات بعد استرقاقهن بمهنة الخنا والزنا، ويتكسبون من ورائهن بهذه التجارة القذرة، تجارة الأعراض، وانتهاك الحُرمات.   لكن الإسلام العظيم المتحضِّر لم يَقبَل البِغاء، ولم يَسلُك مع الإماء هذا المسلك القذر، بل حرص على سُمعتهن وأخلاقهن، كما حرص على نظافة المجتمع، من دنس الزنا، وتفشي الإباحية، فما وجد بدًّا سوى أن يقصر هؤلاء الجواري على سيدهن فقط، عليه إطعامهن وكسوتهن، وحفظهن من الجريمة، وإرضاء حاجاتهن الجنسيَّة، وبالتالي يقضي منهن حاجتَه.   فضلاً عن حُسْن المعاملة التي يلقينها حتى إذا أحسسن من الداخل بحاجتهن إلى الحرية طالبن أسيادهن بها بمقتضى نظام المكاتبة الذي شرعه الإسلامُ، وإذا بقيت عنده وحملَتْ أصبحت "أم الولد"، هي في طريقها إلى التحرير، بل أصبحت بمثابة الزوجة بما تلقاه من حقوق وتكريم[4].   فالإسلام قد أباح إذًا للموالي أن يُعاشِروا مَن ملكت أيمانهم؛ ليكون ذلك وسيلة إلى تحرير العبيد وعِتْق الرقاب، وقد استغلَّ الإسلامُ في ذلك ميولَ الغريزة للقضاء على روافد الرقِّ وإشاعة الحرية بين الناس، ولكي يتحقَّق هذا الغرضُ الإنساني النبيل على أتمِّ صورة وأكمل وجه أجاز الإسلام أن يتسرَّى السيد بجواريه بدون تقيُّد بعقد ولا بعدد، فلم يُقيِّده بتعاقد ولا إيجاب ولا قَبُول؛ لأنه وسيلة تؤدي إلى حرية الجارية وحرية جميع نسلها إلى يوم القيامة، لا تَصِح أن تتوقَّف على رأيها وعلى قَبُولها، بل ينبغي أن تُذلل سبلها أو تنتهز بمجرد إقدام السيد عليها.   ولم يُقيِّده الإسلام بعدد، بل أجاز للسيد أن يتسرَّى بكلِّ مَن يرغب؛ لأن التسري بهن من جواريه بالغًا ما بلغ من عددهن وسيلةٌ تؤدي إلى حرية الجواري واتصال نسب أولادهن بالسيد، وحرية جميع نسلهن إلى يوم القيامة لا يَصِح أن تُقيَّد بعدد؛ لأن تقييدها بذلك معناه تقييد منافذ الحرية، والإبقاء على روافد الرقِّ، بل إنه مما يتَّسِق مع الغرض النبيل الذي يرمي إليه الإسلام ألا تُدَّخر وسيلة لإغراء الموالي باتخاذ السراري والإكثار من عددهن، لتشمل الحرية أكبر عدد ممكن، وليُقضى على الرق في أقصر وقت مستطاع.   ومن هذا يَتبيَّن فساد ما وجَّهه الفرنجة إلى نظام التسري في الإسلام من مآخذ، وتظهر لنا الأغراض الإنسانية السامية النبيلة التي قصد إليها الإسلام إذ أباح هذا النظام، وإن توسَّع في إباحته، فلم يُقيِّده بعَقد ولا بعدد[5].   إن الذين يَعترِضون على هذه الأحكام بكل جرأة ظنًّا منهم أنها من مخترعات المشايخ المُحترفين - كاذبون؛ لأن هذه أحكام رب العالمين، في قرآنه المبين، لحِكمة يعلمها الحكيم العليم، وكل الذي نفعله أننا نبحث عن المقصود من وراء هذه الإباحة، وما هي الصور المقررة في الشريعة للانتفاع بها[6].   ولذا فإن الإسلام، وإن أباح للمسلمين استرقاقَ أسرى الحرب بمقتضى ضرورة ملحَّة، لكنه في الوقت نفسه سَنَّ من القوانين والنُّظم ما دعا المسلمين إلى أن يُعامِلوا الأسرى في حالة الرق والاستعباد بأحسن أنواع الخير وأفضل صور المعروف، وهيَّأ من الأسباب والدواعي ما يَجذبهم شيئًا فشيئًا إلى المجتمع الإسلامي، ويجعلهم أفرادًا من أفراده، هذا هو المقصود الذي لأجل تحقيقه أباح الإسلام التمتع بالسراري.   ارجعوا بنظركم إلى ما قبل بضعة قرون، وافرضوا أن الحرب قائمة بين المسلمين وأمة أجنبية ويصيب المسلمون فيها آلافًا من نساء هذه الأمة، وفيهن عدد كبير للنساء الجميلات والشابات.   أما العدو فلا يَستنقِذهن بدفع الفدية لهن بما قد أصاب من نساء المسلمين، وأما المسلمون فلا يستطيعون أن يُسرِّحوهن منًّا عليهن؛ لأنهم لا يَرجون بذلك قطعًا أن يسرح العدو نساءهم، فهم لأجل كل ذلك مضطرون إلى الإمساك بهن، فقولوا لي الآن، ماذا ينبغي أن يُصنَع بهذا العدد العظيم من نساء العدو الداخلات في دار الإسلام، أما حبسهن بصفة دائمة فهو ظلْم، وأما تخلية سبيلهن في دار الإسلام فكأنه نشْرٌ لجراثيم الخلاعة والمجون والفِسق والفجور في الدولة؛ لأن الأضرار الخُلُقية لا بد أن تنشأ بهن حيثما وُضِعن في الدولة، فيفسد المجتمع من جانب وتوصم جباههن بالعار والذل إلى الأبد من جانب آخر، فهي مشكلة شائكة يُعالِجها الإسلامُ بتوزيعهن بين أفراد الأمة، ثم تلقينهم بكل تأكيد ومبالغة ألا يجعلوا منهن بغايا يستدرون الحرام أو يكسبون المال بطريقهن، وإنما عليهم أن يتمتَّعوا بهن إلى حد أنفسهم فحسب، أو أن يزوِّجوهن من غيرهم حتى لا يَقترِفن الفاحشة ويتَّخِذن الأخدان في المجتمع، وقد ورد التصريح بمختلف مواد هذا القانون في مواضعَ مختلفة من القرآن؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [النور: 33]، هذه هي أول مادة من مواد هذا القانون، أغلقت باب مصرف شنيع للإماء بتاتًا، إلا أن هذا الحكم للإماء اللاتي يردن التحصن لأنفسهن، وأما المائلات منهن إلى الفجور فقيل فيهن: ﴿ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [النساء: 25]، فهكذا سَدَّ على الإماء طريق البغاء والفجور رغبة أو كراهة منهن بكل معنى الكلمة، إلا أن الإماء لهن كذلك ما للحرائر من مطالب النفس وغرائز الطبيعة، ومن اللازم كذلك قضاء مطالبهن، ولولا ذلك لكان ظلمًا وتعسفًا بحقهن في جانب، وفي الجانب الآخر لا بد أن تتفتح بذلك أبواب المفاسد الخُلُقية في المجتمع، فقد اختير طريقان لتحقيق مآربِهن الفطرية بطريقة شريفة: أن يزوِّجهن سادتهن، وفي ذلك قال تعالى: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ﴾ [النور: 32]، وقد رغَّب كذلك مَن لم يستطع من أفراد المسلمين أن يتزوَّج حرة من بيت شريف لفقره وقلة ماله في أن يتزوَّج أَمَة من الإماء على صداق يسير؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [النساء: 25].   وبهذا يتحوَّل حقُّ السيد للزوج؛ لأنه بمحض إرادته حوَّل حقَّه لغيره، على صداقٍ قد ناله، وبناء على ذلك، فإن أمثال هؤلاء الإماء من المحصنات قد حرَّمهن النص القرآني على كل أحد غير أزواجهن؛ قال تعالى: ﴿ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾ [النساء: 25].   أن يتمتَّع بهن السيد نفسه، وذلك على ثلاثة وجوه: أ- أن يتمتَّع بها السيد على أن مِلك اليمين هو قيد من قيود الزواج.   ب- أن يعتقها ثم يتزوَّجها ويعتبر العتق صداقها.   ج- أن يعتقها ثم يتزوَّجها على صداق جديد، وقد آثر النبي صلى الله عليه وسلم الثاني والثالث من هذه الوجوه، واستحثَّ عليهما المسلمين في غير واحد من الأحاديث، ومن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أيما رجل كانت عنده وليدة - أي أَمَةٌ - فعلَّمها فأحسن تعليمَها، وأدَّبَها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوَّجها فله أجران))[7]، وفي رواية أخرى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أَعتِقها ثم أصدِقها))؛ أي: أعطها الصداق، وقد أخرج أبو داود حديثًا آخر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا أعتق الرجل أَمَته ثم أمهرها مهرًا جديدًا كان له أجران))[8]، وقد تزوَّج النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه صفية وجويرية بأن أعتقهما أولاً ثم أدخلهما في حيز الزواج، وهل تزوَّجهما على صداق جديد أم جعل العِتق هو صداقهما؟ ذلك ما اختلفت فيه الروايات، على أن الأغلب أنه -صلى الله عليه وسلم- قد عمِل بكلتي الطريقتين لإظهار مشروعيتهما، فتزوَّج إحداهما على صداق جديد، وجعل العِتقَ هو الصداق للأخرى[9].   وأما قولهم: ألم تكن إباحة التسري في الإسلام نوعًا من البِغاء؟ فالجواب عنه: أن مَن يقول هذا، إما جاهل بمعنى البِغاء، أو بقانون الإسلام للتمتع بالسراري، أما البغاء فهو أن يستعير رجلٌ من امرأة جسدَها بالأجرة، بل قد راج في المجتمعات المتحضرة اليوم نوعٌ جديد من البغاء وهو ما يقال به: "البغاء المتغازل" ما بين علاقات، وهدايا يُقدِّمها الرجل إلى المرأة، ولا تزال "السيدة" مُحتفِظة بمكانتها في المجتمع.   وأما قانون الإسلام للتَّمتع بالسراري فقد بيَّنته آنفًا، فالأحسن المقارنة بينهما قبل أن يقال: إنهما شيء واحد[10].


[1] "نظام الرق في الإسلام" ص: 9. [2] "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" ص: 99، 100، بتصرف. [3] الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" ص: 100، بتصرف، "نظام الرق في الإسلام" ص: 91 - 93. [4] "نظام الرق في الإسلام" (ص: 94، 95) بتصرف، وشبهات حول الإسلام" (ص: 61) بتصرف. [5] "حقوق الإنسان في الإسلام"، ص: 182 - 187 بتصرف. [6] "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" (ص: 81، 82) بتصرف. [7] رواه البخاري كتاب النكاح، باب اتخاد السراري (3: 340)، وأبو داود، كتاب النكاح باب في الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها (2: 221). [8] رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب الرجل يعتق أَمَته ثم يتزوَّجها (2: 221) وسكت عنه. [9] "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة" (ص: 83 - 86) بتصرف. [10] نفس المصدر الأسبق (ص: 101) بتصرف.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣