أرشيف المقالات

أهمية المداراة والحاجة إليها

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
أهمية المداراة والحاجة إليها

المداراة: نصفُ العقل كما قال العلماء؛ قال الحسن البصري: "وأنا أقول: هي العقل كله"[1]، وهي خلة يحتاج إليها الإنسان في حياته، وصفة اجتماعية، وطاعة وقُرْبة؛ قال ابن حِبَّان: الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة، فالمداراة من المداري صَدَقة له، ويلازم المداراة؛ لأنَّها تدعو إلى صلاح أحواله، ومن لم يُدارِ النَّاس ملُّوه، وقد أنشد عليُّ بن محمَّد البسَّامي:

دارِ من النَّاس ملالاتهم
من لم يُدارِ النَّاس مَلُّوهُ

ومكرم النَّاس حبيبٌ لهم
مَنْ أكرمَ النَّاسَ أحبُّوهُ

 
فالواجب على العاقل أن يُداري النَّاس مداراة الرَّجل السَّابح في الماء الجاري، ومن ذهب إلى عشرة النَّاس من حيث هو، كدَّر على نفسه عيشه، ولم تَصْفُ له مودَّتُهم؛ لأنَّ وداد النَّاس لا يُستجلب إلَّا بمساعدتهم على ما هم عليه؛ إلَّا أن يكون مأثمًا، فإذا كانت حالة معصية فلا سَمْعَ ولا طاعةَ.
 
والبشر قد ركِّب فيهم أهواء مختلفة وطبائع مُتباينة، فكما يشقُّ عليك ترك ما جُبِلتَ عليه، فكذلك يشقُّ على غيرك مجانبة مثله، فليس إلى صفو ودادهم سبيل إلَّا بمعاشرتهم من حيث هم، والإغضاء عن مخالفتهم في كلِّ الأوقات؛ إذ إنَّ مَنْ لم يُعاشر النَّاس على لزوم الإغضاء عمَّا يأتون من المكروه، وترك التَّوقُّع لما يأتون من المحبوب كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه إلى أن ينال منهم الوداد، وترك الشَّحْناء، ومن لم يُدارِ صديق السُّوء كما يُداري صديق الصِّدْق ليس بحازم، ولقد أحسن الذي يقول:

تجنَّب صديق السُّوء واصرم حباله
وإن لم تجد عنه محيصًا فدَارِه

وأحبب حبيب الصِّدق واحذر مراءه
تَنَلْ منه صَفْوَ الودِّ ما لم تُمارِه

 
وذلك؛ لأنَّه إذا كان كلَّما رأى من أحد زلَّة رفضه لزلَّته بقي وحيدًا، لا يجد مَنْ يُعاشر، وفريدًا لا يجد من يُخادن؛ بل يغضي على الأخ الصَّادق زلَّاته ولا يُناقش الصَّديق السيئ على عثراته[2].
 
ومن البلادة والحمق المبادرة بالمخاصمة خصوصًا مع الأعداء؛ قال ابن الجوزي: "من البله أن تُبادر عدوًّا أو حسودًا بالمخاصمة؛ وإنَّما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما، إن اعتذر قبِلتَ، وإن أخذ في الخصومة صفحْتَ، وأريتَه أنَّ الأمر قريب، ثم تُبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال، وتتجافاه باطنًا، مع إظهار المخالطة في الظاهر"[3].
 
والناس ليسوا على طبيعة واحدة؛ بل هم على طبائع متعددة، فليتعامل الإنسان معهم حسب طبائعهم؛ قال ابن الجوزي: "فمنهم من لا يأتي إلا على الإكرام، فليُكرمه، فإنه يربح محبَّته، ومنهم من لا يأتي إلا على الإهانة فليُدارِه، وليعرض عن الذنوب؛ فإن لم يكن عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن، وليجعل للمماليك زمن راحة، والعجب ممن يُعنى بدابَّته، وينسى مُداراة جاريته"[4].

[1] الآداب الشرعية؛ لابن مفلح: 3 /468.

[2] روضة العقلاء؛ لابن حبان البستي: 70 -73 بتصرُّف واختصار.

[3] صيد الخاطر؛ لابن الجوزي، ص 351.

[4] صيد الخاطر؛ لابن الجوزي، ص 256.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢