أرشيف المقالات

تأملات في فعل التقوى

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2تأملات في فعل التقوى
إنَّ المتأمِّل والمستعرِض لورود كلمة التقوى في القرآن والسنَّة الصَّحيحة، يلاحِظ حتمًا خطورة ومحوريَّة هذه الكلمة وهذا الفعل في أداء المؤمن وتأثيراتها عليه.   ومن هنا كان علينا أن نتدبَّر ورودها، وأن نَقف على معانيها ومدلولاتها؛ حتى يتسنَّى لنا تطبيقها والعمل بها العمل الصحيح.   وحيث أرى التقوى - أو أن يتَّقي الإنسان - فهو السماع المسلم الطائع لصوت الحق والمنطِق فيه أمام أي وضعيَّة وحال يصادِف الإنسان، ورأس ذلك الفعل ومنتهاه الاعتراف والتسليم بحقيقة الخالِق الفاطِر، الذي خلق الإنسانَ وجعل له منهجًا يسير عليه ويتبعه؛ وذلك هو فعل التقوى.   ومن زاويةٍ أخرى إذا أردنا أن ندقِّق هذا المعنى لِنَقُلِ العكس؛ أي: عدم اتباع أو إسلام الإنسان للمنهج السَّليم الحق الذي جُبل عليه في أي وضعيَّة أو حال يواجهه، وعدم أخذه بما يراه من حقٍّ ومخالفته له في أيِّ أمرٍ من أموره، فحتمًا سيقول: إنَّه أخطأ ولم يصِب.   ولمزيد توضيح وتجلية هذا التعريف، سنستعرِض جملةً من الأمثلة عن فِعل التقوى، ضرَبَها لنا الحقُّ سبحانه في القرآن الكريم، أمثلة جليَّة واضحة تدفع بالمرء الواعي إلى السَّير على نَهج الوعي بالتقوى، وأهمية إتيانها بالنَّظر إلى فوائدها وانعكاساتها الإيجابيَّة على الإنسان.   حيث إنَّ فعل التقوى يساوي مباشرة اتِّباع المنهج السَّليم الذي فُطر عليه الإنسان، فيحقِّق بالقيام به تجنُّب النَّار، ويعَذَّب بوقوعه في الخطيئة ومخالفة المنهج وفسوقه عنه، والعذاب يكون مبدؤه في الدنيا إلى الآخرة؛ (الآية رقم 24 البقرة).   كما أنَّ الإنسان بفطرته أولاً، وبدعوة رسل الله ثانيًا، كائنٌ متسائل بطبعه، وتوَّاق إلى الإجابة عن أسئلة تخامر نفسه: ما مصيري؟ ما نهايتي؟ وما غائية وجودي؟ أضف إلى ذلك الصِّراع بين المنهج الحقِّ في الإنسان والباطل، وما مصير الإنسان إذا رفض وكَفَر حقيقةَ أنَّه مخلوق وعبد لإلهٍ حقٍّ؟! كتب له السعادة في الدارين بسيره واتِّباعه المنهجَ السَّليم الحق، وكتب عليه الشَّقاء بمخالفته أو الفسوق عنه.   إنَّما أثبت وأقام الحجَّة على موجودٍ وحقٍّ، يحاول ويَسعى إلى كُفره وتغطيته وتجاوزه ليفسِح المجال لرغباته وشهواته، ولكن سرعان ما يَصطدم بالحقيقة، وهي حيرة المصير والمآل، واعترافه أنَّه مخطئ مذنِب، فعليه بذلك اتِّقاء ذلك المصير باتِّباع الحق فيه وتصديقه وهو معزَّز بدعوة الرسل إلى ذلك تبيانًا مبينًا واضحًا جليًّا؛ (الآية 48 والآية 123 من سورة البقرة).   إذًا، فرأس الأمر التقوى؛ وهي الإيمان بالحق، والعمل به من أدقِّ الجزئيات في أعمال الإنسان، إلى منتهى ذلك، وهو التصديق الرَّاسخ الصادق الثابت بعبوديَّة الإنسان لخالقه سبحانه.   التقوى فعلٌ وعمل إنسانيٌّ يسيرٌ وواضحٌ لو أراد الإنسان أن يكون ذلك الإنسان النقي الميال إلى التنزُّه والصفاء والارتقاء والابتعاد عن كل شائبة مَأْتاها تكذيب الحقِّ أو مخالفة المنهج والفسوق عنه، فعمل الإنسان مهما كان ظاهرًا باقترابه من العدل والحق فإنه يكون في الحقيقة خاويًا فاسدًا إذا لم يَنبنِ على تقوى الله سبحانه؛ (الآية 189 من سورة البقرة).   ولنرَ هذه الإشارة القرآنيَّة البديعة التي علينا أن ننتبه إليها وندقِّقها؛ ففي هذه الآية السَّامع الواعي عند تطبيقها والعمل بها، يَجد نفسَه أمام أمرٍ إلهيٍّ وحالة تتحتَّم عليه؛ وهي التقوى، وفيها تجسيم لمعنًى شديدِ الأهميَّة؛ وهو عدم الميل إلى الردِّ بمثل الشَّيء، والجنوح إلى السلم والتسامح إلى أقصى حالات ذلك، وهذا مثالٌ عملي لتطبيق فعل التقوى.   إذًا التقوى هي أساسًا النَّظر إلى الله سبحانه في كلِّ فعلٍ أو عمل يقوم به الإنسان، فأنا سامعٌ متَّبع للحق، فهي حقيقة الإيمان وجوهر العمَل الصالح والمثمِر، وهذا مثال عمليٌّ آخر يجب تَدقيق الوقوف عنده وتأمُّله، وقد ورد في الآية (278 من سورة البقرة).   حيث إنَّ الحقَّ سبحانه يوجِّه أمرًا للمؤمن بالتقوى، وتطبيق ذلك الأمر حتمًا سيجعله يفهم ويستوعب أن فعل الرِّبا فيه ابتعاد وعِصيان وفسوق عن المنهج الحق، وبالتالي العدول عنه وعدم إتيانه، وتطبيق ذلك هو مقياسُ وجود الإيمان من عدمه، بذلك تتبيَّن خطورة وأهميَّة فعل التقوى في حياة الإنسان المؤمن.   مرة أخرى في (الآية 50 من سورة آل عمران) إشارة جلِيلة إلى أهميَّة الوعي بفعل التقوى كفعلٍ ممارَس له نتائجه وآثاره؛ ففي هذه الآية كانت الطَّاعة للرسول مشروطة بفِعلٍ يجب أن يُتَّبع من قبل، وهو التقوى، لتكون الطاعة طاعة.   وهذه الآية (الآية 131 من سورة النساء) تجلِّي حقيقةً أخرى، تدفع الواعي إلى الحِرص على استيعاب فِعل التقوى والعمل به، وهو مقابلة التقوى إن مُورِسَت للإيمان وإن غيِّبَت للكفر.   وها هي الآية (رقم 35 من سورة المائدة) تؤكِّد أنَّ فلاح المؤمن ونجاحه ومقياس إيمانه وحقيقته وفاعليَّته مشروطٌ بفِعل التقوى ومدى تطبيقه ودرجة مداه، وذلك أيضًا في الآية 119 من سورة التوبة التي تبيِّن أن فِعل التقوى يجعلك مع الصَّادقين، كما تؤكِّد الآية 16 من سورة التغابن ذلك المعنى.   إذًا فالتقوى سماعٌ للحقِّ وطاعة وسَير عمليٌّ على المنهج السَّليم الذي فُطر عليه الإنسان، وهو رأس الأمر كله، وهو مقياس الإيمان والفلاح.   من ذلك نَخلص مباشرة إلى السؤال التالي: ما هي ثِمار ونتائج وآثار فِعل التقوى على الإنسان؟   المتقي ناعِمٌ في الدنيا وفي الآخرة، يعيش الراحةَ والطمأنينة باتِّباعه للحق والسَّبيل السليم الذي فُطر عليه، فهو كما قلنا: سَمِع وأطاع، فهو مؤمن حقًّا صادق قوله، أساسه ثابت، وعمله صالِح مثمِر خير، فلا قلق ولا معاناة، مفعمٌ بالطمأنينة والثَّبات.   حاله ذلك يبشِّر بالفوز والنَّجاة والفلاح في الآخرة، فجزاؤه في الآخرة الجنَّة والنَّجاة من سوء الحِساب والعذاب، وقد جلَّى ذلك العديدُ الآيات في القرآن؛ من ذلك مثلاً (الآية 70 من سورة الأحزاب - الآية 72 مريم - 35 الرعد - 15 آل عمران - 81 الأنعام).   إذًا نَيل المتَّقي لذلك كان سببُه تطبيق وتفعيل فِعل التَّقوى فيه، فهو مخلوقٌ طائع سامِع، عامل بالمنهج الذي فَطره عليه خالقُه وأراده له؛ لذلك فهو مخلوقٌ سعيد مرتاح، آمِن مطمئن؛ لأنَّه لم يَظلم ذلك ولم يكفره ولم يحجبه فيه؛ (الآيات 24 - 25 - 26 - 27 من سورة إبراهيم)، (الآية 97 النحل).   إذًا فالتَّقوى هي الإيمان الصَّادق، وهي العمل الصالح، وهي السعادة في الحياة الدنيا والآخرة، والفوز بالسلام والأمن.   إذًا خطورة ومحوريَّة فعل التقوى تقودنا مباشرة إلى ضرورة كانت لزامًا منها؛ وهي تبيان كيفيَّة وسبيل تحقيق الإنسان لتطبيق فعل التقوى.   ما هي أُسس ذلك؟ وما هي الإسهامات والدَّوافع المساعِدة على ذلك، انطلاقًا من الفرد كفردٍ، والمجموعة بوجه أعم؟ (كيف أكون تقيًّا)؟   إنَّ الفعل التطبيقي لكلمة التقوى هو فعلٌ إراديٌّ؛ بمعنى أنَّ الإنسان يَعرفه ويعلمه ويعيه جيدًا، وتطبيقه من عدمه مَرهون بتلك الإرادة والاستعداد؛ وذلك نظرًا إلى مفهوم التَّقوى؛ وهو تلقِّي وسماع وطاعة المنهج السَّليم الذي فُطر عليه الإنسان، وأولها وآخرها طاعة وسماع، وفِعل وعمل، محرِّكُه ودافعُه الاعتراف والإقرار بالعبوديَّة للإله الحق سبحانه؛ من ذلك أرى أنَّ ذلك منهج الإنسان السَّوي والسليم المكتسَب بالفطرة، وأن يخالف الإنسان ذلك فمَأتاه إرادة الإنسان.   ولكن يُدعى الإنسان إلى تجنُّب السمع مع العصيان والفسوق لصَوت المنهج فيه، والتقوى بغرس قِيَم الاعتدال والحق والترفُّع عن دنيء الخُلق وقَبيح الأفعال؛ وذلك بداية من الأسرة إلى المجتمع، فيكون بذلك التعاون على البرِّ والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.   فلا شك أنَّ ذلك يحثُّ الإنسانَ الفاسِق على فِعل التقوى، وإتيانها والسَّعي إليها وعدم التراخي تجاهها؛ لأنَّه داخل مجموعة أو مجتمع يدعو إليها ويُعلِي من شأنها كفعلٍ محمود ومهمٍّ، ولكن تبقى إرادة الإنسان فردًا هي الفَيصل في ذلك؛ لأنَّ التقوى هي صِدق العمل بالحق، والإيمان به عملاً وفعلاً؛ (الآية 9 المجادلة - والآية 2 المائدة - والآية 110 آل عمران).   وهي الاستجابة لله ولرسوله، وتلك هي دَعوة الحقِّ، ففعل التقوى إذًا لا يَحتمل ثنائيَّة الظاهر والباطن، أو الخفي والمعلَن، أو السر والجهر - لمن أراد أن يَفعل فعل التقوى فيه ويَنعم بثمارها ونتاجها.   وقد أكَّد الرسولُ صلى الله عليه وسلم أهميَّة فعل التقوى، ومدى ارتباطه وحضوره، وضرورة استحضاره والعمل به في كلِّ دقائق حياة الإنسان - في حديثه صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا النَّارَ ولو بشقِّ تَمرة، فمَن لم يجد فبكلمة طيِّبة))؛ صحيح البخاري.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير