أرشيف المقالات

وقود العلم

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2وقود العلم   الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الكاملان على رسوله محمد وآله الطاهرين وصحبه الأكرمين.
أما بعد: فلا شك أن (العلم) من أعظم الطاعات وأجل القربات، وهو من أنفس ما بذلت فيها الأنفس والأوقات، والجهود واللحظات.
وهذه الكلمة (العلم) وبكل ما تحمله في ثناياها وبين طياتها من مدلولات ودلالات كبيرة إلى درجة مثيرة، وجواهر مفردات بصورة عجيبة، تستميل النفوس إليها، وتستقطب الهمم إليها، فلكأنها إخاذة[1].   ولذلك فما من شك - والأمر كذلك - أنه مطلب مهم تبذل دونه النفوس والمهج، والأوقات والهمم؛ إذ هو من أسمى الغايات للأفراد بلْهَ المجتمعات، لكنه ومع ذلك لا يمكن أن ينال بسهولة، ولا يتأتى ويحصل بيسر إذ هو بعيد المنال، صعب المرتقى، غياضه عَظِيمَة، وخَنَادِقُه عَمِيقَة، وأَشْجَاره شَاهِقَة، كثير التكاليف والأعباء، لا يعطيك بعضه، حتى تعطيه كلك، ولذلك فلا يكاد يصل إليه إلا الواحد بعد الواحد؛ ولذلك فإننا سنقف في هذه الوريقات على أمر مهم جدًا لابد علينا من تحصيله إذا ما أردنا أن ننال شيئًا من العلم - على وجهه المطلوب - أو أن نكون في ركب أهله.
ألا وهو: وقود العلم.
وقد دعاني إهمال الكثيرين له اليوم إلى الحديث عنه، والتذكير به.   ووقود العلم: هو في الحقيقة ترجمان العقل، ومعقل العلم الراسخ، وعاصمته الخالدة، وقلبه النابض، والمركزٌ الذي يستند إليه، والأساس الذي يعول فيه عليه، وهو المسكن المثالي، والموئِلِ والملجأ، والمرجع والمصدرِ الذي يستمِدُّ منه طالب العلم القوةَ والثقة والحماسة والاندفاعَ، وهو وإلى ذلك كله يكسب صاحبه العز ويزيد في النباهة والقدر، وهو راحة العاقل، والتواني عنه عادة الجاهل، وهو إلى ذلك الخطّ الأول والأخيرِ وعليه المعول بعد الله - عز وجل - في حفظ العلم والدفاع والذود عنه؛ ولذلك كان طلبه وتحصيله مقدم على غيره، بل حتى على العلم نفسه، وهو رغم وضوح مفهومه واتساق نمطه، إلا أنه قلة هم من يصبون إليه، ويبحثون وينقبون عنه، فما الظن بمن يتحصل عليه، ويتمكن منه!!!   إنه: (الأدب). وقد قال بعضهم: لا أحسد المرء على درهمه ♦♦♦ وإنما أحسده على الأدب.   وأعلم - رحمني الله وإياك - أنه كلما امتدّ رُواقُ العلم عند البعض، وتعددت أزقة الفهم عند أخرين، وتباينت أروقة الحكمة عند غيرهم؛ فالجميع - ولا شك - يحتاج إلى هذا الوقود ليجمع أمره، ويستمر سيره، ويستطيع - به ومعه - بعد عون من الله - عز وجل - وتوفيقه أن يمضي قدمًا وإلى الأمام.   ويعد هذا الوقود أمرًا لا بد منه لكل من أراد أن يمضي قدمًا؛ ذلك أن له من الخصال والخصائص الشريفة ما يتميزُ بها عن غيره، ولا يمكن أن يُشاركه فيها غيرُه، كيف وهو مدارجُ الشرفِ في العلم، ومرقاة السؤدد في الفهم، بل هو مادة العلم وصلبه ولبه، وأوله وأخره - كما سبق وأشرنا - وإن شئت قلت: هو رأسُ ماله الذي يجب المحافظةُ عليه.   وقد قال بعضهم - قديمًا - يوصي ابنًا له: يا بني من لم يكن استفادة الأدب أحب إليه من الأهل والمال لم ينجب. فالواجب على طلاب العلم التزود من هذا الوقود والعمل على اكتسابه بشتى الوسائل الممكنة والمتاحة، ومن ثم تربيته وتنميته واستصلاح أحوالهِ.   ولعمر الله أن هذا هو أولى من كثير من المسائل التي يسعى لتحصيلها البعض اليوم، ويبذلون الغالي والنفيس ليتحصلوا عليها؛ إذ به - وليس هذا لغيره - تحفظ بيضة العلم وتصان.   إذًا: فهذا الوقود في الحقيقة هو في العلم بمثابةِ المركزِ والمنطلق، بل هو للعلم كالقلب للجسم كلما تعاهدته وغذيته نمى العلم وقوي واشتد..
كما يتعاهد صاحب الجسم قلبه فيكون له ذلك، وكلما أهملته تصدع واختل واعتراه من الأسقام والعلل، والأمراض والخلل بقدر ذلك الإهمال - وجودًا وعدمًا - يزيد بزيادته وينقص بنقصانه؛ ذلك أن أحدهما - أعني: العلم والأدب - قد ارتبط بالآخر برباط وثيق - كالقلب والجسم - حتى صار لا غنى له عن الآخر، فالأدب بلا علم لا يصلح ولا يقوم ولا يتم، والعلم بلا أدب لا ينفع ولا يرفع بل يجني على صاحبه ويهلكه كما قيل؛ ومن هنا يظهر أن من أراد أن يروم العلم من غير وقوده (الأدب) فقد أراد الشطط وغلط أقبح الغلط، وأن من ظن أنه سينعم بالعلم كيفما شاء، وتوهم أنه سيرفل في أفنانه حيث شاء - وبلا وقوده (الأدب) - فقد ظن باطلًا وتوهم محالًا وكان مخدوعًا.   ولذلك فقد تسارع العلماء في جمع هذا الوقود وتوثيقه، وتدوينه وتصنيفه، ولعل من أبرز ذلك مما يحضرني الساعة مما وقفت عليه: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي التميمي السمرقندي المتوفى سنة 255هـ.
في مقدمة كتابه المشهور بسنن الدارمي، وأنا أنصح بقرائتها.   وأبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ.
ذكر شيئًا من ذلك في كتابه النفيس الفقيه والمتفقه. وأحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي المتوفى سنة 458هـ.
ذكر شيئًا منها في الآداب.   والإمام يوسف بن عبد البر النمري المتوفى سنة 463هـ في كتابه الفذ والفرد في هذا الباب جامع بيان العلم وفضله وطبع طبعة جيدة بتحقيق أبي الأشبال.   والإمام أبي زكريا يحيى بن شرف الدين النووي المتوفى سنة 676هـ.
في التبيان في آداب حملة القرآن.
وذكر - رحمه الله - أيضًا - جملة منها في مقدمة المجموع شرح المهذب، وأنصح بقرائتها.   والعلامة الهمام بدر الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ابن جماعة الكناني المتوفى سنة 733هـ.
في كتابه الشيق والماتع والنفيس تذكرة السَّامِعِ والمتكلم في أَدَب العالم والمُتعلِّم.   ومحمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي المتوفى سنة 1189 هـ في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب. والإمام محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ.
في أدب الطلب ومنتهى الارب. والحسين ابن المنصور اليمني في آداب العلماء والمتعلمين.   وفتح الكريم المنان في آداب حملة القرآن لنور الدين علي بن محمد المصري الملقب بالضباع المتوفى سنة 1380هـ. والعلامة بكر بن عبدالله أبو زيد - رحمه الله - في كتابه الماتع والجميل النافع حلية طالب العلم، وللعلامة محمد الصالح بن العثيمين شرح عليه.   ولعل في هذا التنبيه اليسير ما يستطيع طالب العلم منه أن يدرك شيئًا - ولو يسيرًا - من تلك الصلةِ الدقيقة والوثيقة والعميقة بين العلم ووقوده (الأدب).   إذًا: الأدب - وقود العلم - وهو مصدرُ القوة للعلم وهو المقياسُ الصحيح الدائمُ والميزان الذي يقاس به العلم.
وبمجرد أن يتمكن طالب العلم من نيله والتحصل عليه واكتسابه والتزود منه؛ فإنه تظهر عليه حيوية العلم وأصالته وجماله وقوته.   وإذا كان الأمر كذلك: كإن من أهم ما يجب على طالب العلم تحصيله وبذل غايته للتزود منه واستحضاره دومًا وفي كل وقت من أوقات طلبه سواءً كان مبتدئًا أو منتهيًا، متعلمًا أو عالمًا هو الأدب (وقود العلم).   ورحم الله من قال: فالتمس العلم وأجمل في الطلب ♦♦♦ والعلم لا يحسن إلا بالأدب   وفي الختام: فثم أيضًا منظومات كثر جمعت أداب العلم ولكني وقفت على نظم لطيف وصغير فرأيت أنه من المناسب أن أسوقه هنا للفائدة وهو ينسب إلى اللؤلؤي من الرجز، وبعضهم ينسبه إلى المأمون كما ذكر ابن عبد البر - رحمه الله - في جامع بيان العلم وفضله (1/578) وقال: " أحسن ما رأيت في آداب التعلم والتفقه ".   فقال - رحمه الله -: واعلم بأن العلم بالتعلم والحفظ والإتقان والتفهم والعلم قد يرزقه الصغير في سنه ويحرم الكبير وإنما المرء بأصغريه ليس برجليه ولا يديه لسانه وقلبه المركب في صدره وذاك خلق عجب والعلم بالفهم وبالمذاكرة والدرس والفكرة والمناظرة فرب إنسان ينال الحفظا ويورد النص ويحكي اللفظا وما له في غيره نصيب مما حواه العالم الأديب ورب ذي حرص شديد الحب للعلم والذكر بليد القلب معجز في الحفظ والرواية ليست له عمن روى حكاية وآخر يعطي بلا اجتهاد حفظًا لما قد جاء في الإسناد يهده بالقلب لا بناظره ليس بمضطر إلى قماطره فالتمس العلم وأجمل في الطلب والعلم لا يحسن إلا بالأدب والأدب النافع حسن السمت وفي كثير القول بعض المقت فكن لحسن السمت ما حييتا مقارفا تحمد ما بقيتا وإن بدت بين الناس مسألة معروفة في العلم أو مفتعلة فلا تكن إلى الجواب سابقا حتى ترى غيرك فيها ناطقا فكم رأيت من عجول سابق من غير فهم بالخطأ ناطق أزرى به ذلك في المجالس عند ذوي الألباب والتنافس [ص:583] وقل إذا أعياك ذاك الأمر مالي بما تسأل عنه خبر فذاك شطر العلم عند العلما كذاك ما زالت تقول الحكما والصمت فاعلم بك حقا أزين إن لم يكن عندك علم متقن إياك والعجب بفضل رأيكا واحذر جواب القول من خطائكا كم من جواب أعقب الندامة فاغتنم الصمت مع السلامة العلم بحر منتهاه يبعد ليس له حد إليه يقصد وليس كل العلم قد حويته أجل ولا العشر ولو أحصيته وما بقي عليك منه أكثر مما علمت والجواد يعثر فكن لما سمعته مستفهما إن أنت لا تفهم منه الكلما القول قولان فقول تعقله وآخر تسمعه فتجهله وكل قول فله جواب يجمعه الباطل والصواب وللكلام أول وآخر فافهمهما والذهن منك حاضر لا تدفع القول ولا ترده حتى يؤديك إلى ما بعده فربما أعيى ذوي الفضائل جواب ما يلقى من المسائل فيمسكوا بالصمت عن جوابه عند اعتراض الشك في صوابه ولو يكون القول في القياس من فضة بيضاء عند الناس إذًا لكان الصمت عين من الذهب فافهم هداك الله آداب الطلب   وسبحانك اللهم وبحمد أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.


[1] مفرد إخَاذاتٌ، وهي الغدرانُ التي تأخذ ماء السماء وتمسكه.
النهاية.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن