أرشيف المقالات

العداوة الأزلية (3)

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2بسم الله الرحمن الرحيم سلسلة تأملات تربوية في بعض آيات القرآن الكريم العداوة الأزلية ﴿ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ﴾ [طه: 117] "إبليس" الحلقة الثالثة ثالثًا: مرحلة تفاعل آدم المباشر مع إبليس
(1) أمْرُ الله لآدم وزوجه بأن يسكنا الجنة، ويتمتعا فيها بكل شيء ما عدا شجرة فيها: ﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 35]، ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 19].   هنا تبدأ مرحلة جديدة لإعداد آدم للخلافة، مرحلة يمارس فيها آدمُ وزوجه دَورَهما ممارسةً حقيقيَّة، مرحلة تتصارع فيها خصائص تكوينهما الأرضي الذي يستخدمه إبليس في إغوائه لهما، مع الخصائص العلوية المتمثِّلة في تكوينهما الروحي.   يتجه خطاب الله إلى آدمَ وزوجه؛ ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما؛ فقد أباح لهما كلَّ ثمار الجنة، وأطلق لهما حريةَ الحياة فيها دون تدخل، بإعطائهما المشيئة في الاختيار من كل ثمار الجنة، والتمتُّع بكل ما فيها، إلا شجرة واحدة، حذَّرهما ربُّهما من الاقتراب منها.   ولكن لماذا هذا المباح والتمتع به؟ ولماذا هذا المحظور والنهي عن الاقتراب منه؟ إنها ارادة الله في إطلاق العنان لإشباع الرغبات والشهوات المتمثِّل في الخصائص الأرضية للإنسان، في مقابل الرغبة في طاعة الله بعدم الاقتراب من المحظور المتمثِّل في الخصائص الروحية للإنسان، هذا المحظور الذي يتعلم منه الإنسان أن يقف عند حدٍّ؛ وأن يتدرَّب على الإرادة التي يضبط بها رغباتِه وشهواته، ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات، فتظل هذه الإرادة حاكمةً لها لا محكومة بها كالحيوان، فهذه هي خاصية "الإنسان" التي يفترق بها عن الحيوان، ويتحقَّق بها فيه معنى "الإنسان".   إن سمو الإنسان ورفعتَه تكون بتحكم تكوين الروح في الإنسان في تكوينه الأرضي، ولكن عندما يتحكم تكوين الإنسان الأرضي في تكوينه الروحي، هنا يكون الانحطاط والتدني.   (2) وسوسة إبليس لآدم وزوجه ليأكلا من الشجرة: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 20، 21]. ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى ﴾ [طه: 120].
لقد وسوس إبليس إلى آدم وحواءَ بأن يأكلا، فناداه باسمه؛ ليكون أكثر إقبالًا عليه، وأمكن في الاستماع إليه، فقال: يا آدم، هل أدلُّك على الشجرة التي مَن أكل منها عاش مخلَّدًا لا يدركه الموتُ، وصار صاحب مُلك لا يفنى، ولا يصبح باليًا أبدًا؟ وقد جاء عرض إبليس في صورة الاستفهام؛ ليشعره بأنه ناصحٌ له وحريص على مصلحته ومنفعته.
لنقفَ هنا لنحلل هذا الموقف: إنها بداية التفاعل المباشر بين إبليس وآدم، تفاعلٌ منطلقُه العداوة من جانب إبليس لآدم، لقد سعى إبليس لإغواء آدم كما توعَّده، فسعى يلاحقه بكل السبل التي علِم ضعفَ آدم فيها، الضعف في الجانب المادي، جانب الأكل من الشجرة المحظورة، من أجل المُلك أو الخلود. ولننظر ما نتيجة ذلك.
(3) معصية آدم وزوجه لله، وأكلهما من الشجرة نسيانًا لأمر الله تحت وطء وسوسة إبليس: ﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ ...
[الأعراف: 22]. ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 115]. ﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾ [طه: 121].   نسي آدمُ وزوجه أن إبليس عدوُّهما الذي لا يمكن أن يدلَّهما على خير، وأن الله أمرهما أمرًا عليهما طاعتُه، سواء عرَفا علَّته أم لم يعرِفاها؛ أمرهما بعدم الاقتراب من الشجرة المحرَّمة.
مع هذه النصائح والتحذيرات لم يستطع آدمُ أن يستمر على الاستجابة لنهي ربه إياه عن الأكل من الشجرة، بل تغلَّب عليه ضعفُه؛ فاستمع إلى مكر الشيطان،ونجح إبليس أخيرًا في خداع آدم وحواء حتى استجابا له؛ فدلاهما بغرور فأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية، وأطمعهما في غير مطمَعٍ، بسبب ما غرهما به من القَسَم. ولكن ما الآثار التي ترتَّبت على هذه الخديعة من إبليس لهما؟ فلننظر!
(4) انكشاف عورتَي آدم وزوجه، وإحساسهما بالذنب: ﴿ ...
فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ...
[الأعراف: 22]. لما خالف آدمُ وزوجه أمرَ اللهِ تعالى بأن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها، أخذتْهما العقوبة وشؤم المعصية، فاستحوذ عليهما الخوفُ والحياء من ربهما، فتساقط عنهما لباسُهما، وظهرت لهما عوراتُهما، فأخذا يفعلان ما يفعل الخائفُ الخجِل عادةً من الاستتار والاستخفاء حتى لا يُرى، وأخذا يلزقان على أجسادهما من ورق الجنة ورقة فوق أخرى ليستُرا عوراتِهما.
ولكن لماذا كانت هذه النتيجة لمعصية آدم وزوجه بهذا الشكل؟ لقد كانت إرادة الله أن تكون النتيجة من عين السببِ، إنها نتيجة مادِّية محسوسة، نتيجة طينية، إخراج من نفس المعصية؛ ليكون إدراكها أوقع على النفس، وأبقى أثرًا في المستقبل. إنها خطوات تتشكَّل فيها هذه النفس البشرية بتدبير من الله وتحت عينه.




شارك الخبر

المرئيات-١