أرشيف المقالات

كيف تختم القرآن كل ثلاثة أيام؟

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2كيف تختم القرآن كل ثلاثة أيام؟   في ليلةٍ مِن ليالي شهر رمضان نزَلتْ أوَّلُ آيات القرآن العظيم على قلب نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الأربعين من عمره: ♦ ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].   ومِن قبل ذلك شهِد هذا الشَّهرُ الكريم نزولًا آخَرَ، إنَّه نزول القرآن جملة مِن اللَّوح المحفوظ إلى بيت العِزَّة في السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر؛ ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]. عن ابنِ عبَّاسٍ قال: "أُنزِل القرآنُ جُملةً واحدةً إلى سماء الدُّنيا في ليلة القدرِ، ثمَّ نزَل بعد ذلك في عشرين سنةً"، ثمَّ قرأ: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106][1].   وأيُّ نعمةٍ أعظمُ من نِعمة نُزولِ القرآن؟! وهكذا ارتبط شهرُ رمضان بالقرآن؛ ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، ومن يوم ذاك أصبَح شهر رمضان هو شهرَ القُرآن. عن ابن عبَّاسٍ أيضًا أنه قال: "كان رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجودَ الناسِ، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريلُ، وكان يلقاهُ في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ فيدارسُه القرآنَ، فلَرسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجودُ بالخير من الريحِ المرسلةِ"[2].   قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "دَلَّ الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماعِ على ذلك، وعرض القرآن على مَن هو أحفظ له، وفيه دليلٌ على استحباب الإكثار من التلاوة في شهر رمضان"؛ اهـ. فاعلم رَحِمك الله أنَّ تلاوة القرآن مِن أعظم أنواع التِّجارة مع الله؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29].   وقد كان للسَّلف رحمهم الله اجتهادٌ عجيبٌ في قراءة القرآن في رمضان: ♦ كان الزُّهْريُّ رحمه الله إذا دخَل رمضان يتوقَّف عن التحديث ويقول: "إنَّما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام". ♦ قال ابن الحكم رحمه الله: "كان مالِك إذا دخَل رمضان يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم". ♦ قال عبدالرزَّاق رحمه الله: "كان سفيان الثوريُّ إذا دخَل رمضان ترك جميعَ العبادة وأقبَل على قراءة القرآن".   وكانت لهم مُجاهدات مِن كثرة الختمات رواها الأئمةُ الثِّقات الأثبات رحمهم الله: ♦ كان الأسود يَختم القرآنَ في رمضان كلَّ ليلتين. ♦ وكان قَتادة إذا جاء رمضان خَتَم في كلِّ ثلاث ليالٍ مرَّةً، فإذا جاء العَشْر ختَم في كلِّ ليلة مرَّةً. ♦ وكان الشَّافعيُّ يختم في شهر رمضان ستِّين ختمة.   ♦ قال الإمام ابن رجب رحمه الله: "إنَّ مِثل هذا الاجتهاد سائغٌ في الأزمنة المفضَّلة والأماكنِ المفضَّلة، وأمَّا طوال العام فالأَولى للمؤمن ألَّا يختمه في أقلَّ مِن ثلاث"؛ اهـ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لَم يَفْقهْ مَن قرأ القرآنَ في أقل من ثلاثٍ))[3].   وفي رمضان يَجتمع الصَّومُ والقرآن، وهذه صورةٌ أخرى من صوَر ارتباط رمضان بالقرآن، فتدرِك المؤمنَ الصَّادق شفاعتان؛ عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصِّيامُ والقرآنُ يشفعان للعبد يومَ القيامَةِ، يقولُ الصيامُ: أي ربِّ، إِنَّي منعْتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعْنِي فيه، ويقولُ القرآنُ: ربِّ، منعتُهُ النومَ بالليل فشفِّعني فيه، فيَشْفَعانِ))[4].   وإذا كان هذا شأن القُرآن في رمضان، فما أجدرَ العَبد المؤمنَ أن يُقبِل عليه، ويديم النَّظر فيه والتأمُّل في معانيه، ويكثر من تلاوته بالليل والنهار! وأقل القليل أن نختم القرآنَ في رمضان كلِّ ثلاثٍ، ولكن كيف ذلك؟   من المتفَق عليه أنَّ قراءة الجزء الواحد قراءةَ حَدْرٍ (قراءة سريعة مع مراعاة الأحكام مثل قراءة الشيخ العجمي) تَستغرق عشرين دقيقةً في الغالب؛ أي: إنَّ عشر ساعات فقط كافية لخَتْم القرآن كله، فلكلِّ مَن يحبُّ أن يَختم القرآنَ في رمضان كلَّ ثلاثة أيام؛ إليك الطَّريقةَ: 1 - قراءة جزءٍ بعدَ أذان الفجر (ما بين الأذان والإقامة) ويستغرق 20 دقيقة. 2 - قراءة ثلاثة أجزاء بعد صلاة الفَجر، وتستغرق ساعة. 3 - قراءة جُزأين بعد صلاة الظهر، وتستغرق 40 دقيقة. 4 - قراءة ثلاثة أجزاء بعد العصر، وتستغرق ساعة. 5 - قراءة جزء قبل صلاة العشاء، ويستغرق 20 دقيقة.   وبهذا تختم عشرةَ أجزاء كلَّ يوم بإذن الله عزَّ وجل وعونه تعالى وتوفيقه، فاستعِنْ بالله؛ فإنَّ الأجر عظيم والزَّمانَ نفيس، وقد جَرَّبَ البعضُ هذه الطريقة هذه الأزمنة ووفَّقهم الله عزَّ وجلَّ لهذا الأمر.   فإن قلتَ: أيٌّهما أفضل؟ أن يُسرِع الإنسان التلاوةَ ليكثر عدَد الختمات في رمضان؟ أم يقللها مع التدبر والتفكُّر؟ الجواب: لماذا نَقتصر على أحد الخيرين؟! لِماذا لا نَجمع بين المصالح والخيرات، والفضائلِ والطَّاعات، لِماذا لا يكون لنا مَع القرآن في هذا الشهر مساران: المسار الأول: مَسار الإكثار مِن التلاوة وتَكرار الخَتمات؛ فيجعل الإنسان لنفسه جدولًا ينضبِط به؛ بحيث يتمكَّن مِن خَتْم القرآن مرَّات عديدة. المسار الثاني: مسار التأمُّل والتدبُّر، فيستفتح الإنسان في هذا الشهر الكريم ختمةً طويلةَ المدى يأخذ منها في اليوم صفحةً مِن المصحف أو نحوَها مع مراجعة تَفسيرها وتأمُّلِ معانيها واستخراجِ أوامرها ونواهيها، ثمَّ العزم على تَطبيق ذلك ومحاسبة النَّفس عليه، ولا مانعَ أن تطول مدَّة هذه الختمة إلى سنة أو نحوِها شريطةَ أن ينتظم القارئ فيها ويأخذَ نفسَه بالعمل، ولعلَّ في هذا بعض مِن معنى قول الصَّحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: "كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهنَّ حتى يعرف معانيهنَّ، والعملَ بهنَّ"[5]، ((وإنَّ أحبَّ العملِ إلى اللهِ تعالى أَدْوَمُه وإن قَلَّ))[6]. إنَّ شهر رمضان شهرُ اجتهادٍ وجهاد وتضحية وبَذْل، لا كما يظنُّ البعض أنَّه شهر أكل وشرب، ودعةٍ وكسل، وخمول وبطالة!   قال تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148]، وقال تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21]، وقال سبحانه: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].   قال ابن رجب رحمه الله: ♦ "لمَّا سمِع القوم ذلك، فهموا أنَّ المراد مِن ذلك أن يجتهد كلُّ واحدٍ منهم أن يكون هو السَّابِقَ لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارِع إلى بلوغ هذه الدَّرجة العالية، فكان تسابقهم في درجات الآخرة واستباقُهم إليها، ثمَّ جاء مِن بعدهم قومٌ فعَكسوا الأمرَ، فصار تنافسُهم في الدنيا الدَّنيئة، وحظوظها الفانية"؛ اهـ.   فكُن مع القوم الذين قال عنهم الإمام ابن القيم رحمه الله: ♦ "رُفع لهم عَلَم الجنَّة فشمَّروا إليه، ووضح لهم صراطها المستقيم فاستقاموا عليه، ورأوا مِن أعظم الغَبْن بيع ما لا عَيْنٌ رأَتْ ولا أُذن سمِعتْ ولا خطَر على قلب بشر، في أبدٍ لا يزول ولا ينفد"؛ اهـ. ♦ "اللهم بلِّغنا رمضان، وارزقنا فيه الفوزَ بالجنان والعِتقَ مِن النيران".


[1] رواه ابن كثير في (فضائل القرآن)، رقم (36)، وإسناد صحيح. [2] صحيح البخاري، رقم 6. [3] صحيح الترمذي (2949)، وصحيح ابن ماجه (1115). [4] صحيح الجامع (3882). [5] أثر صحيح: رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، وأشار إلى صحَّته، وقال الشيخ أحمد شاكر: هذا إسناد صحيح، وهو موقوف على ابن مسعود، ولكنَّه مرفوع معنى؛ لأن ابن مسعود إنما تعلَّم القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو يَحكي ما كان في ذلك العهد النَّبوي المنير. [6] صحيح الجامع (1228).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن