أرشيف المقالات

الخلطة والعزلة

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2الخلطة والعزلة
إن الرغبة في مخالطة الناس والاجتماع بهم - بصرف النظر عن الفائدة الشرعية المرجوَّة منهم - صارت ديدنَ كثيرٍ من الناس، فلا يكاد أحدهم يجد ساعة فراغ من مشاغل البيت والأسرة، إلا وقد سارع في البحث عمن يؤانسه ويجالسه، بل إن البعض قد يترك مسؤولية بيته وولده؛ ليبحث عمن يؤانسه ويجالسه! وبهذا فات على كثير من الناس عبادات عظيمة كان السلف يَحرصون عليها؛ مثل: الخلوة بالنفس ومناجاة الله، والتفكر والتدبر، فضلاً عن تحصيل العلم النافع والعمل الصالح. إن كثرة مخالطة الناس كم سلبت من نعمة! وكم جلبت من نقمة! وكم زرعت من عداوة! وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول!   كلمات من نور: • قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "خذو بحظكم من العزلة"[1]. • قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "نعم صومعة الرجل بيته يكف بصره ولسانه"[2]. • وسُئِلتْ أُمُّ الدرداء: "ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار"[3]. • وقال مسروق: "إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها، فيذكر فيها ذنوبه، فيستغفر منها"[4]. • وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته، وتفكُّره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه"[5].   • قال ابن الجوزي رحمه الله: "ما رأيت مُشتِّتًا للهمِّ مُبدِّدًا للقلب مثل شيئين: أحدهما: أن تطاع النفس في كل شيء تَشتهيه. والثاني: مخالطة الناس، فيثقل على مَن أَلِف مخالطة الناس التشاغل بالعلم أو العبادة، ولا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة، وتضيع الساعات في غير شيء" [6]. • قال مالك بن دينار: "احفظ عني: كل أخ وجليس وصاحب لا تستفيد منه خيرًا في أمر دينك، ففرَّ منه" [7].   تنبيه: ولا يعني هذا هجر الناس والانزواء منهم، حتى يترك نفعهم وتعليمهم، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)؛ (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني). قال ابن المبارك: "قال لي بعضهم في تفسير العزلة: هو أن تكون مع القوم، فإن خاضوا في ذكر الله فخُض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فأسِك"[8].   • فالضابط في أمر العزلة: أن يخالط الناس في الخير؛ كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلُّم العلم، والجهاد والنصيحة، ويَعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يُمكنه اعتزالهم، فالحذر الحذر أن يوافقَهم، وليَصبر على أذاهم.   فالناس أقسام أربعة: أحدها: مَن مخالطتُه كالغذاء لا يُستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله وأمره، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب في مخالطته الربح كله.   القسم الثاني: مَن مخالطته كالدواء يُحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحًا، فلا حاجة لك في خلطتهم، وهم مَن لا يُستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش.   القسم الثالث: مَن مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه.   القسم الرابع: مَن مخالطته الهلاك كله، بل مخالطته بمنزلة أكل السم، وما أكثر هذا الضرب في الناس - لا كثَّرهم الله - وهم أهل البدع والضلالة الذي يصدون عن سبيل الله، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.   وقال بعضهم: الاجتماع بالناس قسمان: أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه مفسد للقلب مضيع للوقت.   الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة، والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها.


[1] التبصرة ابن الجوزي ص272، روضة الفضلاء ابن حبان ص81 [2] مكارم الأخلاق ومعاليها للخرائطي رقم317، الآداب الشرعية ج4 ص168. [3] نضرة النعيم ج3 ص854 نقلاً عن الزهد لوكيع بن الجراح ص474. [4] الفجر الصادق عبدالملك القاسم ص28 نقلاً عن صفة الصفوة ج2 ص26. [5] المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية: علوي السقاف ص181. [6] صيد الخاطر ص133. [7] غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني ص379 ج2. [8] الصمت لابن أبي الدنيا ص241.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن