أرشيف المقالات

وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾   قال تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48]. لقد كان للشيطان دورٌ مع المشركين، وقد تمثَّل فيما يلي: أولًا: التزيين: فقد زيَّن لهم أعمالهم، والمعنى - كما ذكر ابن كثير -: (حسَّن لهم - لعنه الله - ما جاؤوا له وما همُّوا به، وأطمَعَهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس) [1]. فهذا الملعون حسَّن لهم - بوَسْوَسته وإغوائه - الخروجَ لقتال المسلمين، كما حسَّن لهم أفعالَهم القبيحة وظنَّهم الفاسد، وهو أنهم على حق، ودينهم حق، وأن صدهم للدعوة الإسلامية حقٌّ!   يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في خواطره: (وحاول الشيطان أن يُزيِّن للكفار قتالَ المؤمنين؛ أي: يجعله محببًا إلى نفوسهم، وأنهم سيُحقِّقون النصر، ويصبحون حديث الجزيرة العربية كلها، وتخافُهم الناسُ وتهابُهم، ويُصبِحون هم الكبراء وأصحاب الكلمة، وهكذا صوَّر الشيطان لهم عملية قتال المسلمين في صورة محببة) [2].   ثانيًا: التحريض: وذلك بأن أوحى إليهم[3] وأوهَمَهم أن النصر حليفُهم؛ فهم أكثر عددًا وعدةً؛ أي: إنه غرَّهم وغرَّر بهم، يقول الألوسي: (قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [الأنفال: 48]؛ أي: ألقى في رُوعِهم وخيَّل لهم أنهم لا يُغلَبون لكثرة عَدَدهم وعُدَدهم، وأوهمهم أن اتِّباعهم إياه - فيما يظنون أنها قربات - مُجيرٌ لهم، وحافظ عن السوء، حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتينِ، وأفضل الدينينِ، فالقول مجازٌ عن الوسوسة) [4]، فكان هذا تحريضًا منه لهم؛ كي يتم هذا اللقاء المقدَّر، ولينالوا جزاء صنيعهم، ولتظهر الحقيقة، وتعرف أهدى الفئتينِ وأفضل الدينينِ.   ثالثًا: المساندة: ومما قاله لهم ووعَدهم به من النصرة قولُه: ﴿ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ ﴾، وهو وعدٌ لا شكَّ كاذبٌ، فقد قال تعالى: ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [النساء: 120]؛ لأنه - كعادتِه وطريقته - سيتخلَّى عنهم ساعةَ الجد، وقد تخلَّى وتولَّى عنهم، وتركهم يُواجِهون الموت والهزيمة، لما رأى جبريل عليه السلام في ألفٍ من الملائكة[5].   رابعًا: التخلي عنهم والتبرؤ منهم: فقد وعَدهم أوَّلَ الأمر بالمساندة، ولكنه لما رأى الملائكة فرَّ هاربًا، تاركًا أتباعه وأولياءه يُواجِهون مصيرهم، وقال كاذبًا: ﴿ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ﴾ [الأنفال: 48]، وتلك عادته وأساليبه، يُوَسوِس للإنسان ويغرُّه ويُغْرِيه، ثم يضحك عليه ويتبرأ منه، وبهذا قد أخلف وعده، وأذَلَّ جنده، وأهلك أتباعه، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 22].   لقد كان يومُ بدر يومًا حزينًا عسيرًا على إبليس وأتباعه: أما أتباعه، فقد شرِب رُؤساؤهم كؤوس المنايا، وطُرِحت جِيَفُهم في القَليب. وأما هو، فقد أصابه الخوف، لا من الله تعالى، ولكن مما رأى مِن بشائر نصر الله تعالى للدعوة الإسلامية، وأن دعوته إلى ذَهاب واندحار، وأن كيده كان ضعيفًا أمام جنود الله المؤمنين، فلقد قضى الله تعالى أنه لا سبيلَ للشيطان على عباد الله المخلَصين ولا سلطان له عليهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 65]. وأما حزنه، فلِمَا رأى مِن تنزُّل الملائكة، وبشائر النصر لأهل الإيمان على أهل الكفر، وأن هزيمته وأوليائه باتَتْ محقَّقة، وقد روى الإمام مالكٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما رُئي الشيطان يومًا، هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيط منه في يومِ عَرَفة، وما ذاك إلا لِمَا رأى مِن تنزُّل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أُرِي يومَ بدر))، قيل: وما رَأَى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: ((أما إنه قد رأى جبريلَ يَزَعُ الملائكة)) [6].   ومِن هنا تأتي أهمية التوجيهات الربانية، والنهي عن التشبه بالكفار، والتحذير من أفعالهم القبيحة، وأهمها وأخطرها البَطَر والرياء، والانتباه إلى محاولات الصد عن سبيل الله، ومحاولات النَّيْل مِن الدعوة والدعاة، والوقوف لتلك المحاولات الخبيثة. كذلك فإن أخلاق المشركين السيِّئةَ أوردَتْهم مواردَ الهلاك والخسار والدمار، فليَحْذَرِ المؤمنون التشبُّه بأخلاق المشركين، وليحذروا كذلك وعود الشيطان وتزيينه، ومداخله وخطواته، فهو العدو الأول للدعوة والدعاة، فعلى الدعاة أن يتسلَّحوا بسلاح الإيمان بالله، وأن تتحقق فيهم العبودية الخالصة لله تعالى، قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الحجر: 39 - 42].   فقد كانت معركة بدرٍ حدًّا فاصلًا، وفرقانًا بين الحق والباطل، بين عِباد الله الموحِّدين وبين عبَّاد الأوثان والشياطين؛ ولهذا كان الشيطان حقيرًا صغيرًا يوم بدر؛ لأن ولايته بدأت تتهاوى، ودولته آلت إلى السقوط، فها هي دولة الإسلام قد وُلدت، ودعوة التوحيد قد قامت. إن الشيطان هو العدو الأول للأنبياء والرسل ولدعوة التوحيد، وقد حذَّر الله تعالى آدم عليه السلام من أول الأمر، فقال تعالى: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 117]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]. كما أن الشيطان هو الذي زيَّن للناس عِبادةَ الأصنام، كما فعل مع قومِ نوح وقوم إبراهيم ومشركي مكة وغيرهم، وهو الذي زيَّن لليهود عِبادةَ العِجْل، وهو الذي زيَّن للنصارى عبادةَ عيسى عليه السلام.   إن وظيفة الشيطان هي إغواءُ الناس وإضلالهم؛ حتى يقعوا في الكفر والمعاصي، ويفعلوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كما أن وظيفتَه الكبرى هي إقامة دولة الشرك على أنقاض دولة التوحيد، وبِناء مجتمع الرذيلة على أشلاء مجتمع الفضيلة، بعد تقطيع أوصاله، وإضاعة قِيَمه، وإن واجب الوقت - وكل وقت - هو إبطال وظيفة الشيطان، وإفشال خططه، وإحباط محاولاته، وإجهاض سَعْيه وخطواته؛ وذلك يكون بالتحرز من الشيطان؛ وذلك بالاستعاذة بالله السميع العليم؛ كيلا يكون للشيطان سبيل ولا سلطان على المؤمن، قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200]، وقال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 97، 98]، والتحرز من الشيطان يكون أيضًا بما يلي: 1- الدعوة إلى الله تعالى، وإرساء قواعد التوحيد، وهدم أركان الشرك، وسد أبوابه وروافده، وهذه وظيفة المسلمين والدعاة على وجه الخصوص. 2- الدعوة إلى التمسك بكتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهما صمام الأمان للمحافظة على كِيان المجتمع المسلم، وتثبيت الفضائل وتأصيلها، ومحاربة الرذائل ومنعها. 4- العلم الشرعي للوقوفِ على مداخل الشيطان للإنسان، وهي إما عن طريق الشبهات أو الشهوات أو كليهما معًا. 5- زيادة الإيمان بالله تعالى، وتحقيق العبودية لله عز وجل؛ فإنه لا سبيل ولا سلطان للشيطان على عباد الله المخلَصين. 6- الرجوع إلى كتاب الله عز وجل، والحكم بشرع الله؛ فهو حرزٌ لجميع المحكومين به من الشيطان، جاء في كتاب (قدر الدعوة): (فكما تدخل أسباب الحرز الفردي من الشيطان أساسًا لإسقاط الحكم الجاهلي، باعتبار أن الذين سيقومون بهذه المهمَّة هم عباد الله المخلصين، فإنه بهذا التصور أيضًا يكون الحكم الإسلامي هو الحرز العامَّ الذي يحقق النجاة الاجتماعية من سلطة الشيطان) [7].


[1] تفسر ابن كثير، ج2، ص 317. [2] تفسير الشعراوي، المجلد الثامن، ص 4732. [3] قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ﴾ [الأنعام: 121]. [4] روح المعاني، ج6، ص 20. [5] ذكر المفسرون أن إبليس ظهر للمشركين في صورة سُراقة بن مالك، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخافهم أن يأتوهم مِن ورائهم؛ لأنهم قتلوا رجلًا منهم، وهو الذي قال: ﴿ إِنِّي جَارٌ لَكُمْ ﴾، فلما اصطفَّ الناس وأقبَل جبريل عليه السلام إلى إبليس، فلما رآه وكانت يدُه في يد رجل من المشركين، فقال الرجل: يا سراقة، أتزعم أنك جار لنا، فقال: ﴿ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ﴾! ويقول الرازي: ما الفائدة في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة؟ الجواب: فيه معجزة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن كفَّار قريش لمَّا رجعوا إلى مكة، قالوا: هزم الناس سراقة؛ فبلغ ذلك سراقة، فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغَتْني هزيمتُكم، فعند ذلك تبيَّن للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة، بل كان شيطانًا، أما القول في التزيين: 1- أنه زين بوسوسته. 2- أنه ظهر في صورة إنسان؛ انظر مفاتيح الغيب، المجلد الخامس، ج5، دار الفكر، 1990، ص 180. • ومع كثرة الروايات التي تحكي ظهور الشيطان في صورة سراقة، إلا أنني لا أميل إلى هذا القول؛ لأن أصل عمل إبليس إنما هو بالوسوسة والإغواء، والتغرير والاستدراج، عن طريق مداخله وخطواته، حتى يُسلم أتباعَه ويُورِدهم المهالك، ثم يتبرأ منهم. ويعلق الدكتور مصطفى زيد على هذه الروايات قائلًا: (وهم يَبْنون هذا على روايةِ الكلبي عن ابن عباس، غير أن المحدِّثين يصفون روايات الكلبي عن ابن عباس بأنها من أَوْهَى الروايات؛ سورة الأنفال عرض وتفسير، ص 167. [6] الموطأ، دار إحياء الكتب العربية، ترقيم وتعليق محمد فؤاد عبدالباقي، باب جامع الحج، حديث رقم 245 ص 422، (من حديث طلحة بن عبيدالله بن كريز)، والحديث مرسل، وقد وصله الحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء. [7] قدر الدعوة؛ رفاعي سرور، مكتبة الحرمين، 1992، ص 357.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١