أرشيف المقالات

الوكيل جل جلاله

مدة قراءة المادة : 27 دقائق .
2الوكيل جل جلاله
قال تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 3]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 65]. وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾[هود: 12]. وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].   معنى الاسم في حق الله: (الوكيل جل جلاله: هو "المتولي تدبيرَ خلقه بعلمِه وكمال قدرته وشمول حكمته[1]، المتكفِّلُ بأرزاقهم وحاجاتهم، وهذا هو المعنى العامُّ لاسم الله الوكيل؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62].   أما المعنى الخاص: فالوكيل جل جلاله: هو الذي يتولَّى أمر عباده الصالحين؛ فييسرهم لليسرى، ويُجنِّبهم العُسْرى. الوكيل جل جلاله: هو الذي يكفي مَن التجأ إليه واعتمَد عليه، ووثق بقدرته وحكمته، يكفي عبادَه المؤمنين جميعَ ما يحتاجون رزقًا ومعاشًا وحفظًا ونصرًا وعزًّا، ويدفع عنهم جميع ما يكرهون؛ قال تعالى: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشِه قال: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممَّن لا كافيَ له ولا مُؤوي))[2]. نخلص من ذلك أن: "الوكيل" جل جلاله هو المدبِّر والكفيل، والكافي؛ مدبرٌ أمورهم، وكفيلٌ بحاجاتهم، وكافيهم.   حق "الوكيل" جل جلاله: ١- أن نتخذه وكيلًا: قال تعالى: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9]، ملك الملوك وربُّ الأرباب جل جلاله، يأمرك أن تتخذه وكيلًا، يأمرك ألا تُلجِئ ظهرَك إلا إليه، ولا تضع ثقتك إلا فيه، ولا تعلِّق آمالك إلا به. ومع وضوح الأمر في قوله تعالى: ﴿ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ﴾ [المزمل: 9]، إلا أن الله تعالى - لإظهارِ الجدِّ - حذَّر مِن الضد، فقال: ﴿ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ﴾ [الإسراء: 2].   فإن قال قائل: وكيف نتَّخِذ الله وكيلًا؟ فالجواب: 1- أن يكون اللسانُ دائمًا لاهجًا بالركون إليه والتوكل عليه: عن أمِّ سَلَمة أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته، قال: ((بسم الله، توكلت على الله، اللهم إنا نعوذ بك أن نَزِلَّ أو نضل، أو نَظلم أو نُظلم، أو نَجهل أو يُجهل علينا))[3].   وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن قال إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ يُقال له: كُفِيت ووُقيت، وتنحَّى عنه الشيطان))[4]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((أكثِرْ مِن "لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ فإنها كنزٌ مِن كنوز الجنة))[5]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله: أسلم عبدي واستسلم))[6].   و"لا حول ولا قوة إلا بالله" معناها: لا يَحُولُ بينك وبين ما تكرَهُ إلا الله، ولا يقودك إلى ما تحب إلا الله، أو لا تَحوُّلَ للعبد من حال إلى حال إلا بالله، فما شاء الله كان وما لم يشَأْ لم يكن. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا دعاء الكرب، فيقول: ((دعواتُ المكروب: اللهم رحمتَك أرجو، فلا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عينٍ، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت))[7].   وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء النوم، فيقول: ((إذا أتيتَ مضجعَك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شِقِّك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمتُ وجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابِك الذي أنزلت، ونبيِّك الذي أرسلت، فإن متَّ مِن ليلتك متَّ على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيرًا، واجعلهنَّ آخر ما تتكلم به))[8].   • بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا أن نتعلق بالله ونستعينه ونستخيره، عندما نريد أيَّ عمل ونعزم على أيِّ شيء؛ عن جابر رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، ((إذا همَّ أحدُكم بالأمر، فليركَع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرُكَ بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلَمُ ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمرى - أو قال: عاجل أمرى وآجله - فاقدُرْه لي ويسِّره لي، ثم بارِك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمرى، فاصرِفْه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به))، قال: ((ويُسمِّي حاجتَه))[9].   كل هذا ما يُسمى بالتفويض اللساني؛ أن يلهج لسانُك بالتوكل على الله الوكيل، "لو أن شخصًا لديه قضيةٌ في المحكمة ونصَحوه أن يُفوِّض محاميًا ماهرًا مشهورًا بالعمل في القضايا الشائكة، فكلما كانت خبرة المحامي أكبر، زاد شعورك بالاطمئنان، فكيف لو كان الذي فوَّضتَه هو الوكيل جل جلاله؟![10].   ومِن هنا نهى أهلُ العلم أن يقول رجلٌ لآخر: "توكَّلت على الله وعليك"، وعَدُّوا هذا نوعًا من الشرك بالله، فلا يتوكَّل إلا على الله وحدَه، ولا يركن إلا إلى الله وحده، وإن كان الإنسان لا بد قائلًا، فليقل: (توكلتُ على الله ثم عليك)، وما بعد ثُمَّ إنما هو الأخذ بالأسباب، مع تعلق القلب برب الأرباب ومسبب الأسباب جل جلاله.   2- أن يتعلَّق قلبُك بربك، ويرضى قلبُك بربك، ويَثِق قلبك في ربك، ويركن قلبك إلى ربك، وهذا هو بيت القصيد، وحقيقة التوكل، وعُنوان الإيمان باسم الله الوكيل؛ فالتوكل: "صدقُ اعتمادِ القلب على الرب في استجلاب المنافع ودفع المضارِّ؛ من أمور الدنيا والآخرة، والاعتقاد أنه لا يعطي ولا يَمنَع، ولا يضر ولا ينفع سواه"[11].   وقيل: "انطراح القلب بين يدي الرب؛ كانطراح الميتِ بين يدي المغسِّل، يُقلِّبه كيف يشاء". وقال بعضهم: "يقول بعض الناس: توكَّلتُ على الله، وهو يكذب على الله، لو توكل على الله رضي بما يفعَل"[12]؛ لأنه سبحانه وتعالى الضامنُ لرزق عباده، المدبر لشؤونهم، الراعي لمصالحهم بحكمة وعلم وقدرة مطلقة.   إن عقيدة التوكل يجب أن تنغرِسَ في الأذهان، وتنقدح في الأفئدة، فيكون المؤمن في كل أموره وجميع أحواله وشتى أفعاله، متوكلًا على ربه وخالقه، مستعينًا بمعبوده، واثقًا بإلهه، وعلى المرء بذلُ الأسباب، والباقي على منشئ السَّحاب[13].   فإن قال قائل: في أي شيءٍ نتخذ الله وكيلًا؟ فالجواب: في كل شيء؛ فالتوكل على الله عُنوان الإيمان وأمارة الإسلام؛ قال تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 84].   فالتوكل على الله حالُ المؤمن في جميع الأحوال والأحيان: 1- فمَن أراد أن يقوم بالعبادة على وجهها، فليتوكل على الله؛ قال تعالى: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [هود: 123]، وأمرنا تعالى أن نقرأ في صلواتنا: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ لأنه تعالى إذا لم يُعِنْك على عبادته، فلن تفعل شيئًا!   2- ومَن أراد أن تنجَحَ دعوتُه، ويظهر أثرها، فليتوكل على الله؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129].   3- ومَن أراد سَعة الرزق وطيب الكسب، فليتوكل على الله؛ ففي الحديث: ((لو أنكم تتوكَّلون على الله حق توكُّله، لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتعود بِطانًا))[14].   4- ومَن أراد أن يُصيب في حكمه ويقضي بالعدل، فليتوكل على الله؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [الشورى: 10].   5- ومَن أراد أن ينتصرَ على عدوِّه، فليتوكل على الله: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160].   6- ومَن أراد أن تتمَّ عهوده وتنجح مواثيقه، فليتوكل على الله: ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [يوسف: 66].   7- وفي كل ما يقوله الإنسان ويقوم به ويعزم عليه، ينبغي أن يتوكَّل فيه على الله تعالى؛ قال الله: ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، وقال الله: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].   • واعلم أن: • الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله[15]: بل هو مِن تمامه وكماله، لكن الحذر من ركون القلب إلى الأسباب، فهذا هو المنافي للتوكل؛ قال الله تعالى لمريم عليها السلام: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، وهي الضعيفة، الواضعة، النُّفساء، والنخلةُ لا تُهز، ولكن الله تعالى أراد أن نتلقَّى درسًا مهمًّا، وهو أن الأخذ بالسبب ولو كان ضعيفًا دون أن يتعلق به صاحبه، تكون وراءه النتيجة المثمرة: توكَّل على الرحمنِ في كل حاجةٍ ولا تُؤثِرنَّ العجْزَ يومًا على الطلبْ ألم ترَ أن الله قال لمريمٍ إليكِ فهُزِّي الجذعُ يَسَّاقَطِ الرُّطَبْ ولو شاء أن تجنِيه مِن غير هزِّها جَنَتْهُ ولكنْ كلُّ شيء له سببْ
ثانيًا: أن تطلب منه الكفاية: إذا علِم العبدُ أن الله هو الكافي عبادَه؛ رزقًا ومعاشًا، وحفظًا ونصرًا وعزًّا - اكتفى به عمَّن سواه، وطلب منه وحده الكفاية، قال صلى الله عليه وسلم: ((ومَن استكفى كفاه اللهُ))[16].   • فمن وقع في شدة وضائقة، فليطلب من الله الكفاية، فإن الله كافيه: فإن الغلامَ المؤمن لَمَّا أبَى أن يرجِعَ عن دينه، دفعه الملك إلى نفرٍ من أصحابه، وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فإذا بلغتُم ذروته فاطرحوه، فلما بلغوا به قمة الجبل وهمُّوا بطرحه، قال: "اللهم اكفنِيهم بما شئت"، فرجف بهم الجبل، فسقطوا فهلكوا، ورجع الغلام إلى المَلِك، قال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟ قال: كفانيهم اللهُ، فدفعه إلى جماعةٍ آخرين، وأمرهم أن يركبوا البحر في قرقور، فإذا توسطوه عرَضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن لم يفعل رمَوه في البحر، ففعلوا وهمُّوا، فقال: "اللهم اكفنيهم بما شئت"، فانقلبت السفينة وغرِقوا، وأنجاه الله"[17].   • ومن كان عليه دَينٌ، فليتضرَّع إلى الله، وليطلُبْ منه الكفاية، فإنه كافِيهِ: عن عليٍّ أن مكاتبًا جاءه فقال: إني قد عجَزتُ عن كتابتي، فأعنِّي، قال: ألا أُعلِّمك كلمات علَّمَنيهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كان عليك مثل جبلِ صِيرٍ دَينًا، أدَّاه الله عنك، قال: قل: ((اللهم اكفِني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سواك))[18]"[19]. وفي كل شيء يطلب العبد كفايتَه مِن الكافي الكفيل الوكيل جل جلاله.   ثمرات الإيمان باسم الله الوكيل: (1) الوقاية من الشيطان: قال تعالى - عن الشيطان الرجيم -: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 99]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَن قال - يعني إذا خرج من بيته -: بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يُقال له: كُفيت ووُقيت وهُديت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجلٍ قد هُدِي وكُفي ووقِي)).[20]   (2) التخلص من التشاؤم والإقبال على التفاؤل: التشاؤم من أفعال الجاهلية، ومن صفات الذين لا يؤمنون بالله، والتشاؤم: التطيُّر بالمكروه؛ من قول أو فعل أو مرئي، فبعض الناس إذا خرج لعمله عاد! فإذا سئل في ذلك قال: رأيتُ فلانًا فتشاءمت فرجعت، أو سمعت كذا، فتشاءمت فرجعت، وإذا حدَث له شيء يكرهه، قال: أنا اصطبحت بوجهِ مَن اليوم؟! فحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقال: ((الطِّيرةُ شركٌ، ولكن الله يُذهِبها بالتوكل))[21]. فالإيمان باسم الله الوكيل يُلقِي السكينة والطمأنينة في قلوب المتوكِّلين، ويجعلهم يسيرون هادئين غير مبالينَ بشيءٍ.   (3) الشعور بالعزة: قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49]. عزيز: لا يُذَلُّ مَن استجار به، ولا يضيع مَن لاذ بجنابه والتجَأ إليه. حكيم: يضع الأشياء في مواضعها ولا يظلم أحدًا.   (4) الوصول إلى محبة الله: قال الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]، وإذا أحب الله عبدًا لا يُعذِّبه في النار أبدًا، وإذا أحب الله عبدًا ألقى محبَّته في قلوب عباده، وإذا أحبَّ الله عبدًا استجاب دعاءه وأعطاه سُؤْله.   (5) دخول الجنة بغير حساب ولا عذاب: فعن عِمران بن حُصَين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخلُ الجنةَ مِن أمتى سبعون ألفًا بغير حساب ولا عذاب))، قالوا: مَن هم يا رسول الله؟ قال: ((هم الذين لا يَكْتَوُون، ولا يستَرْقون، وعلى ربهم يتوكَّلون))[22]. الاكتواء: استعمال الكيِّ في البدن، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم نَهْيَ تنزيهٍ، فتركه إمعان في التوكل. الاسترقاء: طلب الرقية، وتركه علامة على التوكل.   (6) سَعة الرزق:ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو أنكم تتوكَّلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزُقُ الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا))[23].
• تأمل: ((لو أنكم تتوكَّلون على الله))، هل نحن متوكلون على الله؟ أم على الوظيفة، والراتب، والتجارة، وشركات التأمين، والرصيد؟ فضعف التوكلُ على الله إلا مَن رحِم الله!   • وتأمل: ((لرَزَقَكم))، فإذا عانَيْنا من الرزق وضِيق العيش، وانشغلنا بذلك، فذلك علامة على ضَعف توكُّلنا على الله. توكلتُ في رزقي على اللهِ خالقي وأيقنتُ أن اللهَ لا شكَّ رازقي وما يك مِن رزقي فليس يفوتُني ولو كان في قاعِ البحارِ العوامقِ سيأتي به اللهُ العظيمُ بفضلهِ ولو لم يكن مني اللسان بناطقِ ففي أي شيء تذهبُ النفس حسرةً وقد قسَّم الرحمنُ رزقَ الخلائقِ[24]   • عزم حاتم الأصم عامًا على الحج: فأخبر أبناءه بذلك، فقالوا: إلى مَن تَكِلُنا؟ وكانت له ابنةٌ مباركة قد رزقها الله تعالى نعمةَ الإيمان والتوكل واليقين، فقالت: دَعُوه يذهب، فليس برازق، فخرج فباتوا جياعًا، فجعلوا يوبِّخون تلك البنت، فقالت: اللهم لا تخجلني بينهم، فمرَّ بهم أمير البلد، فقال لبعض أصحابه: اطلبْ لي ماءً، فناوله أهل حاتم كوزًا جديدًا، وماءً باردًا، فشرِب، وقال: دار مَن هذه؟ فقالوا: دار حاتم الأصم، فرمى فيها صرَّةً من ذهب، وقال: مَن أحبَّني فليصنع مثل ما صنعت، فرمَى العسكر ما معهم من مال في هذه الدار، فجعلت البنت تبكي، فقالت أمها: ما يبكيكِ، وقد وسَّعَ الله علينا؟ فقالت: لأن مخلوقًا نظر إلينا فاغتَنَينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟[25].   وقيل له يومًا: كيف بَنَيت أمرك هذا من التوكل؟ فقال: علمتُ أن رزقي لا يأكله غيري، فلستُ أهتمُّ به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري، فأنا مشغولٌ به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتةً، فأنا أبادره، وعلمتُ أني بعين الله في كل حال، فأنا أُراقبه.[26]   (7) حصول الكفاية والتخلص من القلق: قال بعض السلف: جعل الله تعالى لكلِّ عمل جزاءً من جنسه، وجعل جزاءَ التوكل عليه كفايتَه لعبده، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، ولم يقل: نُؤْتِه كذا وكذا من الأجر، بل جعل نفسه سبحانه كافِيَ عبده المتوكِّل عليه وحسبَه وواقيه".[27] فهناك لا تسأَلْ عن كل أمر يتيسر، وصعبٍ يتسهل، وخطوب تهون، وكروب تزول، وأحوال وحوائج تُقضى، وبركات تنزل، ونقم تُدفع، وشرور ترفع.[28]   ألم ترَ قول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبِه وهما في الغار: ((ما ظنُّك يا أبا بكر باثنينِ اللهُ ثالثُهما))[29]. ألم ترَ قول الله تعالى عن مؤمنِ آل فرعون حين قال لقومه: ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44].   ألم ترَ قولَ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعَتْ عليهم أحزاب الكفر؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173، 174].   (8) قضاء الدين: وقد سبق معنا قولُ عليٍّ رضي الله عنه للمكاتب الذي طلب منه الإعانة: "أُعلِّمك كلمات علَّمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثلُ جبلِ صيرٍ دَينًا، لأداه الله عنك، قل: ((اللهم اكفِني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمَّن سواك))[30].   • وفي صحيح البخاري أن رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسلفه ألف دينار، فقال: ائتِني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، فقال: ائتِني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلًا، قال: صدقتَ، فدفعها إليه إلى أجلٍ مسمًّى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يقدم عليها للأجل الذي أجَّله، فلم يجِدْ مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجَّ موضعها - أصلحه - وقال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلًا فقلت: كفى بالله كفيلًا، وسألني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضِي بك، وإني جهدتُ أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له، فلم أجد، وإني أستودِعُكها، فرمى بها إلى البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف فخرج الرجل الذي كان أسلف لعلَّه يجد مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم لما قدم الذي كان أسلفه، فأتى إليه بألف الدينار، وقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه، فقال: أكنت بعثت إليَّ شيئًا؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدَّى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بماله راشدًا".   (9) زوال الهموم وتفريج الأحزان والغموم: يَحكِي أحدُ الدعاة أن رجلًا فُصِل من وظيفته، تنكدت عليه معيشته، وصار في حزن وهمٍّ، قال الشيخ: وشاء الله أن يقابلني، فسألني عن فلان الذي يتوسط له في إرجاعه إلى وظيفته، قلت: لا أعرف الذي تريد، ولكن أعرف مَن يحل لك مشكلتك ويكفيك همك، فقال الرجل في لهفة وشوق: أيؤثِّر على فلان رئيس الإدارة؟ قلت: نعم يؤثِّر عليه، قال: تعرفه؟ قلت: نعم أعرفه، قال: تستطيع أن تكلمه؟ قلت: نعم أُكلمه، وتستطيع أن تكلمه أنت كذلك، قال: مَن هو؟ قال: الله عز وجل، قُمْ في السَّحَر واشكُ له ما عندك، قال: فتأثَّرت وقمت من الليل، وصليت، ودعوت الله، ولُذتُ به وكأني أراه، ثم أصبحت وذهبت تلقائيًّا إلى رئيس الإدارة، وإذا به يقوم من مقعده ويرحِّب بي، ويسأل عن أحوالي، ولم تكن بيني وبينه عَلاقة، فقلت له: والله موضوعي كذا وكذا، ففعل لي ما طلبت وكانت مشكلتي لم تُحل منذ ثلاثة أشهر، فقمت وأنا لا أصدق نفسي، وقلت: مَن تعلق بالمخلوق جفاه، ومَن توكل على الخالق كفاه.   وصدق مَن قال: من اعتمد على مالِه قلَّ، ومَن اعتمد على عقله ضلَّ، ومَن اعتمد على جاهِه ذلَّ، ومَن اعتمد على الله لا قلَّ ولا ضلَّ ولا ذلَّ.


[1] تفسير السعدي. [2] رواه مسلم. [3] رواه ابن ماجه والترمذي، وصححه الألباني. [4] صحيح الترمذي. [5] رواه الطبراني، وانظر: صحيح الجامع. [6] رواه الحاكم، وانظر: صحيح الجامع. [7] رواه أحمد، وأبو داود، وحسنه الألباني. [8] متفق عليه. [9] رواه البخاري. [10] هنيئًا لمن عرَف ربه. [11] جامع العلوم والحكم؛ ابن رجب. [12] مدارج السالكين؛ ابن القيم. [13] الله أهل الثناء والمجد؛ ناصر بن مسفر الزهراني. [14] رواه أحمد، والترمذي، وصحَّحه الألباني. [15] ثلاثون خطوة في طريق السعادة؛ المؤلف. [16] صحيح النسائي. [17] راجع حديث أصحاب الأخدود في اسم الله "الرب". [18] صحيح الترمذي. [19] الأسماء الحسنى والصفات العلا؛ عبدالهادي حسن وهبي. [20] رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني. [21] رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني. [22] رواه مسلم. [23] رواه أحمد، والترمذي، والحاكم، وغيرهم، وصحَّحه الألباني. [24] ديوان الإمام الشافعي. [25] ذكرها مطولة الأبشيهي في المستطرف. [26] صفة الصفوة؛ ابن الجوزي. [27] بدائع الفوائد؛ ابن القيم. [28] تفسير السعدي. [29] متفق عليه. [30] صحيح الترمذي.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١