أرشيف المقالات

تطبيقات لقاعدة المشقة تجلب التيسير

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2تطبيقات لقاعدة المشقة تجلب التيسير من خلال كتاب مذاهب الحكام
لَمَّا كانَتْ هذه القاعدة الجليلة، وهي قاعدة "المشقة تجلب التيسير"، مِن أهم قواعد الفقه الإسلاميِّ، ومن جملة القواعد الخمس الكبرى التي ينبنِي عليها صَرْحُ الفقه؛ فإن العلماء رحِمهم الله أخَذوا بها، وجعَلوها أساسًا يعتمد عليه في تنزيل الأحكام الشرعيَّة على الوقائع والأحداث والنوازل.   ومن جملة العلماء الذين تصدَّروا للفتوى في زمانهم، وجعَلوا هذه القاعدة نُصْب أعينِهم: الإمامُ القاضي عِياض رحمه الله في كتاب "مذاهب الحكام في نوازل الأحكام".   وقد حاولتُ في بحثٍ متواضع أن أجمع جملةً مِن النوازل التي أفتى فيها الإمام رحمه الله مستعينًا بقاعدة المشقة تجلب التيسير؛ ومِن ذلك: • موضوع النازلة: سؤالٌ عن جامع احتِيج للزيادة فيه، فامتنع مَن حوله من البيع وادَّعوا التَّحبيس[1].   • النازلة: جوابك - رضي الله عنك - في جامع مصر من الأمصار، ضاق عن أهله وعمَّن يصلي فيه الجمعة، واحتاجوا إلى الزيادة فيه، وحواليه حَوَانِيت لقومٍ شتى، وربما طلب منهم البيع في تلك الحوانيت؛ لتزداد في الجامع، فامتنعوا، هل يُجْبَرون على البيع بالقيمة؟ وكيف إن ادَّعى بعضُهم التحبيسَ في ذلك، وأثبت ما ذكر أو لم يثبته، فهل يُجْبَرون على البيع لأجل الضرورة المذكورة؟[2].   • الجواب عن النازلة: قال رحمه الله: "إذا ضاق المسجدُ الجامع عن أهل الموضعِ واحتِيج إلى الزيادة فيه، ولم يكن حواليه ما يزاد فيه إلا مِن الحوانيت التي أبَى أربابُها مِن بيعها، فالواجب في ذلك أن تُؤخَذ منهم بالقيمة، ويُحكَم عليهم بذلك على ما أحبوا أو كرِهوا؛ لمنفعة الناس بذلك وضرورتهم إليه[3].   • مستند الجواب: ذكر رحمه الله أن هذه النازلةَ ترجِعُ في مستندها إلى "عمل الصحابة الكرام"؛ فبذلك قضى عثمانُ بن عفَّان رضي الله عنه على مَن أبَى عليه البيعَ مِن أهل الدُّور التي زادها في مسجدِ النبي صلى الله عليه وسلم المحبَّسة وغيرها.   وقد روى ابن عبدوس عن سحنون، أنه قال في نهر إلى جانب طريق الناس، وإلى جانب الطريق أرض لرجل، فمال النهر على الطريق فهدمها، قال: إن كان للناس طريقٌ قريبة يسلكونها ولا ضررَ عليهم في ذلك، فلا أرى لهم على هذا الرجل طريقًا، وإن كان يدخُلُ عليهم في ذلك ضرر، رأيت أن يأخُذَ لهم الإمام طريقًا في أرضِه، ويعطيَه قيمتها مِن بيت مال المسلمين، وهذه مثل مسألتك بعينِها، لا فرق بينهما، وهذا الحكم من باب القضاء على الخاصة لمنفعة العامة[4].   • وجه انطباق المسألة على قاعدة المشقة تجلب التيسير: بالنظر في هذه المسألة وما ذكر من مثيلاتِها في الجواب، فإننا نجدُ أنها قد أُعمِلَت فيها مجموعةٌ من القواعد الفقهية المتفرِّعة عن قاعدة "المشقة تجلب التيسير"؛ ومنها: • قاعدة: "الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة". • قاعدة: "الاضطرار لا يُبطِل حق الغير".   أولًا: قاعدة "الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة": ومعناها: "أن التسهيلاتِ التشريعية لا تقتصر على الضرورة المُلجِئة، بل حاجات الجماعة - مما دون الضرورة - تُوجِب التسهيلات الاستثنائية أيضًا، وسواء كانت الحاجة عامةً أو خاصةً، فإنها تؤثر في تغيير الأحكام مثل الضرورة؛ فتُبِيح المحظور، وتُجيز ترك الواجب، وغير ذلك مما يستثنَى مِن القواعد الأصلية"[5].   ووجهُ تطبيق هذه القاعدة في المسألة: أنه لَمَّا ضاق المسجد عن أهله، ووقع الناس في المشقة، احتِيج لدفع هذه المشقة عن طريق توسِعة المسجد وضم الحوانيت الملاصقة له؛ تنزيلًا للحاجة منزلةَ الضرورة.   ثانيًا: قاعدة "الاضطرار لا يُبطِل حق الغير": ومعناها: أن الاضطرار وإن كان سببًا مِن أسباب إباحة الفعل، أو كان سببًا مِن أسباب امتناع المسؤولية الجنائية، مع بقاء الفعل محرمًا، فإنه لا يُسقِط حقَّ إنسان آخر من الناحية المادية؛ إذ لا ضرورة لإبطال حقوق الناس، والضررُ لا يُزال بالضرر[6].   ووجهُ تطبيق القاعدة في المسألة: أنه لَمَّا حكم بضمِّ الحوانيت للمسجد وسلب ملكيتها عن أهلها قصدَ التوسِعة ودفعًا للمشقةِ، حكم كذلك بدفع قيمة الحوانيت لأهلها وتعويضهم عن الضرر؛ إذِ الضررُ لا يُزال بالضرر.


[1] مذاهب الحكام، ص: 313. [2] مذاهب الحكام، ص: 313. [3] مذاهب الحكام، ص: 314. [4] مذاهب الحكام، ص: 314. [5] القواعد الفقهية الكبرى، ص: 288. [6] القواعد الفقهية الكبرى، ص: 300.



شارك الخبر

المرئيات-١