أرشيف المقالات

اسم الله الرفيق

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2سلسلة شرح أسماء الله الحسنى (32) اسم الله "الرفيق"
انتهينا في المناسبات الثلاث الماضية مِن الحديث عن اسم الله "السلام"، فوقَفْنا على معناه وفقهه، والآثار التربوية المترتبة على الإيمان به، التي أجملناها في ثلاثة: ضرورة اعتقاد سلامة الله تعالى من كلِّ عيبٍ ونقصٍ، والعمل على استجلاب سلامة الله في أشد المواطن احتياجًا إليها، والمسارعة إلى ما يُسَلِّمُ العبد يوم الحساب.
وننتقل اليوم إن شاء الله تعالى إلى الحديث عن اسم آخر مِن أسماء الله الجليلة، التي يحتاج العبدُ فيها إلى التعبد لله تعالى، وبخاصة في أصعب الأحوال التي تعترضه، وأشد المواطن التي تكتنفه، حين يجد في صدرِه ضيقًا، وفي نفسه انقِباضًا، وحينما يُبتَلى في دينه، أو ماله، أو أهله وولده، وحينما ينسدُّ الأفق في وجهه، وتوحش الدنيا في عينه، وتظلم الحياة بين يديه، وحينما يرى الخشونة في تصرُّفاته، والشدة في كلامه، والتوتر في علاقاته، والنفور من حوله، فلا يجدُ الملجأ إلا في دعاء الله عز وجل باسمه: "الرفيق" - أن ييسِّر أمره، ويقضي حاجته، ويفرج همه، ويزيل كربه؛ لأنه يعلم أن الله تعالى لم يبتله إلا ليردّه إليه، ولم يمنعه إلا ليعطيه، ولم يشقق عليه إلا ليذكره ويؤوب إليه. ولرُبَّ نازلةٍ يضيق بها الفتى ذَرعًا، وعند الله منها المخرَجُ ضاقت فلمَّا استحكمتْ حَلقاتها فُرجَتْ وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ
وهو اسم لله ثابت بالسنة النبوية، فقد سَماه به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ))؛ متفق عليه، قال الإمام النووي رحمه الله: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ))، ففيه تصريح بتسميته سبحانه وتعالى ووصفه برفيق".
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "ومِن أسمائه سبحانه: الرفيق، وهو مأخوذٌ مِن الرفق، الذي هو التأنِّي في الأمور والتدرُّج فيها، وضده العنف الذي هو الأخذ فيها بشدة واستعجال".
وقال القرطبي رحمه الله: "الرفيق: أي الكثير الرفق، وهو اللين والتسهيل، وضده العنف والتشديد والتصعيب". وقال الليث: "الرفق: لين الجانب، ولطافة الفعل، وصاحبه رفيق".
واختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسم الشريف ليكون من آخر ما دعا الله تعالى به قبل موته، قالت عائشة رضي الله عنها: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وهو مستند إِلَيَّ يقول: ((اللهم اغفرْ لِي، وارحمنِي، وألحقني بالرَّفِيقِ الأَعْلَى))"؛ البخاري.
قال ابن القيم في النونية: وهْوَ الرَّفِيقُ يُحبُّ أهلَ الرِّفْقِ، بَلْ ♦♦♦ يُعطيهمُ بالرِّفقِ فَوْق أمَانِي
والرفق ضِدُّ العُنْفِ، ومن معانيه: إرادة النفع والخير للغير، يقال: أَرْفَقْتُ؛ أي: نَفَعْتُ، يعني: أَوْصَلْتُ له النَّفْعَ، والرَّفِيقُ أيضًا: المُرَافِقُ في السفر، وهو كـ"صديق"، يطلق على الواحد وعلى الجمع؛ كقوله تعالى: ﴿ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
وتوحيد الله تعالى بهذا الاسم هو العمل على أن يكون للمسلم حظُّه من الرفق، في أقواله، وأفعاله، وعلاقاته، فتنصلح حياته، وتستقيم أحواله، وينقلب الضيق فرَجًا، والحزن فرَحًا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن يُحْرَم الرِّفْقَ يُحْرَم الخيرَ))؛ مسلم، وعند الترمذي: ((من أُعْطِيَ حظَّهُ مِن الرِّفْقِ، فقد أُعْطِيَ حظَّهُ مِن الخيرِ، ومَن حُرِمَ حَظَّهُ مِن الرِّفْق، فقد حُرِمَ حَظَّهُ من الخيرِ)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن اللَّهَ رَفِيقٌ يحبُّ الرِّفْقَ، وَيُعطِي عَلَى الرِّفْقِ - أي: من الثواب - ما لا يعطِي على العنفِ، وما لا يعطِي على ما سِوَاهُ))؛ مسلم، وذكر الإمام النووي معنًى آخر مهمًّا فقال: ((وَيُعْطِي على الرِّفْقِ))، معناه: يتأتى به من الأغراض، ويسهل من المطالب ما لا يتأتى بغيره".
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الرِّفق خير في الأمور كلها، مهما اشتدَّتْ وطأتها، واستحكمتْ عقدها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن اللَّهَ رَفِيقٌ يحبُّ الرِّفْقَ في الأمرِ كُلِّهِ))؛ متفق عليه.
واعتبر صلى الله عليه وسلم الرفق زينة الأقوال والأعمال، وجمال التصرُّفات والعلاقات؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الرِّفْقَ لا يكون في شيءٍ إلا زَانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلا شَانَهُ))؛ مسلم.
وتذكُر لنا عائشة رضي الله عنها سياقًا عجيبًا للرفق في معرض الاعتداء والتجنِّي على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالتْ: "استأذن رهطٌ مِن اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم - أي: الموت - فقالت عائشة: ففهمتُها، فقلتُ: وعليكم السام، ولعنكم اللهُ، وغضب اللهُ عليكم، قال: ((مهلًا يا عائشة، عليك بالرِّفْقِ، وإيَّاك والعنف والفُحش))، قالتْ: أولَم تسمع ما قالوا؟ قال: ((أولَم تسمعِي ما قلتُ؟! رددتُ عليهم، فيُستجابُ لي فيهم، ولا يُستجابُ لهم فِيَّ))؛ متفق عليه.
وبيَّن رسولُنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنَّ البيتَ الذي فيه الرِّفْقُ، تحلُّ فيه البركة، فتقلُّ مشكلاته، وتضمحل قلاقله، وتسوده السعادة والطمأنينة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أرادَ اللهُ عز وجل بأهل بيتٍ خيرًا، أدخل عليهم الرِّفْقَ))؛ صحيح الجامع، بل جعل اتصاف المسلم بالرفق منَّةً من الله ورحمة، ودليلًا على حبِّ الله له، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن اللهَ عزَّ وجلَّ لَيُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على الخرقِ، وإذا أحبَّ اللهُ عبدًا أعطاه الرِّفقَ، ما من أهلِ بيتٍ يُحرَمون الرِّفقَ، إلا حُرِموا الخيرَ))؛ صحيح الترغيب.
والله تعالى رفيق في أفعاله، حيث خلق المخلوقات كلَّها بالتدريج شيئًا فشيئًا، بحسب حكمته وإرادته، مع أنه قادر على خلقها دفعة واحدة، وفي لحظة واحدة، ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49].
قال الخطابي رحمه الله: "قوله: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ)) معناه: ليس بعَجول، وإنما يعجل من يخاف الفوت، فأما من كانت الأشياء في قبضته وملكه، فليس يعجل فيها".
وقال القرطبي - رحمه الله -: "وأما قوله: ((يُحبُّ الرفق))، يعني: يُحب تَرْكَ العَجَلة في الأعمال والأمور"، فالناس يعجلون الأمور؛ لأنهم يخافون أن تفوت عليهم، وتضيع منهم، والله تعالى لا يعتريه فوت، ولا يخشى ضياع شيء؛ لأنه مالك كلِّ شيء.
والله تعالى رفيق في تشريعه، فلم ينزل الأحكام والأوامر والنواهي جملة واحدة، ولو شاء لفعل، بل لو شاء لذهب بنا وأتى بغيرنا: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]، فشرع لنا من الشرائع ما نقوى عليه، ومن العبادات ما نطيقه ونقدر عليه، حتى إذا علم منَّا عدم القدرة، أو شدَّة المشقَّة، ترفَّق بنا، فتدرَّج معنا، حتى تألف العبادةَ نفوسُنا، وتأنس بها طباعنا، كما فعل سبحانه في فرضية الصيام، وفي تحريم الخمر والربا وغيرهما، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].
والله تعالى رفيق بالمخالفين الخطَّائين، فلا يعجِّل بعقوبتهم حتى ينذرهم، ويأخذ العهد عليهم ويُمهلهم، لعلهم يرجعون إلى الله بالتوبة، ويندمون على ما فعلوا بالأوبة؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]، وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ((إنَّ الله عز وجلَّ يبسُط يدَه بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوب مُسيء الليل، حتى تطلعَ الشمسُ مِن مغربها))؛ مسلم.
والله تعالى رفيق في تذليل قرآنه وتيسيره، فأنزله سبحانه في ثلاث وعشرين سنة، حتى يستوعبه الرعيلُ الأول، فيعمل بمقتضاه على بصيرة وعلم؛ قال تعالى: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106].
ثم يسره الله تعالى للقراءة والحفظ، وهيَّأ المسلمَ لأنْ يحفظه بسهولة ويُسر؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17].
ثم إن الله تعالى رفيق؛ لأنه يرافقنا، فهو معنا بعلمه سبحانه، يبارك أعمال الصالحين منَّا، ويصلح أحوال الغافلين منا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهما وحيدان في الغار، والمشركون محيطون بهما: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 40]. مَا مَسَّنِي قَدَرٌ بِكُرْهٍ أَوْ رِضًا إِلَّا اهْتَدَيْتُ بِهِ إليكَ طَريقَا أَمْضِ القَضَاءَ عَلى الرِّضا مِنِّي بِهِ إِنِّي وَجَدْتُكَ في البَلاءِ رَفِيقَا



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١