أرشيف المقالات

جرب أن تعفو

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
2جرِّب أن تعفو   في زمنٍ عزَّ فيه الصبرُ، وضاقَ فيه الصدرُ، وتحيَّر الفكرُ، وأصبح هَمُّ الناس التشفِّي والانتقام، والانتصار لأنفسهم حتى لو على حساب أصحابهم وأهلهم، جئتُكَ بنبأ يُريح القلب، ويُكسِبُكَ رضا الربِّ، ويجعل لك مكانةً عاليةً في نفوس الخَلْق؛ ذلك حين تدفع السيئة بأحسن ما يمكنك دفعها به من حسنات، حين تقابل الفظاظة بالسماحة، والغلظة بالرفق، والجهل بالصَّفْح، والقسوة بالشفقة والنصح.   حين ترسم بسمة في عيون دامعة، فقلوب الناس يا أخي فيها من الأحزان والهموم ما فيها، ومن الآلام ما يكفيها.   إنهم في حاجةٍ إلى قلب عطوف يحتويهم، ويدٍ حانية تربِّت على أكتافهم المثقلة بالجراح، تُخفِّف عنهم همومَهم، وتُلَمْلِم ما بعثَره الزمانُ منهم، رحمة تسع الكون بما فيه ومَنْ فيه.   ابسُط يدك الحانية حتى تُلامس الصدر المتوهِّج، والفؤاد المتوثِّب، فتَسكب عليه حبًّا وحنانًا، وهدوءًا واطمئنانًا. وحين يتفاخر أهل الجاهلية بقوة بطْشهم وشدَّة انتقامهم، فافخَر أنت بحُسْن عفوِكَ وسَعة حلمك، فهذه لعَمري هي الرِّفْعة الحقيقية، والقوة اليقينية، والحتمية القيمية.   احذَر قسوة القلب، عوِّدْه الرِّقَّة يعتادها، وألزِمه الرحمة يظلَّ مُلازمًا لها، وحين يظلمك أحدُهم ويُوغِر صدرك، ويستفزُّ مشاعرك، فادفَع بحلمك جهلَه، ورُدَّ بعفوِكَ كيدَه ومكرَه.   نعم، جرِّب أن تعفوَ عمَّن ظلمَكَ، وتُعطي مَن حَرَمَكَ، وتصِل مَنْ قَطَعَكَ، وتَبسِم في وجه من عبس في وجهك، وتبدأ بالسلام مَنْ خاصمَكَ، وتُواسي في النائبات مَنْ حاربَكَ، وتتغافل عمَّن أساء إليك، واعتدى بجهله عليك.   ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [فصلت: 34] فإذا بالخَصْم اللَّدُود ينقلب إلى حبيبٍ ودُود، وإذا بالعدوِّ المؤذي ينقلب إلى وليٍّ مُصافٍ.   فو الله ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35]، إنها العقول الراقية والنفوس الواثقة، نفوس آمنَت بالله واستنارت بهُداه، ووثقت بعَهْدِه، وآثَرَتْ ما عنده.   نفوسٌ أكبر بكثيرٍ من أن يستفزَّها جاهلٌ بخُبْث أقواله، أو شاردٌ بقُبْح أفعاله، إنها الرجولة وقوة اليقين.   اقبَل الأعذار، وأَقِلِ العثرات واغفِر الزلَّات، واطْوِ عنكَ كُلَّ ما مضى وفات، وفكِّر في العواقب قبل أن تغوصَ في لُجج الحياة، وتخوض في لَجَبِ المشكلات.   ألا ما أجمل العفو عند المقدرة، وبَرْد الصَّفْح في حرِّ الهاجرة! لا تكن غليظ الطَّبْع صَعْبَ المراس؛ بل كن سهل العِشْرة، ليِّن الجانب، وعليك بالرِّفْق دائمًا، واترُك الفحش جانبًا؛ فالغلظة والفحش ما أقاما حجةً ولا عضَّدا دليلًا ولا جلَبَا بُرْهانًا.   وماذا بعد التباعُد والتنافُر، والخصام والتشاحُن غير فساد العيش وضيق الصدر، والغيظ والقهر، وألم الصدِّ والهَجْر؟!   لا نريد أن نكون دُمًى تُحرِّكها الظروف، وتتحكَّم فيها الانفعالات؛ بل احتفظ بمستوى أخلاقِكَ من العظمة والتفوُّق، لا يهبط لحظة أو يتعثَّر.   لقد جاء الإسلام رحمةً لا عذابًا، وتواضُعًا لا استعلاءً، يضمن سلامة النفس، ويحفظ كرامتها، ويحترم إنسانيَّتَها وحريَّتَها، ويرعى هيبتَها، يُجدِّد للقيم الرُّوحية شبابَها، ويُعيد لها صوابها، فاطلُب الصبر ترزُقه، وتَحَلَّ بالحِلم تُعْطَه، وتجنَّب الشرَّ تُوْقَه، وتعوَّد على الدفع بالحسنى يَصِرْ دَيْدنَك ولازِمَكَ، ألا ((مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا))[1]، إنه وعْدٌ من الله يتجاوز حدود الزمان والمكان.   ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].


[1] رواه مسلم.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير