أرشيف المقالات

فلتكن لك موعظة

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
2فلتكن لك موعظة
ما أصعب لحظات الفِراق وما أقساها! خاصة عندما نفارق أحب الناس وأغلاهم، نشعر أن قطعة من قلوبنا قد غادَرتنا من غير رجعة، لكن ما يصبرنا ويُعزينا أنهم ذهبوا إلى مكان أفضل، ذهبوا للقاء رب كريم أرحم منا، بعيدًا عن هذه الدنيا الفانية.   تعود بي ذاكرتي إلى الماضي؛ عندما كان في أوْج صحته، أفنى عمره وتحمَّل مصاعب الحياة؛ ليؤمن لنا حياة سعيدة ملؤها الحب والحنان، أتذكره جالسًا على كرسيه، متفكرًا، ساهيًا عما حوله، ينظر إلى البعيد، ثم يقف ويسير سيرًا خفيفًا واضعًا يديه وراء ظهره، أتذكر أحاديثنا التي كنا نثيرها عند اجتماعنا مع الأهل والأحباب، معظم الأوقات كان لا يشاركنا الحديث إلا نادرًا؛ كان يحب العزلة والجلوس وحدَه أحيانًا.   أتذكَّره والصحيفة في يده، يقرؤها كل صباح وهو يرتشف فنجان القهوة، أتذكره وهو يصلي ويتلو آيات الرحمن من مصحفه الكبير الذي اعتاد أن يقرأ منه عندما كان معافى.   والآن، يا ألله، كأنه ليس هو، أنهكه المرض، وأثقل كاهله، حتى إنه لم يعدْ يقوَ على السير، وأصبح طريح الفراش، لا يكاد يستيقظ من شدة ألمه، عندما يفتح عينيه ينظر إليَّ ويبتسم، مع أنه أحيانًا لا يتذكرني أو يخلط بيني وبين أختي الصغرى، حتى إنه لا يتذكر اليوم الذي هو فيه، وما يجري فيه من أحداث.   سبحان الله! كيف يتبدل حال الإنسان بين ليلة وضحاها؟! كم أنت ضعيف أيها الإنسان، الأيام تتلاعب بك، وتأخذك يَمنةً ويَسرة، وأنت ما زلت مغترًّا بنفسك ولا تبالي، فكم سمعنا عن أناسٍ كانوا في منتهي قوتهم وجبروتهم، مرضٌ صغير أقعدهم ورمى بأحلامهم أدراج الرياح؛   فاعتبر يا بن آدم، واستعد لهذه اللحظة، فلا تدري ماذا سيحدث لك مع تقلب الأيام والشهور، تزوَّد بالطاعات، اقترب من ربك أكثر، جاهِد نفسك في طلب العلم، اهتم بتنقية روحك وقلبك، انثر السعادة في نفسك وعلى مَن حولك، لترى الحياة ربيعًا أخضرَ، فالدنيا دوارة ولا تعلم متى تأتي المنية!   فلنُعِدَّ زادنا فأمامنا سفرٌ طويل؛ ومهما فعلنا فزادنا قليلٌ، ذنوبنا كثيرة، ولكن رجاؤنا معلق برب كريم يغفِر الذنوب والزلات؛ قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].   بعد فترة وجيزة من كتابتي لهذه الكلمات، توفِّي والدي الغالي رحمه الله، بعد صراع مرير مع مرض عضال، وترك فراغًا كبيرًا في حياتنا، فرحمه الله وأسكنه فسيح جنانه هو وجميع موتى المسلمين. يا نفس توبي فإن الموتَ قد حانَا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتَّانَا أما ترينَ المنايا كيف تَلقطنا لقطًا وتُلحق أخرانا بأولانا في كل يوم لنا ميتٌ نُشيعه نرى بمصرعه آثارَ موتانا



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣