أرشيف المقالات

الوصاة بكتاب الله عز وجل

مدة قراءة المادة : 27 دقائق .
2الوَصَاة بكتاب الله عزَّ وجل (1) [*]   عن طَلْحَةَ بن مُصَرِّف قال: سألت عبدَالله بن أبي أوْفى رضي الله عنهما: هل كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: لا، فقلتُ: كيف كُتِبَ على النَّاس الوصيَّة، أو أُمِرُوا بالوصيَّة؟! قال: أَوْصَى بكتابِ اللهِ؛ رواه الشيخان، واللفظ للبخاري[1].   جماع الوصايا: بيَّنَّا في الحديث السابق أنَّ النصيحة لكتاب الله تعالى، إجلالُه وتعظيمُه، وتعلُّمه وتعليمه، والعملُ به، والتأدُّب بأدبه، والوقوف عند حدوده، والذبُّ عنه، والدعاء إليه، والإنفاق في سبيله[2].   هذه النصيحة هي جماع الوَصاةِ بهذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والوصيَّةُ بكتاب الله عزَّ وجلَّ، هي - بلا ريب - عينُ الوصية بحقوق الله وحقوق رسوله، بل هي عينُ الوصية بحقوق المسلمين بعضهم على بعض، أئمتهم وعامتهم جميعًا.   بقاء المسلمين ببقاء هذا الكتاب: إن عز المسلمين في مشارق الأرض، ومَجدَهم وبقاءَهم على ظهر البسيطة - دَيْنٌ في أعناقهم لهذا الكتاب الذي تعهَّد الله بحفظه: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 111].   فَلْينظر المسلمون - أفرادًا وجماعاتٍ - إلى كيفية قضاء هذا الدَّين، نظرتَهم إلى البقاء والفناء، أو نظرتَهم إلى المقام الكريم، والذلِّ المقيم!   فواللهِ الذي يُمْسِك السَّماواتِ والأرضَ أنْ تزولا، لولا هذا الكتاب لذهب الإسلام والمسلمون إلى غير رَجْعَةٍ، ولذهب على أثرِهما ما في الأرض جميعًا - إِي وربي إنَّه لحقٌّ - ومِنْ أصدق الشواهد على ذلك، رفعُ هذا الكتاب آية من آيات الساعة[3]!   فِرية مسطورة: كان بعض أشياع عليٍّ رضي الله عنه أشاعوا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أوْصى بالخلافة لعليٍّ من بعده، وأنَّ الصِّدِّيق ثم الفاروق رضوان الله عليهما انتزعاها منه ...
ووضعوا في هذه الفِرْية أكاذيب لا تزال مَسْطورةً إلى اليوم، يُخدع بها وينخدع مَنْ ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [البقرة: 7].   وقد انبرى لردِّ فريتهم حَمَلة العلم، وأُمناءُ هذه الأمة من سلفها الصالح إلى يومنا هذا، بل إنَّ عليًّا نفسَه رضوان الله عليه يُكذِّبهم، ويتبرَّأُ منهم، ويَرُدُّ عليهم، ولم يَدَّعِها لنفسه قط، لا قبل خلافته ولا بعدها، ولا ادَّعاها له أحدٌ من أصحابه وأبنائه.   وهذا أبو جُحَيفة رضي الله عنه يقول: قلتُ لعليٍّ رضي الله عنه: هل عندكم شيءٌ من الوحي إلا كتاب الله؟ فقال: لا، والذي فَلَقَ الحبة، وبرأ النسمة، لا أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العَقْل[4]، وفِكاك الأسير، وألَّا يقتل مسلم بكافر[5].   وعنه كرَّم الله وجهه: ما خَصَّنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ لم يعم الناس كافَّةً إلا ما في قِراب سيفي هذا، ثم أخرج صحيفة مكتوبة[6].   وقالت عائشة رضي الله عنه - وقد ذكروا أن عليًّا كان وصيًّا -: متى أوصى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟‍! فقد كنت مُسْنِدَتَهُ إلى صَدْري - أو قالت: حِجري - فدعا بالطَّسْت، فلقد انحنَث - مال - في حجري، وما شعرت أنه مات! فمتى أوصى إليه[7]؟! كلُّ هذا ثابت في الصحيحين وغيرهما.   ترويج هذه الفرية بين صديق جاهل أو عدو مخاتل: وهؤلاء الذين يزعمون الوصيَّة لعليٍّ رضي الله عنه من الأصدقاء الجَهَلة، الذين يتنقصونه ويذمُّونه من حيث يظنُّون تعظيمَه وتكريمه! وذلك بأنهم نسبوه مع شجاعته وعُلوِّ همته وصَلابته في دين الله عزَّ وجل، نسبوه مع هذا كلِّه إلى المُصَانعة والمُدَاهَنَة والتقيَّة، والجُبْنُ عن المطالبة بحقِّه، وهو قادرٌ عليه، والله مُؤيِّدُهُ وناصرُهُ! إنَّ هذا لهو العَجْز الشَّائن الذي يحمي الله أولياءه وأهل بيته منه.   لقد كان رضي الله عنه يتطلَّع إليها، ويريدها لذات الله عزَّ وجل، ولكنَّ الله الحكيم العليم لم يُردها له، ولو أرادها، لأعلن بها الأمين المأمون صلوات الله وسلامُهُ عليه، ولصاحَت بها الدنيا صَيْحة الحق في الآفاق مُدويَة.   ولقد استحثَّه عمُّه العباس أن يسألها النبيَّ صلى الله عليه وسلم، والفرصةُ في ظنِّه مواتية، فأبى. روى البخاريُّ أنَّ العباس أخذ بيد عليٍّ، فقال له: أنت بعد ثلاثٍ عبدُ العَصَا! وإني والله لأَرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى مِن وجعه هذا، إني لأعرف وجوهَ بني عبدالمطلب عند الموت.   اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلْنسأله: فيمن هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصى بنا.   فقال عليٌّ: "إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَمَنَعناها، لا يُعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم"[8].   إساءة وإيذاء: إنَّ هؤلاء الذين يزعمون أنه صلوات الله عليه وسلامه أوصى إلى عليٍّ بالخلافة، وانتزعها منه أبو بكر وعمر، لَيُؤْذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وأهل بيته، قصدوا إلى هذا الإيذاء أم لم يَقْصدوا، ويُسيؤون إلى دين الحق والعدل! أرادوا أم لم يريدوا، ثم لن يبلغوا من ذلك مأربًا.   تثبُّت واستيثاق: لَمَّا شاعت تلك الفرية وذاعت، وعمل على ترويجها صديقٌ جاهلٌ أو عدوٌّ لدين الله مُخَاتل، أحبَّ طلحة بن مُصَرِّف أن يستبينَ ويستوثقَ من أحد علماء الصحابة وأئمتهم: عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما.   طلحة بن مُصَرِّف: وطلحة بن مُصَرِّف أحد كبار التابعين وخيارهم، اتَّفقوا على إمامته وجلاله وورعه، ووفور علمه بالقرآن وغيره، وكان يُسمَّى سيد القرَّاء، ولمَّا أجمعوا على أنه أقرأ أهل الكوفة غدا إلى الأعمش يقرأ عليه؛ ليذهب ذلك الاسم.   عبدالله بنُ أبي أَوْفى: وأما عبدالله بن أبي أوفى فهو الصحابيُّ ابن الصحابي رضي الله عليهما. شهد بيعة الرِّضوان وخيبر وما بعدهما من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزل معه بالمدينة حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى، ثم تحوَّل إلى الكوفة، وهو آخر من توفي من الصَّحابة بها[9].   وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهمَّ صلِّ عليهم، فلمَّا أتاه أبو أوفى[10] بصدقته قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ صلِّ على آل أبي أَوفى))[11].   الوصيَّة المُفْتراة: لا يَجْهل طلحة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث، وأنَّ آخر ما تكلَّم به: ((الصَّلاة، وما ملكت أيْمانُكم))[12]، ممَّا نُفَصِّله قريبًا إن شاء الله، وإنما أراد الوصيَّة الخاصَّة المزعومة، وفهم ذلك منه بحقٍّ عبدالله رضي الله عنه، فنفى نفيًا باتًّا تلك الوصيَّة المُفْتَراة دون تردُّد.   الوصية الوافية الشافية: ثم أثبت الوَصاةَ بكتاب الله تعالى، وهي الوصيَّة الوافية الشافية التي ينطوي فيها كلُّ ما عداها من الوصايا النبويَّة، وهذا هو سرُّ اقتصاره في الإجابة عليها.   وما أجدرنا - نحن والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يوصينا بما فيه رفعتنا ومَجْدنا - أن نتواصى برفعتنا ومجدنا وحياتنا خيرًا، والله المستعان على البقية. ♦    ♦   ♦
الوَصاة بكتاب الله عز وجل (2) [*] عن طلحة بن مُصَرِّف قال: سألت عبدالله بن أبي أوْفى: هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، قلت: فَلِمَ كُتب على المسلمين الوصيَّة؟! أو: فلمَ أُمِروا بالوصيَّة؟! قال: أوصى بكتاب الله عز وجل؛ رواه الشيخان، واللفظ لمسلم[13].   الوصية في صدر الإسلام: كانت الوصيَّة حقًّا مفروضًا للوالدين والأقربين في صدر الإسلام، على كلِّ من ترك مالًا، وذلك قوله جلَّ سلطانه: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 180].   فلمَّا نَزَلت آيات الفرائض نَسَخت الوصية للوارثين، وأضْحَت المواريث المقدَّرة فريضةً من الله يأخذها أهلها من غير وصيَّة ولا مِنَّة، وخطب صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: ((إنَّ الله أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيَّة لوارث))[14].   وصارت الوصيَّة بشيءٍ من المال لغير الوارثين قُربةً من القرب المندوبة لمَنْ كان ذا فضل وسَعَة، وأعظَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم شأنها حتى كاد يُلحقها بالحقوق الواجبة، فقال فيما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُوصي فيه، يبيتُ ليلتَيْن إلا وَوَصِيَّتُه مكتوبةٌ عنده))[15].   ميراث الأنبياء: لا جَرَم أنَّ الوصيَّة إنَّما تكون فيما يصحُّ أن يُورثَ، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يورِّثوا مالًا، وكلُّ ما تركوه فإنما هو صدقةٌ محبوسة على الأمة، شأنُها شأنُ الوقف المُحبوس، وإنَّما أورثوا النبوَّة والعلم والهدى والحكمة، ومن ذلك قول الله جلَّ ثناؤه: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: 16].   وقوله سبحانه حكايةً عن نبيِّه زكريا عليه السلام: ﴿ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ [مريم: 5، 6].   مطالبة السيدة فاطمة رضي الله عنها بميراثها: وجاءت السيِّدة فاطمة إلى أبي بكر رضي الله عنهما، فقالت: مَنْ يرثك؟ قال: أهلي وولدي، قالت: فما لي لا أَرِثُ أبي؟ قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا نُورَث))[16]، ولكنِّي أعولُ مَنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفقُ على من كان ينفق عليه.   وفي الصحيحين عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها أنَّ فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس أتيا أبا بكر، يلتمسا ميراثَهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطلبان أرضيهما مِن فَدَك[17] وسهمَهما مِن خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا نُورث، ما تركْنا صدقةٌ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال))، والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه إلا صنعته، فَهَجَرتهُ فاطمةُ رضوان الله عليها، فلم تكلِّمْه حتى ماتت[18]!   صَلابة الصِّديق وشدته في دين الله: وهذا أحدُ الأدلة التي لا تُحصى على صلابة أبي بكر رضي الله عنه، وشدَّتِه في دين الله عزَّ وجَلَّ، مع بلوغه الغاية التي لا مَطْمَعَ وراءها في حُبِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وابنتِهِ وآلِ بيته، وافتدائه إيَّاهم بماله ونفسه.   لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مالًا يوصي به: وروى مسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا، ولا شاة ولا بعيرًا، ولا أوصى بشيء"[19].   وروى البخاري عنها، قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كَبدٍ إلا شطرَ شعيرٍ في رَفٍّ لي، فأكلت منه، حتى طال عَليَّ فَكِلْتُه، فَفَنِيَ"[20].   المراد بالوصيَّة: لعلَّ هذه الأدلة الواضحة على أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك مالًا يوصي فيه - وهي قليل من كثير - تُرجِّح ما اقتصرنا عليه في الجزء السابق من أنَّ طلحة سأل عن الوصيَّة المزعومة: وصيتِه صلى الله عليه وسلم بالخلافة، ولا مانع أن يريدَ الوصيَّة بالمال، ويؤيِّد ذلك تعجُّبُه من عدم وصيَّته صلى الله عليه وسلم مع أمر الله ورسوله بها! وأيًّا ما كان المسؤول عنه من خلافةٍ أو مالٍ، فقد نفاه ابن أبي أوفى رضي الله عنه نفيًا باتًّا من غير تردُّد.   أمانة الرواة وتحرِّيهم في نقل الحديث: و(أو) التي بين الاستفهامين للشكِّ من الراوي عن طلحة: هل قال: فَلِمَ كتب على المسلمين الوصيَّة؟ أو قال: فَلِمَ أُمِروا بالوصية؟ وهي من الأدلة القائمة على أمانة الرواة وتحرِّيهم في نقل الحديث، ممَّا لم يعهد في غير الأمة المحمديَّة.   أجمع الوصايا خيرًا وبِرًّا: ولمَّا عجب طلحة من عدم وصيَّته صلى الله عليه وسلم بمال أو خلافة - مع أنه أوْلى الناس بالوصيَّة - أجابه ابنُ أبي أوفى بأنَّ الوصيَّة لن تفتْه صلى الله عليه وسلم، فهو أولى الناس بالخير، وأسبقهم إليه، وأحرصهم عليه، فَلْيطِبْ نفسًا، وليطمئنَّ فؤادًا، ولْيَعلم أنَّ هناك وصيَّةً أوصى بها، هي أجمعُ الوصايا خيرًا، وأعظمها ذُخرًا وبِرًّا، هي الوَصاة بكتاب الله عزَّ وجل: تعلُّمًا وتعليمًا، وفهمًا وتفهيمًا، ودرسًا ونشرًا، ومهما تكن من وصيَّة في خير، فإنها مُقْتَبَسة منه أو متَّصلة به نصًّا أو استنباطًا.   وصاياه صلى الله عليه وسلم: هذا هو سرُّ اقتصاره على الإجابة بهذه الوصيَّة الجامعة الشافية، وإلا فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة وما مَلَكت أيمانكم.   الوصاة بالصحابة رضي الله عنهم: ووصَّى بالمهاجرين والأنصار، وأوصى بأصحابه خيرًا، وقال: ((لا تسبُّوا أصحابي، فلو أنَّ أحدكم أنفق مثلَ أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه))[21]، ولم يعرف تاريخ الخليقة - ولن يعرف - مَنْ يُداني رسول الله صلى الله عليه وسلم في كرم صُحبته، ومحافظته على أصحابه ووصيَّته بهم.   الوصيَّة بسنته والمحافظة عليها: وأوصى بسنته والمحافظة عليها، فقال: ((ألا إني أُوتيت الكتاب ومثلَه معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه))[22]، والأريكة: السرير.   وفي هذا الأسلوب أبلغُ ردٍّ على هؤلاء الغُواة الحمقى، الذين يزعمون أنهم استغنَوا بكتاب الله عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما هو إلا الضلال والخُبث، والكتاب العزيز نفسُه يردُّ عليهم حماقتهم وضلالتهم؛ إذ يقول: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7].   والحقُّ أن هؤلاء يكيدون للإسلام بطرح شطره الثاني، طمعًا في أن يسهُلَ عليهم شطرُه الأول: ﴿ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32].
ثلاث وصايا: لما اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعُه، وكان ذلك يوم الخميس[23] - أوصى أصحابه بثلاثٍ: أن يُخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأن يُجيزوا الوفد بنحو ما كان يُجيزهم به، قال الراوي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو سعيد بن جبير: ونسيت الثالثة[24]،فقيل: هي الوصيَّة بالقرآن، وقيل: هو تجهيز جيش أسامة، وقيل: ألا يُتَّخذ قبرُه وثنًا، وكلُّ هذه الوصايا في جملتها وتفصيلها مُنْطَوٍ في كتاب الله تعالى.   وأحاديث الوَصاة بالكتاب العزيز والعنايةِ به، من الشُّهرة بمكان عظيم، ومن أشهرها - ولعل ابنَ أبي أوفى رضي الله عنهما يشير إليه في إجابته - ما رواه مالك في "موطئه" عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما تمسَّكتم بهما: كتابَ الله، وسنةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم))[25].   حقٌّ مفروض: ألا إنَّ حقًّا مفروضًا على كلِّ مَن يؤمن بالله وكتابه - أن يكون له سهمٌ بقدر وسعه في المحافظة على القرآن الكريم، والعناية به والدعوة إليه، ونشره في بقاع الأرض، فإن لم يكن ذلك لإيمانه بالكتاب وحقِّ الكتاب العزيز عليه، فليكن لفضل القرآن ورحمته وإنقاذه؛ فإنَّ حياة العالم رهنُ هذا الكتاب الذي لولاه لذهب الإسلام والمسلمون إلى غير رجعة كما قلنا في الجزء الماضي، ولذهب على أثرهما مَنْ في الأرض جميعًا.   أين مكاننا من القرآن؟ فلينظر المسلمون..
أين مكانهم من القرآن؟ وأين مكان القرآن منهم؟ قبل أن يشكوهم الصادق المصدوق إلى ربِّه، كما شكا المشركين إليه من قبل، فقال: ﴿ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].


[* ] مجلة الأزهر، العدد الرابع، المجلد التاسع والعشرون (1377 = 1957). [1] رواه البخاري في الوصايا (2740)، وفي المغازي (4460)، وفي فضائل القرآن (5022)، ومسلم (1634) في كتاب الوصية. [2] لمناسبة إشراف الأزهر المعمور على جمعيات تحفيظ القرآن الكريم بأرض الكنانة، أعزَّها الله وسائر بلاد المسلمين بكتابه، وهذا العنوان هو ترجمة الإمام أبي عبدالله البخاري للحديث في "فضائل القرآن" [فتح الباري 8: 685]، غير أنا اخترنا لفظ روايته له في أوائل "الوصايا" (2740)، وقد رواه رواية ثالثة في باب مرض النبيِّ صلى الله عليه وسلم ووفاته (4460)، والروايات الثلاث متقاربة (طه). [3] أخرج ابن ماجَه في كتاب ذهاب القرآن والعلم 2: 1344 (4048) بسند قويٍّ - كما قال الحافظ في "الفتح" 13: 16 - والحاكم في "المستدرك" 4: 473 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يُخرِّجاه، ووافقه الذهبي، عن حُذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَدْرُسُ الإسلام كما يَدْرُسُ وشْيُ الثوب، حتى لا يُدْرى ما صيامٌ، ولا صلاة، ولا نُسُك، ولا صدقة، وليُسرى على كتاب الله في ليلةٍ، فلا يبقى في الأرض منه آية...)). وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "لَيُنْزَعَنَّ القرآنُ من بين أظهركم، يُسْرى عليه ليلًا، فيذهب من أجواف الرجال، فلا يبقى في الأرض منه شيءٌ"؛ رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح، غير شدَّاد بن معقل، وهو ثقة كما في "مجمع الزوائد" 7: 329، وقال ابن حجر في "الفتح" 13: 16: سنده صحيح، ولكنه موقوف. [4] أي الدِّيَة؛ لأنهم كانوا يعطون فيها الإبل، ويعلِّقونها بفناء دار المقتول بالعقال، وهو الحبل، والمراد: أن بالصحيفة أحكام الدية ومقاديرها (طه). [5] أخرجه البخاري (3047). [6] أخرجه مسلم (1987). [7] أخرجه البخاري (2741)، ومسلم (1636). [8] أخرجه البخاري (4447). [9] توفي سنة ستٍّ وثمانين، وقيل: بل توفي سنة ثمان وثمانين، وقد قارب مائة سنة، رضي الله عنه. [10] واسمه: علقمة بن خالد بن الحارث. [11] أخرجه البخاري (1497) في الزكاة، وفي المغازي، وفي الدعوات، ومسلم (1078) في الزكاة. [12] رواه أحمد 1: 78(585)، والبخاري في "الأدب المفرد" (158)، وأبو داود (5156) وابن ماجه (2698)، وأبو يعلى (596) وهو حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح، وانظر شرح المؤلف له في حديث: "آخر الكلام النبوي" ص 780 - 784. [*] مجلة الأزهر، العدد الخامس، السنة التاسعة والعشرون، 1377=1957. [13] رواه البخاري (2740) في الوصايا، و(4460) في المغازي، و(5022) في فضائل القرآن، ومسلم في كتاب الوصية برقم (1634)، وقد اخترنا في الجزء الماضي لفظ البخاري في كتاب الوصايا، وبيَّنا أنه رواه في موضعين آخرين: في مرض النبيِّ صلى الله عليه وسلم ووفاته، وفي فضائل القرآن...
والمناسبات في المواطن الثلاثة واضحة (طه). [14] أخرجه أحمد 5: 267 (22294) والترمذي (2122) وأبو داود: (2870)، والنسائي (3641)، (3643) كلهم من حديث أبي أمامة الباهلي مرفوعًا وبأسانيد حسنة، وأخرجه ابن الجارود (949) من طريقه عن أبي أمامة وغيره بإسناد صحيح؛ انظر: التعليق على المسند 36: 630. [15] أخرجه البخاري (2738)، ومسلم (1627). [16] أخرجه الترمذي (1608). [17] بفتحتين: قرية بخيبر، على ثلاث مراحل من المدينة، وكانت حبسًا لأبناء السبيل، وأما خيبر فكانت ثلاث أجزاء: جزءان بين المسلمين، وجزءًا نفقة أهله، فما فضل منهم جعله بين فقراء المهاجرين (طه). [18] أخرجه البخاري (3092) (3711) (4035) (4240) (6725)، ومسلم (1759). [19] أخرجه مسلم (1635). [20] أخرجه البخاري (3097)، ومسلم (2973)، وأخرج الإمام أحمد 5: 414 (23508) والطبراني في الكبير (3859) عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا: ((كيلوا طعامكم يُبارك لكم فيه))، فلعلَّها رضي الله عنها نسيت التسمية عند الكيل، فنُزعت بركة الطعام، وللتسمية سرٌّ عظيم على رُغم أنف الجاحدين، أو لعلها كالَتْهُ لمُجَرَّد الاختبار ذاهلة عن فضيلة الامتثال، والعلم عند الله تعالى (طه). [21] أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540)، (2541). [22] أخرجه أحمد 4: 131 (17174)، وأبو داود (4604). [23] في الثامن والعشرين من شهر صفر، وانتقل إلى الرفيق الأعلى يوم الاثنين الذي يليه، ثاني ربيع الأول لتمام عشر سنين من الهجرة، (طه)، والراجح أنه في الثاني عشر من ربيع الأول كما في "سلوة الكئيب بوفاة الحبيب"؛ لابن ناصر الدين الدمشقي ص170 - 172. [24] أخرجه البخاري (4431)، ومسلم (1637). [25] أخرجه مالك في الموطأ: 2: 899.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣