أرشيف المقالات

كن رمضانيا ولا تكن دنيويا

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2كن رمضانيًّا ولا تكن دنيويًّا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، وبعد: رمضان علي الأبواب، وقد أصبحنا نرى الجميع يستعدون له كعادتهم كل سنة هجرية، ولكننا نرى الكثيرين قد استعدوا لرمضان على غير مراد الله ورسوله، وعمل السلف الصالح.   فأي أخطاء تلك التي تُرتكب في شهر القرآن شهر الرحمة والمغفرة، الذي يعتق الله تعالى فيه كل ليلة رقابنا من النار؟ ألا يتذكرون قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، فتقوى الله تعالى هي الغاية من الصيام، وهي خير زاد في الدنيا والآخرة، ولهذا أوصانا الله بها، فقال تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، وهل يتذكرون قول النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)؛ متفق عليه.   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)؛ متفق عليه.
وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)؛ البخاري.   شهر رمضان شهر القرآن والطاعة والذكر والقيام، صار في عصرنا هذا شهرًا للسهر والطعام والشراب عند كثير من المسلمين، وأنا لا أدري لماذا يكثر البعض من المعاصي في رمضان؟ ولماذا لا نسارع إلى الخير ونتنافس فيه؟ ألم يقل الله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].   فمن فعل فقد أفلح وفاز، وليستبشر خيرًا، فإن الله تعالى يقول في الحديث: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)، ومن خسر وخاب، فلا يلومنَّ إلا نفسه.   فنصيحتي لنفسي ولكل مسلم: كن رمضانيًّا ولا تكن دنيويًّا، وتذكر أننا أن أردنا الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة، فعلينا في رمضان وغير رمضان أن نروِّض أنفسنا على عمل أربعة أشياء على الأقل. 1- المحافظة على الصلاة والقيام. 2- الإكثار من الصدقة. 3- المداومة على قراءة كتاب الله جل وعلا. 4- حفظ الجوارح عن الحرام. وإليكم الشرح والبيان والله المستعان.   المحافظة على الصلاة والقيام: الصلاة عماد الدين لا يتركها إلا واحد من ثلاثة؛ كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم ..."، فإن لم تكن منهم، فما عذرك أمام الله؟   • وفي الحديث الذي رواه أحمد بأسناد جيد: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: (مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ).   • وقال صلى الله عليه وسلم: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ الصَّلَاةُ لِوَقْتِهَا، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ)؛ مسلم.   وأعلم أنه لا يستشعر عظمة الصلاة إلا من هداه الله إلى حبه، فليست الصلاة ركوعًا وسجودًا ودعاءً يقوله العبد فقط، وإنما الصلاة أعظم من ذلك، إنها دليل عبوديتك لله تعالى.   فأنت العبد الذليل وهو الرب الجليل، وأنت العبد الضعيف، وهو الرب القوي، وأنت العبد الفقير، وهو الرب الغني، وجميعًا نفتقر لرحمته وفضله، فتذكر ذلك دومًا؛ فقُمْ لله قيام المحب المشتاق لدعاء مولاه، وقد أفلح من صدق، وإياك ومجالسة أهل الغفلة ممن يسهرون أمام شاشة التلفاز، أو على المقاهي، فقد صدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ).   الإكثار من الصدقات: حب المال أمر يجعل الإنسان يميل عن الحق، وكان النبي يجود أسرع من الريح المرسلة، وجميعنا يعلم المنافسة بين سيدي كهول أهل الجنة الفاروق والصديق، وعلى سبيل المثال حين طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يتصدقوا، قال عمر رضي الله عنه: ووافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟" قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: "يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟" فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، عندئذ قال عمر: لا أسبقه إلى شيء أبدًا.   وتصدَّق في رمضان بما تقدر عليه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وليس شرطًا أن يكون مالًا يجوز طعامًا، وبجوز كساءً للفقير، وغير ذلك، وتذكَّر قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "المسلم في ظل صدقته".   قراءة كتاب الله تعالى: شهر رمضان شهر القرآن، بل أنزله الله تعالى في ليلة مباركة، وهي ليلة القدر؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].   وكان جبريل يدارس النبي القرآن في رمضان مرتين، والرعيل الأول من الصحابة كان القرآن رفيقهم لا يفارقون تلاوته أبدًا، لا في رمضان ولا في غيره، ولكنهم في رمضان كانوا أشد قراءةً وقيامًا لِما فيه من فضل وخير، وكان عثمان يختم القرآن كل يوم مرة، قال ابن رجب: إنما ورد النهي في أقل من ثلاث لمن يداوم على ذلك، أما في الأيام والأماكن الفاضلة؛ كشهر رمضان ومكة، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنامًا لفضيلة الزمان والمكان.   وبعض السلف كان يختم كل ثلاثة أيام، وبعضهم في كل عشر، واعلم أن من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معًا فعليه بالقرآن، والقرآن والصيام يشفعان للعبد لحديث: (الصيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصيَامُ: أَيْ رَب مَنَعْتُهُ الطعَامَ وَالشهَوَاتِ بِالنهَارِ فَشَفعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النوْمَ بِالليْلِ فَشَفعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفعَانِ)؛ صححه الألباني في "صحيح الجامع" (7329).   قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "فإما أن يكون لك، وذلك فيما إذا توصلت به إلى الله، وقمت بواجب هذا القرآن العظيم من التصديق بالأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتعظيم هذا القرآن الكريم واحترامه، ففي هذه الحال يكون حجة لك، أما إن كان الأمر بالعكس أهنت القرآن، وهجرته لفظًا ومعنًى وعملًا، ولم تقُم بواجبه، فإنه يكن عليك شاهدًا يوم القيامة"؛ انتهى من "شرح رياض الصالحين" (ص30).   حفظ الجوارح عن الحرام: ينبغي على العبد أن يراقب الله تعالى، ويحفظ جوارحه، ولا يلتمس الأعذار التي يظن أنها تُنجيه من عذاب الله، فليس كل عذر يقبله الله تعالى، ومَن حفِظ جوارحه حفِظه الله، ومن أساء فلا يلومنَّ إلا نفسه؛ قال تعالى: ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [القيامة: 14، 15]، وعلى المسلم أن يترقب الموت في أي لحظة.   وختامًا أوصيك وأوصي نفسي ونحن على أبواب رمضان - أن نستعد ونشمِّر عن ساق العزم، فلا يدري أحدٌ منَّا كم بقِي من عمره في الدنيا الفانية، وسيكون لنا حديث ذو شجون ووقفة تأمُّل عن الموت في أقرب وقت إن شاء الله لعل وعسى تكون سببًا في توبة مسلم وعودته للطريق المستقيم، ونسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة في الدارين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن