أرشيف المقالات

مواكب سلاطين مصر

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 للأستاذ محمد فريد أبو حديد أن أفئدتنا المتعلقة بمصرنا العزيزة تتوق إلى كل ما يرتبط بهذا الوطن المجيد، فكما أن نسميها حبيب وحرها حبيب؛ وكما أن سماءها تأخذ بالألباب في صفائها، وتنعش فيها الأمل بسحابها ومطرها؛ وكما أن حاضرها نزهة الأعين وبهجة الأنفس، كذلك تجد النفس في ماضيها مسارح محبوبة للخيال والفكر.
فلنعد إلى عصر من تلك العصور الماضية المجيدة، ولنتجرد من عصرنا الحاضر إلى حين لنفرغ إلى استجلاء بعض لذات تلك الأيام الغابرة، ولنشارك بالفكر مواطنينا الأعزاء الذين ملئوا أيامهم جلالاً وبهجة لنعد إلى القرن الثالث عشر، ولنتخط إليه ستمائة عام على أجنحة الخيال، ولنقف حول ركاب ملوكنا الأمجاد الذين كانوا زينة العصر وحماة الديار عند ذلك، ولنشارك مواطنينا من الأجداد الذين كانوا يصطفون على جوانب الطرق وقلوبهم خفاقة ونفوسهم مملوءة بالإجلال الممزوج بالحب والعطف لهؤلاء الحماة، وللنظر إلى السلطان العظيم وقد أقبل في موكبه والناس يضجون بالدعاء له فيتلقونه بأحسن الاستقبال.
حتى إذا ما صار منهم على كثب رفعوا الأكف وقرءوا الفاتحة ودعوا له بالنصر والقوة على حماية البلاد، ولنشارك مواطنينا في ذلك فلقد كان أولئك السلاطين تفيض قلوبهم بخير ما تفيض به قلوب الملوك من حب لخير الرعية وتفان في سبيل مصلحتها العامة. كان أحد هؤلاء السلاطين الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، وكان يلقب بالعلائي البندقداري نسبة إلى الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري أحد أمراء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو الذي اشتراه عندما كان مملوكاً صغيراً ثم آل ملكه إلى السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب، ولهذا يلقبه التاريخ أيضاً بالصالحي النجمي.
وقد تعلم وترقى في الوظائف على النظام البديع الذي كان يسير عليه أمراء ذلك العصر في تعليم مماليكهم وترقيتهم حتى صار أميراً قائداً، وذلك لما أظهره من الشجاعة في الحرب ولا سيما في موقعة المنصورة في أيام الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح أيوب، وهي الموقعة التي هزم فيها الفرنج وأخذ ملكهم لويس التاسع أسيراً، وما زال حتى صار (أتابكاً) للعساكر أي قائداً عاماً له ثم استولى على الملك، فكان الثالث من سلاطين الأتراك الذين جرى العرف بتسميتهم سلاطين المماليك وكانت مصر في أيامهم تحيط بها عنون الأعداء من كل الجهات، فبينا كان أهل أوربا يدبرون الخطط ويجندون الجيوش الجرارة لغزوها، كان أحفاد جنكيز خان ملوك التتار العظام يدفقون جموعهم نحو الشام بعد أن اجتاحوا بلاد العراق وخربوها وأسالوا فيها الدماء أنهارا، فكان العصر عصر حرب ودفاع، وكانت الروح الغالبة روح الحرب والدفاع، وكان واجب الأمة الحرب والدفاع، وكان بيبرس من خير من مثل تلك الروح واستعد بكل قوة للحرب والدفاع، فكانت كل مظاهره مصبوغة بصبغة النضال والكفاح.
كان الخليفة العباسي قد جاء إلى مصر مطروداً مشرداً بعد أن نكب التتار بلاد العراق، جاء إلى مصر يطلب فيها الأمن ويلتمس الحماية من سلطانها الأعظم بيبرس، وأحب أن يكافئ ذلك السلطان على حمايته ومساعدته مقدماً، فقلده السلطنة المصرية بصفته الحاكم الشرعي للدولة الإسلامية، وبذلك عمل على تثبيت مركزه وجعله حاكماً شرعياً إلى جانب كونه حاكماً بالسيف.
فأمر السلطان فضربت لهذه المناسبة خيمة كبيرة في المطرية، وجلس السلطان على كرسي عظيم في صدرها، وكان طويل القامة مليح الشكل أبيض الوجه مستدير اللحية، وقد اختلط سوادها بالبياض يكاد يغلب عليه.
وقد اصطف الأمراء حوله بحسب مراتبهم، لا يلتفت أحد منهم إلى يمين ولا إلى يسار، ولا يكلم أحد من إلى جواره ولا يشير إليه، فلقد كان هذا خروجاً على الآداب المقررة في المجلس السلطاني، ولم تكن ملابس هؤلاء الأمراء قد بلغت بعد ما بلغته من الزينة والزركشة في أيام السلاطين الذين أتوا فيما بعد كالسلطان قلاوون وابنه الملك الناصر محمد، وذلك لأن بيبرس كان لا يجد من فراغه متسعاً للتفكير في غير عدة الجهاد والنضال.
فلم تكن ملابس هؤلاء الأمراء غير أقبية (أو جيب) بيضاء واسعة ضيقة الاكمام، ومناطق ساذجة لا ذهب فيها ولا جواهر، بل كانت من القطن المصبوغ، وكانت أخفافهم من جلد بلغاري أسود، فوق تلك الأخفاف خف ثان اسمه السقمان، وكان فوق الأقبية أو الجيب كمران فيهما حلق وأبزيم ومعلق فيهما صوالق (أو جيوب) جلد كبار يسع الواحد منها أكثر من نصف ويبة من القمح، ويغرز فيه منديل طوله ثلاثة أذرع، وكانت شعورهم مضفورة، وضفائرهم مدلاة في كيس حرير أحمر أو أصفر، وفوق رؤوسهم قلانس صفراء مضربة تضريباً عريضاً وجلس عن يمين السلطان الخليفة والقضاة من المذاهب الأربعة، فان بيبرس جعل لكل مذهب قاضياً كبيراً بعد أن كانت ولاية القضاة لقاضٍ واحد من علماء المذهب الشافعي.
ثم جلس عن يمين القضاة واحد بعض موظفي الدولة مثل وكيل بيت المال أو (وزير المالية كما نسميه الآن)، ثم ناظر الحسبة أو (هو محافظ القاهرة)، وكلاهما من القضاة وأرباب القلم.
وجلس عن يساره الوزير ثم كاتب السر أو (الأمين الأول)، وجلس أمامه ناظر الجيش وجماعة من الكتاب الكبار أو كما كانوا يسمونهم الموقنين ووقف من وراء السلطان صفان فعن يمينه ويساره من الأمراء الكبار وهم رؤساء الأمراء والقواد في الجيوش، وجلس إلى اليمين واليسار على بعد نحو ثمانية أمتار من السلطان ذوو السن من الأمراء القواد وهم أمراء المشورة في الدولة.
وجلس بعد ذلك من هم أدنى منهم مرتبة من أكابر الأمراء، والقواد بحسب درجاتهم، فكان أقربهم من السلطان أمراء المئين وهم مقدمو الألوف، وكان كل منهم أميراً على مائة فارس، وقد يزيد عدد فوارسهم عشرة أو عشرين فوق المائة؛ وكان يليهم أمراء الطبلخاناه، وكان كل منهم أميراً على أربعين فارساً، وقد يزيد عدد فرسانهم إلى السبعين؛ وكان بعد هؤلاء جميعاً أمراء العشرات ولكل منهم الإمارة على عشرة فرسان، وقد يزيد عدد فرسانهم إلى العشرين ونصب منبر وصعد عليه كاتب السر الشريف، فقرأ على الأمراء في ذلك الحشد الحافل كتاب الخليفة العباسي أحمد المستنصر بالله الذي لجأ إلى مصر وأحسن السلطان استقباله، وفيه ثناء طيب من الخليفة على السلطان العظيم فأصبح بذلك ملكاً على البلاد بحق الاستيلاء والسيف، وبحق تقليد خليفة المسلمين الذي كان العالم الإسلامي يرى فيه رمز الحق الشرعي للحكم. ثم حملت إلى السلطان خلعة الخليفة، فلبسها وهي جبة سوداء، وعمامة بنفسجية، وطوق من ذهب، وقلد بسف عربي.
فلما انتهى الاحتفال ركب السلطان بالخلعة والطوق والأمراء حوله وأمامه حسب ترتيبهم، وحمل الصاحب بهاء الدين محمد بن علي ابن حنا تقليد الخليفة، على رأسه وسار قدام السلطان.
ثم سار الموكب حتى دخل القاهرة من باب النصر ومر في الشارع الأكبر من المدينة، والسلطان في خلعته الجديدة راكب على فرس عربي عليه كسوة بديعة من الحرير الأصفر، وقد ركب إلى جواره أحد أمراء المئين راكباً على فرس يحمل المظلة وهي حبرة من الأطلس الأصفر المزركش بالذهب، من أعلاها قبة من الحرير نفسه، وفوقها طائر من الفضة المذهبة وتلقت الجموع الزاخرة من أهل القاهرة ذلك الموكب بالتهليل والطرب؛ وكان السلطان كلما مر بجماعة ضجوا بالدعاء له بالنصر والفتح وقرءوا الفاتحة تبركاً وتيمناً؛ ومازال ذلك الموكب حتى بلغ القلعة فلم يبق ركن من أركان القاهرة لم يهتز لرؤيته والاشتراك في الحفاوة به والآن فلنخرج مرة أخرى لنشارك أجدادنا أهل القاهرة في التمتع برؤية موكب آخر سائرين في ركاب السلطان إلى ميدان بجوار القاهرة كان ملوك مصر إذ ذاك يقصدونه للرياضة والتنزه ويلعبون فيه لعبتهم المشهورة وهي (الكرة)؛ وكانوا يخرجون لذلك إلى أحد ميدانين: الأول الميدان الناصري الكبير، والثاني ميدان سرياقوس.
وكان الخروج إلى كل من هذين الميدانين في أوقات معينة من السنة، فالركوب إلى الميدان الكبير الناصري كان يقع في شهري سبتمبر وأكتوبر؛ وذلك الميدان على ضفة النيل في جهة بستان الخشاب فيما بين القاهرة ومصر القديمة.
وكان الخروج إليه في كل يوم سبت من الشهرين المذكورين.
وقد كان بودي لو استطعت في هذه الكلمة أن أصف مواكب خروج السلاطين إلى كل من هذين الميدانين، ولكنني أكتفي بوصف موكب واحد وهو موكب الخروج إلى الميدان الكبير الناصري خرج السلطان الملك الناصر صباح أول يوم السبت بعد وفاء النيل بادئاً موسم لعب الكرة والصولجان في ذلك الميدان الفسيح؛ وكان خروجه في الصباح، ولكن الشمس كانت قد بسطت سلطانها على الأحياء فبدأ حرها يشتد وتكاثر الناس وازدحموا على الطريق ليروا السلطان وهو يخرج سائراً نحو الغرب إلى قناطر السباع القائمة فوق الخليج، وذلك في موضع ميدان السيدة زينب الآن، ومن هناك سار نحو النيل إلى الميدان.
وكان في أول الموكب فارسان يلبسان ثياباً من الحرير الأصفر وعلى رأس كل منهما كوفية من الذهب على هيئة طاسات الحرب، وكانا يركبان فرسين أبيضين بحلية بديعة من الذهب، وكان على كل من الفرسين كساء من الحرير الأصفر المزركش بالذهب يغطي من تحت أذنيه إلى موضع السرج.
فلما مر هذان الفارسان أقبل في أثرهما السلطان هو راكب على فرس عربي أصيل هيئته وكسوته مثل هيئة فرسي الفارسين المتقدمي الذكر لا فرق بينه وبينهما، حتى كان الناظر إلى الفرسين المتقدمين يظنهما قد أعدا لركوب السلطان نفسه؛ وكان أمام فرس السلطان غاشية السرج يحمله بعض أمراء المماليك الخواص، وهذه الغاشية عبارة عن جلد مزركش بالذهب ليُغطي به سرج السلطان إذا نزل، وكان حامل تلك الغاشية يحركها زهواً وافتخاراً ذات اليمين وذات الشمال، والى جانب حامل هذه الغاشية فارس أخر يضرب على شُبابة، وهي آلة موسيقية لا يقصد بنغمها الإطراب، بل يقصد بها إيقاع المهابة في النفوس وكان فوق رأس السلطان العصائب السلطانية، وهي من الحرير الأصفر المزركش بالذهب منقوشة باسمه وألقابه.
وكانت العادة أن تحمل هذه العصائب فوق رأس السلطان عند الركوب إلى هذا الميدان خاصة وفي يوم العيد، وعندما يدخل إلى القاهرة عائداً من السفر أو إلى مدينة من مدن الشام ولم يكن في هذا اليوم يستظل بالمظلة، فإن رفعها كان خاصاً بأيام العيد أو عند دخول المدينة أو في المواكب التقليدية الكبرى وجاء خلف السلطان جماعة الأمراء أولهم المشاة يحفون به على هيئة دائرة، وهم الطبردارية الذين يحملون الأطبار المشهورة ولعلها السيف المعوجة التي يسميها الفرنج (السابر)، وكانوا في العادة من كبار الأكراد، ويليهم بعد ذلك الأمراء الفرسان يسيرون بحسب مراتبهم: فنائب السلطنة، ثم الوزير وأرباب الوظائف الكبرى، ثم المئين مقدموا الألوف، ثم الطبلخانات، ثم أمراء العشرات، ثم المماليك فإذا ما انتهى الركب إلى الميدان واستقر مجلس السلطان هنيهة في ظلال الأشجار الوارفة التي حول الميدان أمر ببدء اللعب واشترك هو مع الأمراء الكبار فلعبوا الكرة بالصوالج وهم ركوب على الخيل، وانتهزوا فرصة اللعب فاظهروا من المهارة في ركوب الخيل والتحرك فوقها أثناء جريها ما يدهش الألباب فإذا انتهى اللعب في ذلك اليوم دعا السلطان الاثنين اللذين برزوا في اللعب من الأمراء وانعم عليهما بحوائص الذهب وهي مناطق ثمينة من الذهب يبلغ ثمن الواحدة أحياناً مائتي دينار أو يزيد؛ وكان هذا التقليد مخصوصاً لكبار الأمراء المقدمين، فكان السلطان بذلك ينعم بالحوائص على كل الأمراء المقدمين تدريجاً حتى يتم إنعامه على الجميع مرة في مدى ثلاث سنوات أو أربع وبعد أن ينتهي من الإنعام بالحوائص يدعو المبرزين من كل طبقات الأمراء ويهدي إليهم الخيول الجياد، فكان يعطي الأمراء الكبار من أمراء المئين والطبلخانات خيولاً مسرجة ملجمة، ثم يختار بعض أمراء العشرات فيجعل لهم حظاً من ذلك الإنعام أيضاً، ويزيد عطاؤه للمقربين من كبار أمراء حرسه الخاص فيجود عليهم بالجياد عشرات لا آحادا فلقد كان خروج السلطان إلى ذلك الميدان أحد موسمين للإنعام بالخيول على الأمراء، وكان الموسم الآخر عند خروجه إلى مرابط خيله في الربيع وبعد، أفلم تكن تلك التقاليد المقررة جديرة بأن نذكرها ونحتفظ بذكراها ليكون جيلنا الحاضر مرتبطاً بالأجيال الماضية ارتباط البناء بالأساس؟ محمد فريد أبو حديد

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١