أرشيف المقالات

الصفات والضمانات المنجية لفلاح المؤمنين

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
الصفات والضمانات المنجية لفلاح المؤمنين
 
ابتدأ الله تعالى سورة المؤمنون بصفاتهم التي نالوا بها الفلاح، حتى أورثهم الله تعالى الفردوس الأعلى من الجنة؛ فقال عز وجل: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ...
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 11]، واختتم السورة بالتحذير من الشرك، مؤكدًا أن الفلاح لا يناله الكافر الذي أشرك مع الله غيره؛ فقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 117، 118]، فكأنما فلاح المؤمن بعد الإيمان في استقامته على أداء شعائر الإسلام، وما ذكرته الآيات العشر الأُوَل من السورة، ابتداءً بأداء الصلاة الخاشعة، وانتهاءً بالتأكيد على الحفاظ عليها في أوقاتها وبخشوعها، مع ملازمة الخوف والحذر من الوقوع في الذنوب، دون التطهر والتخلص من عواقبها أولًا بأول، حتى لا تتراكم فتقسم الظهر، وتنوء به، تجره على غفلةٍ منه وركونٍ على صلاحه، فيقع في صغائر الشرك قبل عظائمها، فإذا به يدعو مع الله إلهًا غيره من غير برهان، أو أثارةٍ من علم، فيكون ممن ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 103 - 105]، فلا ينجيه ويحفظ له وزنه ومكانته وفلاحه عند ربه إلا دوام الاستغفار، وطلب الرحمة، وحسن الظن به؛ ﴿ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 118].
 
وفي ثنايا هذه السورة أجْمَلَ الله صفات المؤمنين الناجين بهذه الصفات، يحفظ الله لهم فلاحهم، وفوزهم، ويحصنهم من براثن الوقوع في شباك الإشراك بالله، وسهام الغفلة المهلِكة؛ فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 57 – 61].
 
هذه الصفات هي الضمانات الحقيقية للخاتمة الحسنة لكل مؤمن؛ ذلك لأنهم مع إيمانهم وإحسانهم، وطاعتهم لربهم، واستجابتهم في ترك المحرمات، وأداء الواجبات - يخافون من الله، وتلازمهم الشفقة على أنفسهم، أنهم مقصرون في حق الله عليهم، وكذلك فإنهم يؤمنون بيقين أن آيات الله الشرعية والكونية الدالة على كمال علمه وحكمته وقدرته المطلقة، إنما هي في صلاح وإصلاح خلقه ومنفعتهم، فيحبون ما أحبه الله وما قضاه، وإن كان فيما قدره الله وقضاه مما يؤلمهم ويخالف هواهم، كما يكرهون ما كرهه الله لهم، وحرمه عليهم، ومنعهم منه، وإن كان مما تهواه نفوسهم، وترغبه وتشتهيه؛ ومن هذا قول الله تعالى في سوره الأحزاب: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، ومن هذا قول الله تعالى في سورة النور: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 51، 52]، ومن الصفات المنجية التي تضمن للمؤمن الفلاح وحسن الخاتمة قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ﴾ [المؤمنون: 59]؛ أي: لا يصيبهم الشرك الجلِيُّ؛ وهو إشراك غير الله في الطاعات والعبادات، والدعاء والخوف، وغير ذلك، ولا الشرك الخفي؛ كالرياء، وحب ثناء الناس ومدحهم، بل يلازمون الإخلاص لله تعالى في جميع أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم، وسائر أحوالهم؛ ومن الصفات المنجية كذلك قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، فهم مهما عملوا من الطاعات والقربات يخافون ألَّا تُقبَلَ منهم، وأن تُرَدَّ عليهم؛ فلذلك قلوبهم وجلة، ويتذكرون الموت في كل أحوالهم مخافة أن يأتيهم أجلهم، ولم يقدموا إلى الله تعالى من الأعمال ما يرضيه عنهم، ويخافون ما بعد الموت من الحساب والعقاب، ووصف الوجل والخوف في هذه الآية يشرح ما هم عليه من الشعور بحرارة مراقبة الله تعالى في أقوالهم وأفعالهم وجميع أحوالهم، فكأن الخوف ملازم لهم لا ينفك عنهم، يستشعرون عظمة الخالق، وضعف ما هم عليه من التقصير في جنب الله تعالى.
 
كل هذه الضمانات وهذه الصفات المنجية تدفعهم للمسارعة في فعل الخيرات، ومسابقتها بحسن النيات والإخلاص لله تعالى، فيا لبلاغة الخطاب القرآني الفريد، ويا لتصريفاته الراقية الرائعة، ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ [المؤمنون: 61]؛ أي: يبادرون بأسرع ما يمكنهم دون تردد أو تلكُّؤ في فعل الخيرات بروح تنافسية، يسابقون بها أعمارهم، ولو استطاعوا أنفاسهم؛ ﴿ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61]؛ أي: تسبق نياتهم الطيبة الصادقة المخلصة مبادراتهم المتسارعة في فعل الخيرات، والمعنى: يسارعون في فعل الخيرات، وقد سبقتهم نواياهم الخالصة لله تعالى.
 
نسأل الله أن يجعلنا كهؤلاء.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣