أرشيف المقالات

الهدي النبوي في النصيحة بين التصريح والتلميح

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
الهدي النبوي في النصيحة بين التصريح والتلميح
 
إن الإنسان في الحياة تعترضه الكثير من المواقف السلبية التي تختلف حدتُها من موقف لآخر، وقد تزيد أحيانًا وتخبو أحيانًا أخرى، وبعض هذه المواقف قد يحتاج إلى معالجة سريعة، والبعض الآخر لا يحتاج لذلك، وتختلف درجة التأثر والتفاعل الإيجابي مع هذه المعالجة حسب العادات والتقاليد، ودرجة الوعي العلمي والثقافي والاجتماعي، ومن الأساليب التربوية المهمة في معالجة المواقف السلبية: أسلوبَا التصريح والتلميح، واستخدام أيٍّ من الأسلوبين يعود للموقف من جهة، وللمستقبل من جهة أخرى، وربما للوقت والحال من جهة ثالثة، فهناك مواقف لا يُجدي معها إلا التصريح، ومواقف أخرى لا يتناسب معها إلا التلميح، وربما قد يحتاج إلى الأسلوبين في آن واحد.
 
والمتأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد مواقفَ تعامَل معها الحبيب صلى الله عليه وسلم بالتصريح، ومواقف أخرى تعامَل معها بالتلميح، وهو الأغلب الأعم، ومن المواقف التي تعامل معها صلى الله عليه وسلم بالتلميح:
أولًا: عن أنس بن مالك أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أُصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني[1].
 
ثانيًا: عن عائشة قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا، فترخص فيه، فبلغ ذلك ناسًا من أصحابه، فكأنهم كرهوه وتنزَّهوا عنه، فبلغه ذلك، فقام خطيبًا، فقال: ما بال رجال بلغهم عني أمرٌ ترَّخصتُ فيه، فكرِهوه وتنزَّهوا عنه، فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأَشدُّهم له خشية[2].
 
ثالثًا: عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم.
فاشتدَّ قوله في ذلك حتى قال: لينتهينَّ عن ذلك، أو لتُخطَفَنَّ أبصارُهم[3].
 
ومن المواقف التي تعامل معها صلى الله عليه وسلم بالتصريح:
أولًا: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنَّا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا (جمع ناضح وهو البعير)، وإن معاذًا صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوَّزت، فزعم أني منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ، أفتَّان أنت؟ ثلاثًا، اقرأ: والشمس وضحاها، وسبِّح اسم ربك الأعلى، ونحوها[4].
 
ثانيًا: عن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر بالربذة وعليه حلَّة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببتُ رجلًا فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، عيَّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم[5].
 
وقبل ذكر أهم النقاط المستفادة من هذه الأحاديث الشريفة، أؤكد أن الانفعال والاستعجال والتهور في معالجة المواقف، له نتائج خطيرة، ويفسد أكثر مما يصلح، وقد رأينا الكثير من الانفعالات في معالجة بعض المواقف في حياتنا اليومية، فترتب على ذلك أضرار جسيمة، وربما يخسر معها الإنسان حياته.
 
ختامًا: أضع جملة من النقاط المستفادة من الأحاديث الشريفة السابقة وهي:
1- التأسي بالأساليب النبوية في معالجة المواقف، ومن ضمنها موضوع المقال هذا؛ فهي مَعين صاف، وخير زاد لعلاج المواقف التي تواجهنا، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
 
2- على المؤسسات التربوية والقائمين عليها، العناية باستخراج الأساليب النبوية التربوية؛ إذ السيرة زاخرة بمثل هذه المواقف مما لا يحصيه عدٌّ، ومِن ثم عمل برامج تدريبية وتوجيهية للعمل على تفعيلها في ممارساتنا اليومية في مختلف المواقع.
 
3- إن هذين الأسلوبين التربويين ليسا مقتصرين على فئة دون أخرى، بل يشملان كل إنسان له علاقة بالآخرين، ويتأكد ذلك في حق المربين على مختلف مستوياتهم: علماء، ودعاة، ومصلحين، وأولياء أمور.
 
4- الحاجة الماسة إلى العقل والحكمة التي من معانيها وضع الشيء في موضعه؛ ليتسنى للمعالج اختيار الأسلوب الأمثل في معالجة المواقف التي تواجهه.

[1] رواه مسلم، رقم: 1401.

[2] رواه مسلم، رقم: 2356.

[3] رواه البخاري، حديث رقم: 750.

[4] رواه البخاري، حديث رقم: 6101.

[5] رواه البخاري، حديث رقم:30.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير