أرشيف المقالات

مراتب الناس في طول الأمل وقصره

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
مراتب الناس في طول الأمل وقصره

قال الغزالي - رحمه الله -:
"اعلم أن الناس في طول الأمل يَتفاوتون، فمنهم: مَن يأمل البقاء، ويشتهي ذلك أبدًا؛ قال تعالى: ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [البقرة: 96].
 
ومنهم: مَن يأمُل البقاء إلى الهَرَمِ، وهو أقصى العمر الذي شاهده ورآه، وهو الذي يحبُّ الدنيا حبًّا شديدًا.
 
ومنهم: مَن يأمُل إلى سَنَةٍ، فلا يشتغل بتدبير ما وراءها، فلا يُقدِّرُ لنفسه وجودًا في عام قابِل، ومنهم: مَن يأمُل مدَّة الصيف أو الشتاء، فلا يدَّخر في الصيف ثياب الشتاء ولا في الشتاء ثياب الصيف.
 
ومنهم: مَن يرجع أمله إلى يوم وليلة، فلا يستعد إلا لنهاره، وأمَّا للغد فلا.
 
كما قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح".
 
ومنهم: مَن لا يجاوزُ أملُه ساعةً.
 
ومنهم: مَن لا يُقدِّرُ البقاء أيضًا ساعة.
 
ومنهم: مَن يكون الموت نُصْب عينيه كأنه واقعٌ به فهو ينتظره، وهذا الإنسان هو الذي يُصلِّي صلاة مُوَدِّع.
 
قصرُ الأملِ صاحبه يبادر إلى العمل:
ويظهرُ أثرُ قِصَر الأمل في المبادرة إلى العمل، وكلُّ إنسان يدَّعي أنه قصير الأمل - وهو كاذب - إنما يظهر ذلك بأعماله، فهو يعتني بأسبابٍ ربما لا يحتاج إليها في سنة، فيَدُلُّ ذلك على طول أمله، وإنما علامة التوفيق أن يكون الموت نُصْب العين، لا يغفُل عنه ساعة، فليستعد للموت الذي يَرِدُ عليه في الوقت، فإن عاش إلى المساء شكر الله تعالى على طاعته، وفرِح بأنه لم يُضيِّع نهاره، بل استوفى منه حظه وادَّخره لنفسه، ثم يستأنِف مثله إلى الصباح، وهكذا إذا أصبح.
 
ولا يتيسَّر هذا إلا لمَن فَرَّغَ القلبَ من الغد وما يكون فيه، فمِثل هذا إن مات سَعِد، وإن عاش سُرَّ بحسن الاستعداد ولذة المناجاة، فالموتُ له سعادة والحياة له مزيد، فليكن الموتُ على بالك يا مسكين، فإن السير حاثٌّ بك وأنت غافلٌ عن نفسك، ولعلك قد قاربتَ المنزل وقطعتَ المسافة ولا تكون كذلك إلا بمبادرة العمل اغتنامًا لكلِّ نَفَسٍ أُمْهِلَت فيه "؛ اهـ مختصرًا.
 
السبب في طول الأمل و علاجه:
ثم قال الغزالي - رحمه الله - في "إحياء علوم الدين" (4/485-486): "اعلم أن طولَ الأمل له سببان، أحدهما: الجهل، والآخر: حب الدنيا".
 
أمَّا حب الدنيا: فهو أنه إذا أَنِسَ بها وبشهواتها ولذَّاتها وعلائقها، ثقُل على قلبه مفارقتُها، فامتنَع قلبُه من الفِكر في الموت الذي هو سببُ مفارقتها، وكلُّ مَن كَرِه شيئًا دفعه عن نفسه، والإنسان مشغوفٌ بالأماني الباطلة، فيُمنِّي نفسه أبدًا بما يُوافِق مُرادَه، وإنما يُوافق مراده البقاء في الدنيا، فلا يزالُ يتوهَّمه ويقدِّرُه في نفسه، ويقدِّر توابعَ البقاء، وما يحتاجُ إليه من مالٍ وأهلٍ ودارٍ وأصدقاء ودوابَّ، وسائر أسباب الدنيا، فيصيرُ قلبُه عاكفًا على هذا الفكر موقوفًا عليه، فيلهو عن ذِكر الموت، فلا يقدِّرُ قُربَه، فإن خطَر له في بعض الأحوال أمرُ الموت والحاجة إلى الاستعداد له، سوَّفَ، ووعَد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبرُ ثم تتُوب، وإذا كبِرَ، فيقول: إلى أن تصير شيخًا، فإذا صار شيخًا، قال: إلى أن تفرُغَ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضَّيعة، أو ترجع من هذه السَّفْرة، أو تفرُغَ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له، أو تفرُغَ من قهر هذا العدوِّ الذي يشمتُ بك، فلا يزال يُسوِّف ويُؤخِّرُ، ولا يخوضُ في شُغل إلا ويتعلَّقُ بإتمام ذلك الشغل عشرةُ أشغال أُخَر، وهكذا على التدرج يؤخِّر يومًا بعد يومٍ، ويُفضي به شغلٌ إلى شغل - بل إلى أشغال - إلى أن تختطفَه المَنِيَّةُ في وقتٍ لا يحتسبهُ، فتطولَ عند ذلك حسرته، وأكثرُ أهل النار صياحُهم من "سوف".
 
وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي - رحمه الله - حين قال:
"الدنيا خمرُ الشيطان، مَن سكِر منها لم يُفِق إلا في عسكر الموت، نادمًا مع الخاسرين".
 
وقال بعض الحكماء:
"عَجِبْتُ ممَّن الدنيا موليةٌ عنه، والآخرة مُقبِلة إليه؛ يشتغل بالمُدبِرة، ويُعرِض عن المُقبِلة".
 
فإياكم أيها الأحبة و"سوف"، "فما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل"؛ كما قال الحسن البصري - رحمه الله، وصدق - والله - الحسن فيما قال، فالأمل يُكسِل عن العمل، ويُورِث التراخي والتواني، ويُعقِب التشاغل والتقاعس، ويُخلِد إلى الأرض، ويُميل إلى الهوى، وهذا أمر قد شوهد بالعيان، فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطلب صاحبه ببرهان، كما أن قِصَر الأمل يبعث على العمل، ويُحيل على المبادرة، ويَحث على المسابقة، (الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي: 10/7).
 
وأما الجهل: فهو أن الإنسان قد يُعوِّل على شبابه، فيستبعِد قُربَ الموت مع الشباب، وليس يتفكَّرُ المسكين أن مشايخ بلده لو عُدُّوا لكانوا أقل من عُشر رجال البلد، وإنما قَلُّوا لأن الموت من الشباب أكثر، فإلى أن يموت شيخ، يموت ألف صبي وشاب، وقد يستبعد الموتَ لصحته، أو يستبعد الموت فجأة، ولا يدري أن ذلك غيرُ بعيد، وإن كان ذلك بعيدًا فالمرضُ فجأة غير بعيد، وإذا مرِض لم يكن الموتُ بعيدًا، ولو تفكَّر هذا الغافلُ، وعَلِم أن الموت ليس له وقت مخصوص من شبابٍ وشيبٍ وكهولةٍ، ومن صيفٍ وشتاءٍ وخريفٍ وربيعٍ، من ليل ونهار، لَعَظُم استشعاره، واشتغل بالاستعداد له، ولكن الجهل دعاه إلى طول الأمل، وإلى الغفلة عن تقدير الموت القريب، فهو أبدًا يظن أن الموت يكون بين يديه، ولا يُقدِّر نزوله به ووقوعه فيه، وهو أبدًا يظنُّ أنه يُشيِّعُ الجنائز، ولا يُقدِّر أن تُشيَّعَ جنازته؛ لأن هذا قد تَكرَّرَ عليه وألِفه وهو مشاهدةُ موت غيره، فأما موتُ نفسه، فلم يَألَفهُ، ولم يتصوَّر أن يألفه، فإنه لم يقع، وسبيلُه أن يقيس نفسَه بغيره، ويعلم أنه لابد وأن تُحمَل جنازته ويُدفَن في قبره، ولعل اللَّبِن الذي يُغطَّى به لَحْده قد ضُرِب وفُرِغ منه وهو لا يدري، فتسويفه جهل محض"؛ اهـ بتصرف واختصار.
 
علاج طول الأمل:
قال الغزالي - رحمه الله -: "وإذا عرَفت أن سبب طول الأمل الجهل وحب الدنيا"، فعلاجه دفْع سببه:
أما الجهل: فيُدفع بالفِكر الصافي من القلب الحاضر، وبسماع الحكمة البالغة من القلوب الطاهرة.
 
وأما حُب الدنيا: فالعلاج في إخراجه من القلب شديد، وهو الداء العُضال الذي أعيا الأوَّلين والآخرين علاجه، ولا علاج له إلا بالإيمان باليوم الآخر، وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب، ومهما حصَل له اليقين بذلك، ارتحل عن قلبه حبُّ الدنيا، فإن حُبَّ الخطير هو الذي يمحُو عن القلب حب الحقير، فإذا رأى حقارة الدنيا ونفاسةَ الآخرة، استنكَف أن يلتفتَ إلى الدنيا كلها، وإنْ أُعْطِيَ مُلكَ الأرض من المشرق إلى المغرب، وكيف وليس عنده من الدنيا إلا قدرٌ يسير مكدَّرٌ مُنَغَّصٌ، فكيف يفرحُ بها أو يترسَّخُ في القلب حبُّها مع الإيمان بالآخرة؟ فنسألُ الله تعالى أن يُريَنا الدنيا كما أراها الصالحين من عباده، ولا علاج من تقدير الموت في القلب مِثل النظر إلى مَن مات من الأقران والأشكال، وأنهم كيف جاءهم الموتُ في وقتٍ لم يحتسِبوا، أمَّا مَن كان مُستَعدًّا فقد فاز فوزًا عظيمًا، وأما من كان مغرورًا، فقد خسِر خُسرانًا مبينًا، فلينظر الإنسان كل ساعة في أطرافه وأعضائه، وليتدبَّر أنها كيف تأكلُها الديدان لا محالة؟ وكيف تتفتَّت عظامها؟ فما على بدنه شيءٌ إلا وهو طُعْمةُ الدود، وما له من نفسه إلا العلمُ والعمل الخالص لوجه الله تعالى، وكذلك يتفكَّر في عذاب القبر وسؤال منكَر ونكير، وفي الحشر والنشر وأهوال القيامة، وقرْع النداء يوم العرض الأكبر، فأمثالُ هذه الأفكار هي التي تُجدِّد ذِكرَ الموت على قلبه، وتدعوه إلى الاستعداد له "؛ اهـ بتصرف واختصار.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن