أرشيف المقالات

دستور الأمة أم دستور النخبة؟ (2)

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
1
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلقد استطاع المستبدون عبر كل هذه العصور أن يضربوا الأغلبية المؤمنة بالشريعة بالنخبة -التي من الناحية العملية على الأقل- لا تريد الشريعة، فرمت النخبة الشعب بالتخلف والرجعية فردت عليهم الأمة ممثلة في الأزهر: "أنكم أقوام تَملَّك الانبهار بالغرب قلوبكم وعقولكم"؛ لتدور أتون معركة جنا المستبدون ثمارها ترسيخًا لحكمهم وتثبيتًا لكراسيهم لا سيما وهم يحرصون على التظاهر بدرجة حب للشريعة أكثر من تلك النخبة -وإن لم ترقَ بالطبع إلى تطبيقها لا في المجتمع ولا على أنفسهم اللهم إلا من أداء بعض الشعائر في بعض المناسبات-.

وهذا في النهاية يجعل الغضب ينصرف عنهم إلى النخبة، بالضبط تمامًا كما كان الرئيس يجعل رئيس وزرائه ترسًا له من الإخفاقات التنفيذية.

ولم تغب الكنيسة عن المشهد وتم محاولة توظيفها عدة مرات لإعطاء مشروعية مزيفة للحاكم المستبد، وتحريضهم ليرفضوا هم تطبيق الشريعة نيابة عن الحاكم المستبد بينما دينهم يطالبهم بطاعة الحاكم أيًّا ما كان نوع الحكم الذي يعيشون في ظله كما في النص المنسوب لعيسى -عليه السلام- في الإنجيل: "أعطِ ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، فأقل الأحوال أنهم من الناحية الدينية: لا مانع عندهم من تطبيق الشريعة الإسلامية.

ومن الناحية الواقعية: فالشريعة أفضل لهم من غيرها لاعتبارات يطول شرحها هنا، من أهمها:

أن استناد هذه الحقوق إلى أساس ديني يضمن لها الثبات والاستمرار حتى في حالة انهيار مؤسسات الدولة كما حدث في الأسابيع الأولى لثورة الخامس والعشرين من يناير.

وقد تبنت الكنيسة في وقت ما هذه الرؤية كما في حديث البابا "شنودة" السابق لجريدة الأهرام عام 1985م، وإن كانت لعبة المستبد الداخلي والمتآمر الخارجي قد غيرت قواعد هذه المعادلة.

كما استعان المستبد على ذلك ببعض مَن يطلق عليهم في الأدبيات الإسلامية بـ"شيوخ السلطان"، كما استعان ببعض مَن فهموا نصوص طاعة ولي الأمر على غير وجهها مع أنهم في مصر لا يوجد من رموزهم إلا أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة خلفهم أتباع يعدون بالآلاف على أقصى تقدير، ومع هذا يصر الإعلام على أن يزعم أن هذه هي الحالة العامة للسلفية قبل الثورة -ولهذا الحديث مجال آخر-.

لقد حصل المستبد السياسي على ما يريد في ظل حماية فكرية من "النخبة المستبدة فكريًّا"، وتبنى مشروع تحويل القيادة الكنسية من القيادة الدينية إلى ما يشبه القيادة السياسية للطائفة بما ينافي المفهوم الكنسي للتدين من جهة وينافي مفهوم الدولة الدستورية القانونية الحديثة من جهة أخرى!

ومن المهم هنا أن نبين:

أنه لا يمكن تعميم الحكم على الأفراد والكيانات وليراجع كل فرد نفسه ولنقصر أنفسنا على الثلاثين سنة الماضية -فترة حكم مبارك-، ولينظر كل فرد إلى نفسه على أي فريق كان يُحسب، وبالطبع فكل واحد بعد الثورة قد فتش في دفاتره القديمة عن مقالة انتقد فيها "فخامة الرئيس" في أمر ما أو حديث استدرك فيه على "السيدة الفاضلة الأم الرحيمة" تصرف ما أو..
أو...

ولكن السؤال الذي يعنينا في سياق رصد ظاهرة سياسية اجتماعية هو: في أي صف وقفت النخبة على مدار ثلاثين عامًا؟ أو قل خمسة وعشرين عامًا لتُستثنى الفترة التي بدأ نظام "مبارك" فيها الترنح مما شجع أفرادًا من النخبة على الخروج من الحزب الحاكم، بل من مؤسسة التوريث داخله لينشئ حزبًا معارضًا، وبالصدفة المحضة ينال الترخيص من لجنة "صفوت الشريف" المسماة بـ"لجنة الأحزاب" فور تقديم الطلب.

لقد دافع أحدهم عن نفسه حينما اُتهم بأنه كان عضو لجنة السياسات بأنه لم يحضر فيها إلا ثلاثة اجتماعات ثم انصرف عنها ليأسه من إصلاحها!

ولا أدري: هل كان إدراك أن لجنة السياسات فاسدة يحتاج إلى ثلاثة اجتماعات؟ وهل يليق مثلاً برجل شريف أن يتقدم لخطبة امرأة سيئة السمعة؟ وهل يعفيه من الحرج فسخ الخطبة بعد ذلك؟!

وهل لسائل أن يسأل أيهما رفض الآخر: لجنة السياسات أم طالب القُرب منها؟

على صعيد آخر: نجد أن معظم أفراد النخبة كانوا موظفين في وزارة الثقافة "الوزارة التي فتحت شهية حرم الرئيس المخلوع على العمل في السياسة"، وكثير منهم شغل مناصب عليا في مؤسسات الصحافة القومية.

ومن ناحية أخرى بدا أن النخبة تدرك جيدًا أبعاد التحالف ومكوناته فبينما بقيت قرنين من الزمان تحارب من أجل محاصرة الإسلام داخل المسجد بحيث يُعزل عن الحياة السياسية نجد أنها كانت تحمل السياسة وتذهب بها إلى الكنيسة؛ حتى إن الدكتور "عمرو حمزاوي" بعد الثورة اختار الكنيسة ليعلن منها إنشاء أحد مشاريع الأحزاب التي دشنها "هكذا أعلن الخبر"!

ثم لما تم تداوله واستنكر مَن استنكر ذلك خرج علينا كعادته ناعيًا سوء الفهم وسوء التقدير والتربص والاغتيال المعنوي وغيرها من قنابل الدخان...
ليعلن أن القضية ببساطة أنه كان في زيارة للكنيسة وأن الحديث عن الحزب قد جاء بلا ترتيب، وأن الغرض لم يكن الإعلان عن إنشاء الحزب وإنما أراد فقط أن يزف الخبر إلى الجمهور الذي حضر إلى آخر هذا الكلام...
وهو تبرير لا يختلف عن نفيه القاطع بأنه استعدى الحكومات الغربية مع إقراره بأنه استعدى البرلمانات الغربية.

الحاصل الذي نريد أن نخلص إليه هو: أن ثالوث "الاستبداد - النخبة العالمانية - الطائفية" قد تحالف بصورة أو بأخرى وتعاونت أضلاعه بدرجات متفاوتة، وجاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير وتحركت النخبة لأول مرة في تاريخها ضد الاستبداد -وإن كانت بعض كتائبها ما زالت قابعة في أماكنها بما سُمّيَ إعلاميًّا بالفلول والوصف الدقيق لهم أنهم "جيوب" لا فلول-.

وانتقل الإسلاميون -لا سيما السلفيين والإخوان- من المعارضة الإصلاحية بشقيها الدعوي والسياسي إلى المعارضة الثورية، ومن المعلوم من تاريخ الشعب المصري عامة والحركة الإسلامية في مصر خاصة غلبة النزعة الإصلاحية على حساب النزعة السياسية، ومن ثَمَّ فقد اكتفت الثورة -بجميع المشاركين فيها- بإسقاط رأس النظام بطريقة ثورية، وقررت أن تستكمل التطهير بطريقة دستورية قانونية وهو خيار شأنه شأن أي خيار آخر له مزاياه وعيوبه، وإن كنا نرى أن مزاياه أكثر -ولهذا الحديث تفصيل ليس هذا موضعه-.

كما تخلصت الكنيسة من حلف يبدو أنه كان يمثل لها حرجًا بدليل أن أول تصريح للبابا الجديد للكنيسة كان بمثابة اعتذار عن تأييد الكنيسة لمبارك مبررًا ذلك بأنه لم يكن له بديل.

وشعر الجميع بالحاجة إلى الحوار وكان الشعور بأن التعايش السلمي بين المسلمين والنصارى أعمق من أن يحتاج إلى مستبد، لا سيما مع ظهور أخبار أفادت أن النظام المستبد هو من دبر تفجير كنيسة القديسين التي حدثت في عيد رأس السنة 2011م، ومع تنامي هذا الشعور والاقتراب من الخروج من شرنقة الطائفية تحركت جيوب الاستبداد لتجعل من أحداث فردية أو موهومة قضية تؤجج نار الاحتقان الطائفي.

وتحركت النخبة في أول الأمر بقدر من الاستعلاء، ولكنها شعرت بأنها لا تجد المساندة والدعم اللوجيستي "الاستبدادي" المتمثل في جهاز مباحث أمن الدولة، فلم يتخيل بعضهم قدرة على مناظرة ولا حتى حوار بدون "الاستبداد" فراح يصرخ ويولول: "أين السجون؟ أين المعتقلات؟ أين قانون الطوارئ؟ بل هتف بعضهم بلا خجل: أين العادلي ومبارك؟!".

في الوقت الذي فيه قَبِل البعض الآخر لغة الحوار التي علت شيئًا فشيئًا حتى ظننا أن الثورة قد أعادت نخبة مصر إلى تربتها -وإن حافظوا على مصطلحات يمكن إدراجها تحت قاعدة: "لا مشاحة في الاصطلاح"-؛ فالمدنية عندهم مشتقة من وثيقة المدينة، والليبرالية هي الحرية المنضبطة بالنظام العام وعلى رأسه في بلادنا الشريعة الإسلامية وإن خالفت ليبرالية "لوك" و"هوبز"، والديمقراطية في عرفهم لا يمكن أن تحل الحرام أو تحرِّم الحلال وإن لم يكن ذلك واردًا عند "روسو"، والمساواة بين الرجل والمرأة هي تقابل الحقوق والواجبات وهو العدل المذكور في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: من الآية 228]، وإن زعمت المواثيق الدولية غير ذلك، فالشريعة فوق المواثيق الدولة وفوق كل شيء آخر، والحدود واجبة التطبيق إلا أنها تحتاج إلى بعض الدراسة.

ولكاتب هذه السطور مناظرات "بحسب الترتيب الزمني لإجراء المناظرة" مع كل من:

1- د.
وحيد عبد المجيد.

2- د.
ضياء رشوان.

3- د.
عمرو حمزاوي.

4- د.
عمار علي حسن.

5- د.
سعد الدين إبراهيم.

وهي متوافرة على الإنترنت سوف تجد في كل منها "خصوصًا مناظرة الدكتور حمزاوي" هذا الكلام كله أو بعضه.

ومن هنا دخلنا على كتابة الدستور ونحن مستبشرين أن هناك توافقًا عامًا على مواد الهوية، وأن هناك توافقًا عامًا على أن نظام الحكم الأمثل هو شبه الرئاسي، مما يعني أن عملية إنجاز الدستور سوف تكون سلسلة، وبدا الجو لطيفًا في أول الأمر، ولكنه كان مغلفًا بكلمة "لكن"؛ تلك الكلمة التي تحتاج إلى بحث لغوي وأصولي، بل وسيكولوجي عميق.

فكان الخطاب:

- نحن مع الشريعة ولكن نصر على التعبير عن ذلك بنفس صيغة المادة الثانية في دستور 71، مع أن قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، هو المقدّس بينما المادة الثانية بشرية يجب أن يدرس مدى وفائها بالتعبير عن معنى الآية من عدمه ومراجعة هذه الصياغة وما أحدثته من جدل داخل المحكمة الدستورية إلا أن لسان حال البعض يوحي بأن صياغة المادة هو المقدس دون الآيات العامة بالتحاكم إلى الشريعة.

- نحن لا ننوي مخالفة أحكام الشريعة، ولكن نعترض على النص على ذلك في المادة الخاصة بالمساواة بين الرجل والمرأة، مع أنها منقولة بنصها من دستور 71!

- نحن لا نريد أن نسمح بالشذوذ الأخلاقي "أعم بكثير من الشذوذ الجنسي"، ولكن نرفض أن يذكر أن الحريات منضبطة بالنظام العام للدولة.

- نحن نحب الأزهر ونحترمه، ولكننا نرفض النص على أنه المرجعية في شؤون الشريعة الإسلامية حتى لا يكون فوق المحكمة الدستورية، وحتى بعد جعل رأيه استشاريًّا ما زالت الاعتراضات على المادة تملأ السهل والوادي.

كانت هذه "اللواكن" التي أثيرت فيما يتعلق بموضوع الهوية والشريعة الإسلامية من الدستور، وقرر أصحاب هذه "اللواكن" الذهاب إلى "الأزهر" فأبدى مرونة أوسع مما كنا نود، ولكننا قبلنا بها تعظيمًا لدور الأزهر وقبلت النخبة والكنيسة ووقعوا ووقعنا حتى إذا ما اقتربت لحظة القطاف اكتشف بعضهم فجأة وبعد خمسة أشهر من العمل أن الجمعية غير متوازنة!

واكتشف البعض الآخر أنه وقَّع على تلك المواد مجاملة، وزاد على ذلك الرجوع في مجاملته وليت الأمر اقتصر على الرجوع بمعنى التصويت بـ"لا" على ما وعد وتعهد ووقع على أنه سوف يصوت عليه بـ"نعم"، بل إلى قلب الطاولة رأسًا على العقب.

خاتمة:

إن المتتبع لتاريخ الدساتير المصرية منذ عام 1882م وحتى ما قبل ثورة يناير يجد أن الدساتير كانت "مناصفة بين المستبد والنخبة" فتارة تكون أميل إلى الأول كدستور 56 و71، وتارة إلى الثاني مثل دستور 1923م، والأمة على الهامش وإن نالت قدرًا من الحصول على حقها لا سيما في التعبير عن هويتها كما في دستور 1971م.

والجديد في دستور 2012م أن ممثلي الأمة -وفي الطليعة منهم الأزهر- وممثلي الصحوة الإسلامية قد تصدوا لكتابة مسودة الدستور ليعرض في استفتاء عام على الأمة ككل، وأن الأزهر قد بالغ في محاولة تمرير كل ما يقبل التمرير -ولو بشيء من التأويل- من مطالب النخبة وكانت النخبة راضية بذلك موقَّعة عليه حتى جدَّ في الأمور جديد فانسحبت الكنيسة وانسحبت على إثرها النخبة، وظهرت "جيوب النظام الاستبدادي"؛ لتحرض وتشارك في اعتراضات وتظاهرات.

ومن المؤسف أن يبرر هؤلاء انسحابهم بأن هذا دستور السلفيين والإخوان، وهم أول مَن يعلم أن جميع المواد المتعلقة بالهوية والشريعة في هذا الدستور "وعلى رأسها المادة 219 المفسرة للمادة الثانية" هي من وضع "هيئة كبار العلماء في الأزهر"، وأن الأزهر قد راعى قدر الطاقة مطالب النخبة.

إن الحقيقة الناصعة هي أن هذا الدستور هو أول دستور تكتبه الأمة بقيادة "رموز أزهرها"، مثل الدكتور: "حسين حامد حسان"، الجامع بين أعلى درجات التخصص في الفقه وأعلى درجات التخصص في القانون والذي كتب دساتير عدة دول إسلامية.

ومثل الدكتور: "نصر فريد واصل" مفتي الديار الأسبق أستاذ الشريعة الذي جمع بين الفقه وبين روح الثورة، وثار على مبارك في عنفوان نظامه يوم أن كان غيره يحني عنقه للمخلوع ليقلده القلائد والأوسمة.

ومثل المفكر الإسلامي: "محمد عمارة" صاحب الدراسات صاحب الدراسات الفلسفية الحضارية، التي دافع فيها عن النتاج الحضاري للأمة وهي دراسات لو عرفتها النخبة لربما غيرت بوصلة حياتها.

ولأول مرة يكتب ممثلو الأمة -وفي الطليعة منهم هؤلاء القامات- مشروع الدستور، وإن شاء الله يصوت له الشعب بنعم ليكون أول دستور للأمة لا للنخبة.

وأما الدساتير التي سبقته وكيف كانت دساتير نخبة منبته عن ثقافة الأمة، وكذلك المحاولات التي تمت لقنص هذا الدستور من الأمة وأهم المواد التي ثار حولها الجدل...
فهذا ما نستكمله في مقال قادم إن شاء الله.


27-محرم-1434هـ 10-ديسمبر-2012 م
 


شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن