أرشيف المقالات

على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 1 - على هامش الدفاع عن الشرق الأوسط للدكتور عمر حليق يخيل إلى أن أكثرنا يميل إلى بحث المسائل الدولية بعقلية قانونية.
وأصالة الرأي في معالجة السياسة الدولية تقتضي عدم التقيد بالنظرة القانونية في تحليل حاضر أو مستقبل مشكلة من المشاكل الدولية.
فالقانون الدولي نظام فكري مرن مطاط يتحمل ألف تفسير وتفسير وألف مخرج ومخرج.
والقانون الدولي فلسفة سياسية جوهرها الغموض وعمادها الدبلوماسية المرنة، وأبرز دعائمها اجتهاد لبق ذخيرته عناصر متشبعة من التحليل الدقيق للعوامل السياسية والاقتصادية والفكرية الطارئة، والتيارات الهادئة أو العاصفة التي تعتري حاضر قضية من قضايا الساعة، والأهواء والنزعات وخفايا الأمور التي تكتنف هذه التيارات وتوجهها إلى هدف معين.
وكل هذه الحقائق على قسط كبير من التعقيد والتشابك يقصر جوهر القانون الدولي ودساتيره المدونة عن تنفيذه وشرحه وتطبيق حرفية ذلك القانون عليه. ولذلك فإن من غير الصواب أن نعالج المسائل الدولية على ضوء القانون الدولي وحده، بل علينا أن نذهب أبعد من ذلك ونؤكد مع كثير من المراقبين للسياسة الدولية بأن الحصافة تقتضي أن وضع القانون في زاوية بعيدة من مائدة البحث، حتى إذا انتهينا من تحليل مسألة من المسائل الدولية على ضوء السياسة العملية والتيارات المعقدة المتشابكة (الاقتصادية والعسكرية والعاطفية والتاريخية) التي يكتنفها، جلبنا القانون الدولي (أو بالأحرى هذا التراث من النماذج والسوابق والشروع والتعليقات التي تؤلف ما يسمى القانون الدولي) وطلينا الصيغة النهائية لاجتهادنا في السياسة العملية بطلاء قانوني قشرته حساسة مطاطة تفسح المجال للكر والفكر وللتعديل والتنقيح. ومثل هذه الحصافة توفر لصناع السياسة والمعقبين على السلوك السياسي مرونة يستطيعون معها أن يقبلوا على معالجة حدث من أحداث الساعة في عقل حذر واجتهاد فطن لا يضرم أن يرفض أو أن يساوم على منفعة عاجلة في سبيل نصر مرتقب، أو أن يقبل ما يبدو أنه قبول نهائي، بينما هو يضمر هدفا همه المصلحة الجوهرية الآجلة للمسؤولية التي يتولاها صناع السياسة بالنيابة عن الأمة التي انتدبوا لتسيير شؤونها وخدمة مصالح العامة. وقد يقرأ بعضنا في ثنايا هذه السطور دعوة إلى الخداع وضرب من الغش ولكن الخديعة والغش أن تكتم عن الناس الحقائق.
والحقائق في السلوك السياسي تؤكد أن جوهر هذا السلوك صراع حاد قد يكون طابعه الصدق مرة والمراوغة مرة أخرى، واللباقة آناً والتهديد آونة أخرى، ومثل هذا الصراع يفترض الخديعة والغش فإذا اعتصم فريق بالصدق وحسن النية والمثالية المجردة وهو عالم بان الفريق الآخر يتسلح بغير الصدق والمثالية والنية الصادقة فالفريق الأول يخدع نفسه ويضر بالأمانة القومية التي وكلته الأمة بالدفاع عنها وبصيانتها عن عبث العابثين. والدبلوماسية (وهي تعريف لهذا الاجتهاد الذي يحاول به صناع السياسة أن يصونوا الأمانة القومية التي وكلهم الشعب بها) جزء لا يتجزأ من سياسة السلم والحرب.
والحد بين السلم والحرب خطر نظري لا وجود له إلا في مخيلة الناس.
وقد قال حكماء العرب الأقدمون (الحرب خدعة) فإذا فسرنا هذه الحكمة تفسيرا صحيحا فإن لنا أن نعتبر أن (السياسة خدعة) كذلك، والعبرة في الحكم والأمثال أن تتجاوز المتعة العقلية وأن تطبق على جوهر السلوك الإنساني. وبعد فإن موضوع البحث هو مسالة (الدفاع عن الشرق الأوسط) وهي مسالة لها وضعية فريدة فوق إنها قضية خطيرة - فريدة لأنها تمس صميم الأمانة القومية التي يهتم بها كل مواطن عربي ويحمل لواء الدفاع عنها قادة الرأي وأولو الأمر من صناع السياسة في بلدان العرب.
وعلى ذلك فإن الحديث عن مسالة الدفاع عن الشرق الأوسط هو الحديث أبرز ما يعترض حاضر السياسة العربية من أحداث لا تقتصر على الأوضاع الداخلية للدول العربية فحسب، بل تتصل اتصالا مباشراً بمستقبل الكيان العربي بأسره كمجموعة إقليمية وكدول منفردة، كما تمس مستقبل هذا الثعلب اليهودي الذي يكمن في عقر دارنا ومستقبل العلاقات التي تربط دول الجامعة العربية بالعالم الخارجي - في الشرق والغرب. والحديث عن الدفاع عن الشرق الأوسط يختلف باختلاف الجهة التي يصدر عنها الحديث، فالعرب تنظر إليه نظرة خاصة، وتركيا تنظر إليه نظرة أخرى، وللبرطانين فيه اجتهاد منفرد، وللأمريكان رأي خاص، وللفرنسيين كذلك تفسير معين، وموقف إسرائيل منه يختلف عن هؤلاء جميعاً. ولكن المحافل العامة إجمالاً حين تتناول مسألة الدفاع عن الشرق الأوسط تفكر في أمور معينة تشترك فيها الأوساط المعنية بالأمر. هذه الأمور هي: - (1) - المركز الاستراتيجي للشرق العربي في خطط الدفاع عن الميدان الأوربي - كلا المعسكرين الروسي والغربي، وهذه الاستراتيجية تشمل قناة السويس والمطارات الجوية الصالحة لخطط حلفاء الغرب وما قد يفكر فيه الروس من خطط عسكرية مماثلة. (2) - الثروة البترولية في هذا الشرق وأهميتها لعصب الجهاز الحربي لأي من المعسكرين المتطاحنين. (3) - كون الشرق العربي نقطة القفز إلى القارة الإفريقية التي لها في مستقبل الاقتصاد الأوربي والأمريكي مكانة بارزة. (4) - أهمية الشواطئ الشرقية للجزيرة العربية وخليج العجم في الخطط البحرية لأساطيل الحلفاء في المحيط الهندي وفي الرغبة القديمة الكامنة في روسيا للوصول إلى منافذ مائية إلى هذه البحار الآسيوية وإلى البحر الأبيض المتوسط. وقد كثر الحديث عن هذه الأمور - أو عن بعضها - لدرجة أصبحت معالجتها من قبيل الكلام المعاد، وأصبح تحليل أوضاعها من قبيل الابتذال في الاجتهاد الفكري. ولكن الواقع أن معالجة الناس لهذه الأمور - وفي الشرق العربي خاصة - كانت ولا تزال مشوبة بطابع السطحية والنظرة الركنية التي لا ترى الحقائق إلا من جانب واحد، وهذا شيء طبيعي مبعثه العوامل القومية العنيفة التي تتفاعل في تفكير العرب هذه الأيام؛ وقصور الصحافة العربية وألسنة الرأي العام عن الأسباب في معالجة الشؤون الدولية عامة والناحية العربية في الشؤون الدولية على وجه الخصوص - معالجة دقيقة مسهبة. وكل ما يطمع كاتب هذه السطور لتسجيله هنا هو جمع أكبر قسط مستطاع من الآراء والتعليقات والتصريحات وما تنطوي عليه سياسة بعض الدول (المعنية بشؤون الشرق الأوسط) من مادة فكرية خاصة بموضوع الدفاع عن الشرق الأوسط، وتنسيق هذه المادة بحيث تعين الباحث في هذا الموضوع على تكوين فكرة شاملة عنه تكون ذخيرة نافعة للذين يهمهم التدقيق في مسألة الدفاع عن الشرق الأوسط على ضوء المصلحة الجوهرية للحكومات والشعوب العربية؛ وعلى ضوء البرامج التي وضعها كلا المعسكرين المتخاصمين - السوفيتي والغربي - لاكتساب الشرق الأوسط إلى الحظيرة. وإن من الطبيعي أن يتسرب إلى معالجة هذا الموضوع الآراء الشخصية التي يحملها كاتب هذه السطور، فمهما تعمد الكاتب التجرد في تحليله لمسألة من المسائل فلا مفر له من أن يبث في ثنايا السطور أطرافا من تفكيره الخاص. والعذر الصحيح الذي يبرر لكاتب هذه السطور إقدامه على دراسة مسالة الدفاع عن الشرق الأوسط كونه قد شغل بهذا الموضوع وتتبعه بدقة في مراحله العديدة، وحاول أن يلم بخفاياه وظواهره، وأن يجمع أكبر عدد ممكن من الوثائق، وأن يزن مسألة الدفاع عن الشرق الأوسط بميزان التحليل المقارن لمسائل الدفاع عن مناطق جغرافية أخرى كالحلف الأطلنطي والجيش الأوربي وميثاق الدفاع عن الباسفسكي والتحالف الروسي - الصيني في الشرق الأقصى ومكانه الشرق الأوسط في كلا المعسكرين السوفيتي والغربي. وعلى ضوء هذا التمهيد فاشرع في استعراض هذا الموضوع في شيء من الإطالة. (للكلام صلة) نيويورك عمر حليق

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣