أرشيف المقالات

القصص

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 مبتور الساقين للكاتب الفرنسي جي دي موبسان جرت لي هذه الحادثة سنة 1882 وكنت مسافرا في القطار ومزمعا الانزواء بنفسي في إحدى مقاصيره، حين انفتح بابها وسمعت صوتا يقول لآخر: - خذ حذرك من الزلل يا سيدي، فقد بلغنا ملتقى الخطوط (المقص) قم إن مرتقى القطار مرتفع فأجابه صوت آخر: - لا تخف يا لوران فسأعتمد على مقبض عكازي ثم ظهر لي رأس مستور بقبعة مستديرة ويدان تعلق بهما سيران من جلد، أخذتا تعتمدان وتستندان إلى جانبي باب القطار.
ثم رفعتا بهوادة وبطئ جسما بديناً بعض الشيء سمعت لوقع أقدامه الخشبية نقرا على مرتقى القطار، وحين هم الرجل بالدخول إلى مقصورتي أبصرت نهاية بنطلونه المتراخي فبرزت لي من خلاله رجل خشبية سوداء لم تلبث أن لحقت بها أختها، فعلمت أن رفيقي مبتور الساقين ثم برز لي من ورائه رجل آخر راح يقول له: - هل أنت مرتاح في جلستك يا سيدي؟ - نعم يا ولدي - وإذن فهاك صررك وهذا عكازك، وهنا أبصرت خادما تبدو في سحنته معارف جندي قديم يصعد الى صاحبنا حاملا له بين ذراعيه كدسة من أشياء ملفوفة بأوراق، بعضها أسود وبعضها أصفر، حتى إذا وضعها في رف القطار الواحدة بجانب الأخرى، قال لسيده: كل شيء معد لك يا سيدي: ففي هذه الصرر الخمسة أشياء: السكر والملبس، والدمية، والطبل، والبندقية، وأخيرا الفطيرة الدسمة - حسن جدا يا ولدي - أتمنى لك سفرا ميمونا يا سيدي - شكرا (يا لوران) وأنا أتمنى لك صحة موفورة، ثم غادر الخادم القطار بعد أن أغلق على سيده باب المقصورة كان رفيقي في السفر في الثالثة والثلاثين من عمره تقريباً، على رغم أن شعره وخط أكثره الشيب، وكان حسن البزة والشارة، غليظ الشارب تبدو عليه الفراهة والقوة واكتناز اللحم، فبعد أن استقر ومسح جبينه وراح ينفث في الهواء دخان سيجاره رمقني بنظرة هادئة ثم قال: - لعل دخان سيجاري يزعجك يا سيدي؟ - فقلت له: كلا، ولكن ما كدت أنطق حتى دهشت، ذلك أن هاتين العينين وذلك الصوت وحتى هذه السحنة لم تكن غريبة عني، نعم كنت أعرفها ولكن أين.
.
ومتى؟ وفي الحق قلد بدا لي أني لاقيت هذا الشاب وكلمته وضغطت على يديه ولكن ذلك كان بعيدا حتى لقد ضاع في ضباب كثيف يخيل للفكر معه أن يتلمس ذكريات الماضي ويتبعها كأنها الأطياف العابرة الهاربة، كان هو أيضاً يحدجني بنظره ويتفرس في وجهي متعرفاً كأنما داخله من التشكك بمعرفتي مثل ما داخلني، وتضايق نظرانا من هذه الملاقاة الملحة فاعترقا، على أنه لم تمض إلا ثوان حتى عادا وتلاقيا ثانية بتأثير حب الكشف والاستطلاع، وابتدرته أنا قائلا: - يا الله يا سيدي: ألا ترى أنه يحسن بنا بدلا من أن يسارق كل منا صاحبه النظر أن نبحث معا عن المكان والزمان اللذين تعارفنا فيهما أول مرة؟ فأجاب بلطف: - إنك لمحق يا سيدي، وهنا سميت له نفسي قلت: - إني أدعي القاضي هنري (بونكلير) فتردد برهة ثم قال بعين غائمة بضباب الذكرى وصوت من يحضر ذهنه كي يستذكر شيئاً عفى عليه الزمن: - آه.
.
ذكرتك تماماً، فقد صادفتك في (بوانسل) وكان ذلك منذ اثني عشر عاما قبل الحرب المشئومة.
- نعم يا سيدي.

أوه.

وإذا فآنت اللوتنان غاليه؟ - نعم أنا بعيني، ثم أصبحت الكابتن (فاليه) قبيل اليوم الذي فقدت فيه ساقي الاثنتين بإصابة فظيعة من قنبلة حربية وهنا حدق كل منا في صاحبه من جديد يعد هذا التعارف.
وتمثل في خاطري هذه الساعة منظر ذلك الشاب الجميل اللطيف الذي كان ملء العين والفؤاد بلباقته وخفته وجماله.
ولكن وراء هذه الصورة الغامضة الملفوفة بضباب النسيان، كانت تطفو على ذاكرتي قصة لهذا الشاب، كنت أعرفها وأنسيتها الآن، ولكني لم أنس أنها قصة جذابة الحوادث مغرية رغم قصرها لأن الحب لعب على مسرحها.
ثم أخذت ظلال النسيان تنحسر عن ذاكراتي شيئاً فشيئاً؛ وإذا بها تتضوء وتستنير بها المسالك، فيطالعني من خلال سطورها الممحوة وجه فتاة مليحة، وإذا باسمها يرن في سمعي ويجري على لساني: الآنسة (ماندال).
.
لقد ذكرت كل شيء الآن.
.
وفي الحق لقد كانت قصة غرام تلك التي نسيتها أولا.
كانت تلك الفتاة تحب هذا الرجل حين التقت به، وكان الناس يتحدثون عن زواجهما المنتظر القريب الذي كان يفجر ينابيع الفرح والسعادة في قلب صاحبنا الضابط وهنا صوبت بصري إلى الصرر الموضوعة إلى الرف فوق رأس الضابط الكسيح.
فإذا بها تهتز وتضطرب من حركة القطار، وإذا بي كأني أسمع الآن صوت الخادم يقول لسيده: كل شيء معد لك يا سيدي.
ففي هذه الصرر الخمسة أشياء: السكر، والملبس، والبندقية، والطبل وأخيرا الفطيرة الدسمة.
وتألقت في لحظة بخاطري رواية لهذا الكسيح الذي أراه أمامي: رواية تشبه الشبه كله جميع ما كنت قرأته في القصص أو رأيته في المسارح؛ وذلك إما أن يتزوج الخطيب ذو العاهة خطيبته السليمة أو لا.
وإذن فإن هذا الضابط المبتور الساقين قد وجد خطيبته بعد الحرب فوهبت نفسها له رغم مصيبته بساقيه.
تمثلت كل هذا جيدا في بساطة، ثم عرض لي فجأة افتراض آخر أشبه بالحق وأقرب إلى الواقع المنتظر أيكون الرجل قد تزوج من فتاته قبل الحرب وقبل الفاجعة الأليمة بساقيه؟ أتكون الصبية المسكينة احتسبت الله في مصيبتها فيه وخضعت لمشيئة القدر القاسي، فهي تستقبل مكرهة هذا الكسيح الذي غادرها ملء العين ملاحة وسلامة قبل الحرب، وآب إليها بساقين خشبيتين وجسم ناقص لا يتحرك إلا على عكازين.
أتراه سعيدا أو متألما؟! وقامت في نفسي رغبة لا تقاوم في الاستعلام عن قصة زواجه والاستفسار على الأقل عن النقطة المهمة التي أستطيع أن أبصر على ضوئها ما يود هو إخفاءه عني أو ما لا يمكنه الإفضاء به.
ورحت أكلمه بأحاديث شتى، بينما عيناي مثبتتان على الصرر الملفوفة التي وضعها خادمة على رف القطار ثم استنتجت من محتوياتها أن له امرأة وطفلين: أما السكر والملبس فلامرأته، وأما الدمية فلطفلته، وأما الطبل والبندقية فلطفله، وأما الفطيرة الدسمة فله هو؛ وفجأة قلت له: - لعلك أب لعائلة يا سيدي. - كلا فشعرت بشيء من الخجل والربكة لهذا السؤال كأني ارتكبت ما لا يتفق وحسن العشرة.
لهذا عقبت: - معذرة يا سيدي لقد ظننت ذلك مما سبق إلى سمعي من قول خادمك وإشارته إلى هذه اللعب.
وأنت تعلم أن المرء لا يملك إذنه حتى ولو لم يرد ذلك.
فافتر ثغره عن بسمة راضية ثم قال: - وما قولك أني لست متزوجاً؟ وهنا بدت على دلائل الاستذكار والتأمل؛ ثم قلت فجأة: - أوه! إن ما تقوله الحق، فحين تعرفت بك كنت عاقداً خطبتك على الآنسة ماندال فيما أظن؟ - نعم يا سيدي إن ذكرتك جيدة جدا.
فاجترأت وتابعت: وأذكر أيضاً أني سمعت أن الآنسة ماندال خطيبتك تزوجت موسيو.

موسيو.
.
فلفظ الضابط في سكون هذا الاسم: - موسيو فلوريل، أليس كذلك؟ - نعم هو بعينه.
وأذكر أيضاً أني سمعت في ذلك الحين قصة فاجعتك، ونظرت إليه من جانب عيني فإذا بالدم يتدفق في وجهه أحمر قانيا، ثم إذا به يجيبني في حمية ونشاط مثل من يدافع عن قضية ضاعت له سابقا وفرط في حقه فيها وهو يريد الآن تبرير موقفه فقال: - لقد كان من أعظم الخطأ بل والألم أن يذكروا أمامي اسم خطيبتي (ماندال) بعد إذ أبت من الحرب بدون ساقين، ويا للأسف، لم يكن بوسعي أن أقبل دون ألم وتقريع ضمير أن تصبح (ماندال) امرأتي: أترى ذلك يكون ممكنا؟ حين يتزوج المرء يا صديقي لا يفعل ذلك كي يتباهى على الناس بامرأة جميلة فتانة! إنما يفعل كي يعيش بجانبها ويتصل بها طوال الأيام والساعات والدقائق والثواني.
فإذا كان الزوج مثلي كتلة شوهاء مبتورة فإنه بزواجه من فتاة ريانة الشباب يكون قد حكم عليها بالألم الممض وقسرها على حياته الناقصة المحطمة حتى الموت، أنا أفهم وأقدر بل وأعجب بجميع التضحيات، ولكن حين يكون لها حدود تنتهي إليها، لهذا فأنا أستنكر من نفسي أن تحرم فتاة جميلة نفسها لأجلي من كل ما تهفو إليه جوارحها ونفسها من سعادة وملاذ وأحلام للصبا وللجسد أيضا، كل ذلك كي يقال عنها إنها عفيفة ظريفة كريمة، ثم كيف أطلب منها هذا وأنا نفسي حين أسمع على أرض الدار وقع عكازي وأنا أمشي وأحجل، أنا نفسي حسن أسمع هذا الصوت الذي يشبه وقع أقدام البغال يجيش في نفسي الحنق فأود خنق خادمي، وهل تظن أنه يمكن أن يقبل الزوج من امرأة أن تتسامح في شيء هو نفسه لا يغتفره لنفسه، ثم أتعتقد وتتصور أن ساقي الخشبيتين هاتين جميلتان في النظر فاتنتان للعين؟ وسكت وسكت فما عساي مجيبه؟ إن كلامه الصدق فهل بوسعي أن ألومه أو أخطئه، ثم سألته فجأة: - هل لمدام فلوريل خطيبتك المتزوجة أولاد؟! - نعم، طفلة وصبيان، ولهؤلاء الأطفال ما احمل من لعب في هذه الصرر كهدية، إنها وزوجها طيبان، وكان القطار في هذا الوقت يصعد ملتقى خطوط (سان جرمان) ثم يمضي تحت الأنفاق المتعاقبة في المحطة، ثم يقف، وعزمت على تقديم ذراعي تكأة للضابط الكسيح كي يستعين عليها في النزول من القطار لولا أن يدين امتدتا من باب القطار المغلق لمساعدته - نهارك سعيد يا فاليه، فأجاب صاحبي الضابط - سعد نهارك (يا فلوريل)، وقد كان خلف الرجل امرأته الجميلة تبتسم له أيضاً وهي ترسل التحيات الحارة المستورة بقفازين، وبجانبها طفلة صغيرة كانت تطفر من الفرح والابتهاج بلقاء صاحبي الضابط وبجانبها الآخر صبيان صغيران كانا يتناولان بشغف ونهم الطبل والبندقية وقد برزا من طرفي الصرر التي تسلمها أبوهما فلوريل وحين هبط الضابط إلى إفريز المحطة أسرع إليه الأطفال فعانقوه في محبة وألفة وشوق؛ ثم اتخذت العائلة طريقها إلى المنزل، وفي أثناء الطريق أخذت الطفلة تسند بكفها اللينة الغضة مسند عكاز الضابط الكسيح وقد فاض وجهها بماء الابتهاج والطيبة والمحبة البريئة ك.
ح

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣