أرشيف المقالات

لغة المستقبل. .

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 2 - لغة المستقبل.
. للأستاذ محمد محمود زيتون تحية علمية إلى البرلمان الفيلسوف أستاذي الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك عميد الفلسفة الإسلامية بجامعة فؤاد الأول سابقا، وعضو مجلس الشيوخ، وعضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية. ذكرت لك أيها القارئ نبذة عاجلة عن الرياضة وفرعها السابقين وهما علم العدد وعلم الهندسة، وفي المقال نعرض للمنهج الرياضي وماله من أثر في نفوس الرياضيين بحيث يكسبهم هذا الذوق الذي يسميه العلماء الروح الرياضي. ولعلك يا قارئ تسأل: إذ كان العقل في كل ميادينه يعتمد على التحليل والتركيب - وكل في ذاته منهج مشروع - وإذا كان العقل يستعمل القياس والاستقراء، وليس في غنية عن أحدهما أو كليهما.

ففهم نخصص للرياضة منهجاً؟.
.
وما هو هذا المنهج الذي به انفردت الرياضة؟ ألا إن التجارب التي نقوم بها لا تعدو أن تكون إحدى اثنتين: 1 - تجربة خارجية أو مادية تبني قراراتها على موضوعات مادية. 2 - تجربة داخلية أو ذهنية وهي التي قد تكون في الفكر عن طريق العالم الذي توجد صورته في مخيلتنا، وبمقتضاها نتمكن من تمثل الأعداد في نقط وأشكال. فهل نحن نتلمس بالحدس - في هذه الأعداد وتلك الأشكال - النسب المجردة أو المثالية التي هي قوام الحقائق الرياضي؟ الحق أن دور البداهة في الهندسة غير منكر، ولكنه في نظر (رابييه) إلا عاملا مساعدا، ومحبة في ذلك لها وجاهتها: فهو يرى أن البداهة تغلو في تقدير الحقيقة المراد إثباتها، وإن كانت البداهة تلقي الضوء على طريق الاستدلال إلا أنه لا تستطيع أن يتخذ منها سندا متيناً، لأن الخطأ قد يتسرب منها إليه لإمكان نسرب الخطأ إليها. وعلى ذلك، لا يمكن أن تعتمد العلوم الرياضية جمعاء على البداهة، ما دمنا قد افترضنا للفكر قيمة موضوعية، وإلا كانت العلوم التي تعتمد على البداهة فنوناً، وهنا تتوقف قيمة الفكر وموضوعه على (لحظات التجلي) حيث يكون العقل في حالة تصوف أو تأ والرياضة - من ناحية أخرى - ليست في منهجها - تجريبية - لأن الاستقرار - ولا سيما العلمي - لا يضمن لنا الحقيقة ثابتة، كما أنها لن تكون قياسية، لأن القياس يضع مقدمات يفترض صحتها ثم يستخرج منها نتائج على الوجه المسنون. لم يبق بعد إلا (البرهان ليكون هو منهج الذي تنشده الرياضة، ذلك لأن البرهان - كما يعرفه أرسطو - هو (قياس الضروري) وغايته: إقامة الحقائق الواضحة، أو التي سبق البرهنة عليها - غير مهتم بالضروب والأشكال التي ينتهجها المنطق الصوري.
لذا يقول أرسطو (ليس كل قياس برهاناً، وإنما كل برهان قياس) كما أن البرهان كما يقول ليار (يقاوم قواعد القياس المنطقي، وفي نفسه له مبادئه التي لا يجدها في القياس، وهذه المبادئ ضرورية ضرورة الحقائق التي يقيمها) والبرهان الرياضي لا يستغني عن التحليل والتركيب، والتحليل قد يكون مباشرا، وقد يكون غير مباشر. فالتحليل المباشر يستلزم معرفة العناصر الموضوع، والسير بالقضايا تدريجياً مما تم إثباته إلى ما يراد إثباته، أما التحليل غير المباشر فهو البرهان بالخلف، وهو ليس برهانا بالمعنى الصحيح، وإنما هو إحراج، وفيه خطورة، وقد نهج المنهج الرياضي في تلافيها.
ونقصد بهذه الخطورة ذلك العناد الحقيقي في القضية الشرطية المنفصلة.
فالزاوية س إما أن يكون حادة أو متفرجة أو قائمة، فإذا تكن الأولى ولا الثانية كانت الثالثة حتما، اعتمادا على بدهية الزوايا.
ومثل هذا البرهان لا يليق بالمنهج الرياضي المتفرد بإحدى هاتين الحسنيين، وقد اجتمعتا معا الرياضة وحدها. لهذا، احتدم الجدل حول هاتين الميزتين بين الفلسفة والرياضة.
يرى فيثاغورس أن العالم أشبه بعالم الأعداد، وأن العالم عدد ونغم، وأن الأعداد نماذج تحاكيها الموجودات دون أن تكون هذه النماذج مفارقة لصورتها. وانحدرت هذه الأنظار الفيثاغورية إلى أفلاطون الذي ظل - بالجدل الصاعد - يرقي من المحسوس المتكثر إلى المعقول الواحد وهو (المثال)، ومنه انتقلت هذه الأنظار إلى الأكاديمية الجديدة، حتى لقد غالى أحد رجالها سبيزيب - في ربط الرياضة بالفلسفة؛ أي ربط الكائنات الرياضية وهي الأعداد والمثلثات بالصور إلى حد الخلط بينهما، وفسر الوجود على ضوء هذه الكائنات الرياضية. واعتبر (باسكال) المنهج الهندسي المثل الأعلى للمناهج، وعلى ذلك الأمور الفلسفية العليا كما لو كانت مسائل هندسية أو معادلات جبرية. وأعطى (اسبينوزا) للفلسفة الأولى جفاف البراهين الهندسية وصورتها، وأخذ يتحدث عن الله، والحرية كما لو كان يتحدث عن أعداد. هؤلاء جميعاً إنما يطمحون بأنظارهم إلى العمومية والمعقولية حتى يصلا إلى الحق والخير معا، وهما هدف الرياضة البحث التي لا تتوسل بغير العقل إلى غايتها. وإذا كان المنهج الرياضي هو مجموع الوسائل والقواعد التي تمكن من بلوغ القوانين الرياضية الموثوق بها، فإن (الروح الرياضي) نوع من العقل يمكن من بلوغ الغاية، وهما في الحق متلازمان أولهما وجهان لشيء واحد: هذا موضوعي وذاك شخصي.
فإذا نظرنا إلى جميع الوسائل العقلية بالنسبة إلى الموضوع المدروس فذلك (المنهج) أما بالنسبة إلى الشخص الدارس فهي (الروح). يقول (فافر) (هنالك صفير ينعش العالم، ويحفز الباحث إلى الحقيقة، ولئن تعذر سماع هذا الصفير إلا أنه يباعد المرء عن الخطأ، هذا الصفير هو الروح العلمي). ومن الناس من أوتى مواهب تجعله قادراً على متابعة الحقيقة، وتجعله ماهراً وتمكنه من التزام الوضوح، واجتناب غواشي الحق، ومثل هذا الموهوب لديه روح علمي.
فما مظاهر ذلك في الرياضة؟ رسم أفلاطون في خياله تخطيط المدينة الفاضلة وكان ينشد في (الحاكم) شيئين هما: الجندية والفلسفة، فأنطق سقراط بهذه الكلمات البارعة (إن لنا نشيداً علميا غايته التعقل المنطقي، ويقع في منطقة النفوذ العقلي، وهو يجاهد لينظر نظراً قويا في الحيوان والنجم ثم في الشمس ذاتها.
وهكذا يبدأ المرء يبحث بالمنطق ناشداً كل أنواع اليقين بفعل الذهن البسيط مستقلا عن أي معونة حسية، ولا يكف حتى يدرك بفعل الذهن النقي طبيعة الخبر الحقيقة، وهنا يبلغ آخر مدى العالم العقلي)
. في أي فرع من فروع العلم تستقر قوة الحاكم المنشود؟ بحث أفلاطون فلم يجدها في الرياضة البدنية ولا في الموسيقى، وإنما وجدها في (علم الحساب) الذي (كل لعلم وكل فن مفتقر إلى الاشتراك فيه) وبعد أن يبن فائدته في الحرب قال (إنه يلزم الفيلسوف في درسه لأنه ملزم بأن يسمو فوق التغير، ويلوذ بالثبات وإلا فلا يكون مفكراً ذكيا).
.
وذلك لسهولة انتقال النفس من المتغير إلى الحقيقة الثابت)
ولأنه.
.
(قد يرفع النفس إلى فوق، ويحملها على البحث في الأعداد المجردة!) .
.
(وإن العاكفين على الحساب - إلا الغدر منهم - سريعو الخاطر في كل العلوم، وإن الذين فهمهم بطئ إذا تثقفوا به وتمرنوا عليه ولو لم منه على فائدة أخرى يصيرون أسرع فهماً مما كانوا.
.)
، (والهندسة علم الموجود الدائم يجب أن تجتذب النفس نحو الحقيقة، وتضرب الضربة الحاسمة في ميدان الروح الفلسفي).
. (وإذن يجب أن نلقن تلاميذنا منذ الحداثة: الحساب والهندسة وكل فروع العلوم الابتدائية الممهدة لفن المنطق). هذه أقباس من (جمهورية أفلاطون) حبذا لو عرضنا معها لوامع من (مقدمة ابن خلدون) ليرى القارئ إلى أمدى من التخبط بتعثر أولئك الأدعياء الذين لا يدرون من أين حينما يستأثرون بالعلم المدني الذي هبط به وحي مزعوم. يقول ابن خلدون محبذا تعليم الحساب نوع تصرف في العدد يحتاج فيه إلى استدلال فيبقى معقودا للاستدلال والنظر وهو معنى العقل). ويعلل الابتداء بصناعة الحساب بأنها (معارف متضمنة وبراهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء مدرب على الصواب، وقد يقال: من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره، إنما يغلب الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس فيصير ذلك خلقاً ويتعود الصدق ويلازمه مذهباً) ويقول عن فائدة الهندسة! إنها (تفيد صاحبها إضاءة في علقه، واستقامة في فكرة، لأن براهينها كلها بينه الانتظام، جلية الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها، فيبعد الفكر عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على هذا المبيع (أي الطريق الواضح)، وقيل إنه كان مكتوبا على باب أفلاطون (لا يدخلن مدرستنا من لم يكن مهندسا) وكان شيوخا يقولون: (ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثواب الذي يغسل منه الأقذار، وينقيه من الأوضار) وابتدع أفلاطون (مقياس السجية المنطقية) ليعرف به ما إذا كان يستطيع المرء أن يدرك الموضوع إدراكا إجماليا أولا يستطيع. إلى أي مدى نجح التفكير الإنساني في استخدام المنهج الرياضي في ضروب العرفان؟ وما مقدار استنباطه من الروح الرياضي في ميادين الأعمال؟ وماذا تحقق من هذا وذاك في بناء (الحضارة الفكرية).
.؟ هذا ما سنحاول الاستجابة له في العدد القادم، إن شاء الله. محمد محمود زيتون

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١