الحياة صادقة!
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
العدل الإلهي!
مقدمات لإدراكه واليقين به
(مهداة إلى العقاد الكبير بمناسبة مقاله (تبارك رزاق البرايا))
للأستاذ عبد المنعم خلاف
1 - لاشك أن (العقل) هو المميز والخصوصية الأولى للإنسان، فواجبه أن يثق به ويقيم حياته جميعها عليه، وهو محاسب عليه اشد الحساب. لأنه ميزان الحساب في كل شيء وهو الذي وطد الحياة الاجتماعية التي يحياها الإنسان الآن، واليه يرجع كثير مما في الحياة الإنسانية من اثر الرفاهة والسعادة والخدمة المشتركة بين الناس، فلماذا لا يصمم الإنسان على إلا يحيد عنه حتى يرتاح دائماً؟ ولماذا لا يعرف أن عقله روح من العقل الأعلى الذي يدير الكون بالتدبير والدقة والاطراد وعدم الإخلال بشيء؟ إن الغرائز يجب أن تكون ملجمة بحدوده حتى يتأنى تقدم الإنسان دائما وعدم ارتداده وانتكاسه وعقلنا هو نتيجة تلاقي المؤثرات المختلفة التي في الطبيعة على كياننا، فيجب أن يكون تلاقي هذه المؤثرات موزونا بنسب معينة تقريباً من جميع الجهات، حتى يخرج العقل منسوقاً موزونا.
فإذا صار لشيء من الطبيعة زيادة تأثير على ناحية من كياننا، كان في هذا اختلال لمركز التجمع الفكري العام. ومهمة التربية والتنشئة أن توازن بين تسلط هذه المؤثرات الطبيعية جميعها على الإنسان، فلا تجعل مؤثرا أو عددا من المؤثرات يطغي أو يستأثر بالتسلط عليه، بينما المؤثرات الأخرى تكون معطلة فأنسأن الصحراء وحدها قد خضع لمؤثراتها وحدها، فله عقل معين؛ وإنسان المزارع وحدها متأثر بها وحدها، فله عقل آخر.
وإنسان المدن الصناعية له عقل ثالث.
وهلم جرا وإنسان الفن وحده له عقل معين، وإنسان العلم وحده له عقل آخر، وإنسان الأعم التجارية له عقل ثالث وهلم جرا. فلكي نتحاشى أن تكون الفروق بين العقول فروقاً فاحشة بحيث لا يمكن تلاقيها الإنسان يجب أن نجعل الفرد تتقلب عليه شتى المؤثرات وتتداول فكره، حتى تكون أثارها فيه بنسب موزونة تعطيه سعة النظر إلى الحياة وتقدير آفاقها جميعاً وأني لأعجب للدولة الواحدة التي افرادها، وبينهم من التفاوت في النشأة العلمية الاقتصادية والخلقية ما لا يمكن أن يتصور معه لقاء منهم على شيء! فكيف يتصور هؤلاء الأفراد الأوزاع المشتتون الذين لا رابطة تجمعهم معاني العدالة الإلهية أو الإنسانية؟! لاشك أنهم معذورون إذا لم يستطيعوا أن يتصوروا تلك المعاني الكلية الجامعة التي تحتاج إلى إعداد وتهذيب وتمرين خاص لإدراكها 2 - وأول نظرة يدركها العقل الذي يتعرف وجهات الحياة والاعتراف بجميع الأمم والشعوب، المتحرر من التأثر بالمخلفات ومواريث التاريخ، توحي أن الإنسانية أسرة واحدة، وأن الأرض وطن واحد لهذه الأسرة وثاني نظرة توحي أن الله وضع الإنسان في الأرض موضعاً عظيماً هو موضع السيد المتصرف، على الأقل في الظاهر وثالث نظرة توحي أن الله أطلق للإنسان قدرة وأعطاه اختياراً لتكييف حياته كما يشاء.
. ورابع نظرة توحي أنه يكاد لا يكون في الطبيعة فساد ولا آلام تجعل وجه الحياة كريها مشوها، لا يعاشر إلا على غضاضة ومضاضة إلا بفعل الإنسان الذي نسبة الشرور التي يرسلها هو على الحياة وعلى بني جنسه اعظم بكثير من الشرور التي من الطبيعة مباشرة كالبراكين والزلازل والطوفان والصواعق.
الخ، وخصوصا في هذا العصر الراهن.
ومن المشاهد المعروف أن الإنسان لا يضيق صدره بقضاء الله وقدره المباشر، ولا يثور غضبه وحقده، ويتحول إلى عامل دمار وخسار إلا في مقاومة الاعتداء والشر الإنساني الذي يأتيه من الناس، لأنه يجد نفسه في قدرة على دفاعهم والانتقام منهم، فيقدم على ذلك ليرضى حزازات نفسه.
أما شرور الطبيعة، فيتألم منها، ولكن لا يثور عليها، لأنه لا يملك أن يثور عليها، فهو يجد أن احسن وسيلة للقائها هو الصبر والاحتمال ومحاولة مقاومتها بادراك أسباب الوقاية أو المعالجة فإذا أردت أن (تحاكم) الله، وتعرف واجبه الذي فرضه على نفسه، فلا تنظر نظرة ضيقة متأثرة بالأنانية الشخصية أو القومية.
لا تنظر إليه من مكانك أنت في أمتك ولا من مكان أمتك في الأمم، بل أنظر إليه وأنت تمثل الإنسانية الواحدة الهائلة.
ثم إذا أردت أن تنظر إلى الإنسانية في الأرض، فأنظر إليها من السماء نظرة الله.
أنك حينئذ تراها هكذا: أسرة واحدة منوعة أفرادا وجماعات وأمماً.
.
كل جماعة استأثرت بمكان ومنعت غيرها عنه.
وكان اقتسام الأمكنة غير عادل فأخذت أمة السهول الممرعة ونالت أخرى الأجادب، فزاغت عيون المحرومين وجاءوا إلى الضروريات فلم يلب لهم رجاء، ولم يخف المترفون الأغنياء لنجدتهم، فهاجموا وقاتلوا واستولوا وأذلوا وصار بعضهم بموج في بعض.
. وحقيقة الحقائق الاقتصادية التي يجب أن تقوم عليها فلسفة الحياة المادية، أن ما في الأرض من خيراتها ومناجمها وموارد الأرزاق كاف لجميع سكانها.
.
ذلك أمر تولى الله تقديره وتدبيره (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها). كان الواجب العقلي المجرد من الغرائز أن يسرع المتخوم بإسعاف المرحوم، وأن يقتسم معه ما عن كمالياته، وأن تقوم حكومة عادلة تتولى ذلك.
.
فأن الأرض كلها ميراث للإنسانية كلها كما يرى الله وكما قدر ودبر.
3 - وعقيدتي أن كل ظلم واقع على المستضعفين فمسئوليته أمام الله واقعة على كاهل الأمم القوية، وكل أمة جاهلة مسئولية جهلها واقعة علة الأمم العالمة.
.
وكل أمة فقيرة مسئولية فقرها واقعة على الأمم الغنية.
فالله تعالى ترك القاصرين منا للراشدين، كما يترك الأب أولاده الصغار لرعاية الكبار.
.
ذلك قياس العقل الإنساني وذلك منطقة قي الأسرة الواحدة.
فلم لا يكون قياسنا في الأمة الواحدة، ثم في الأمم المتعددة؟! ولذلك كانت النفس العربية في أول نهضتها برسالتها تحس ذلك الإحساس المتمثل في قول رسول الله: (كلكم راع وكلكم مسئول). وقول أبي بكر: (لو أن عقال بعير ضاع بالعراق لحسبت أني مسئول عنه أمام الله). وقول عمر حينما رأى شيخاً قبطياً يسأل الناس على باب مسجد (لقد أضعناك صغيراً ولم نكفك كبيراً) وأجرى عليه رزقا يكفيه.
. وقد قام العرب أول الأمر بمقتضيات هذا.
فكانوا يعتقدون أنهم مسئولون عن إصلاح الناس جميعاً، ورعاة لهم جميعاً.
.
فتنقلوا كالسحب لا يبحثون عن الأمكنة الخصبة للاستعمار، بل يبحثون عن عباد الله الإرشاد والإنقاذ والتعليم، فكان أحدهم يخرج من جنات الشام والعراق ومصر إلى صحاري الشرق والغرب يبحث عن النفوس الضالة والعقول الشاردة.
.
فلما ركنوا إلى المكث في الرياض وتركوا الهجرة لمثلهم الأعلى وفقدوا التبشير به قبل دخول الناس في دينهم إذ وجدوهم مثلهم.
.
تجار دنيا.
. 4 - أن العقل إذا أهمل ضلت الإنسانية وتحولت أسباب حسناتها إلى سيئات.
.
والمسئول عن ذلك ليس الله، بل الإنسان في مجموعه، ولم يخل عصر من العصور التاريخية من إمبراطورية عظيمة كانت تسيطر على اغلب مقدرات الأمم، وتستطيع أن تقيم العدالة بينها لو أرادت، ولكن الأنانية والجهل وعدم الانتباه إلى مسئولية الأخلاق في الأرض هي التي ملأت الأرض بالظلم والفساد.
. والدليل على ذلك أن الإنجليز مثلا أو الجرمان أو الروس البلاشفة أو الأمريكان حين أقاموا دولهم على الشعور بالوصاية العامة وتوزيع العدالة بالتساوي ارتفعت نفوس الأفراد وصت لأجسام وسمت عقائد الحياة وتقدم العلم وكفيت حاجات النفوس إلى حد ما.
مع أن كل أمة من هؤلاء مكونة من عدد كبير.
.
بينما أمة صغيرة من الهمج وأشباههم لا يزيد عددها على بضعة آلاف ولا تزيد مساحة بلادها على بضعة أميال، تعيش في فوضى واضطراب وفساد وجهالة وذلك لعدم الإحساس بالمعنى الإنساني في كل فرد، وعدم الإحساس بالوصاية وعدم تدبير الأمر بينهم. وأن حياة السوء التي تحياها الأمم المتأخرة هي التي تبلبل عقائد المفكرين منا والجهال.
وتجعلهم يحملون الله مسئولية ما يقترفون هم.
.
أنهم يعترفون بالأقدار ويحملونها متاعب ومسئولياتهم حين يكونون متأخرين متقاعسين، ولا ينظرون إليها ويعترفون بها حينما يكونون قادرين. وأنك لو فكرت وقدرت لوجدت أن جرائم القادرين والأغنياء هي التي سببت ملء الأرض بجرائم الفقراء كالسرقة والقتل وحمل أسباب الأمراض وآثار الفقر المدمر.
. (للكلام صلة) عبد المنعم خلاف