أرشيف المقالات

بريطانيا العظمى

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 لأستاذ أبو الفتوح عطيفة (تابع) حديث: في يونية 1945 كنت قادما من بور سعيد إلى القاهرة، وكان يرافقني أحد الزملاء الكرام ورجل إنجليزي كان يرتدي الثياب المدنية ومعه حقيبة مكتوب عليها بيروت، وكانت بيروت ودمشق تثيران اهتمام العرب كافة، والمصريين خاصة، وتشغلان القلوب بما كان يجري فيها من حوادث مروعة إذ ذاك. ذلك أن فرنسا لم تكد تتحرر من الاحتلال الألماني حتى جاءت بجحافلها إلى الشرق تحاول أن تسترد نفوذها في سوريا ولبنان وأن تقضي على استقلالهما، وانطلقت طائراتها تضرب الآمنين من سكان بيروت ودمشق في غير إنسانية ولا رحمة، الأمر الذي أثار ثائرة الرأي العام الشرقي عامة والمصريين خاصة.
وسط هذه الحوادث والفواجع كان التقائي بالرجل الإنجليزي. ولم نلبث أن تجادلنا أطراف الحديث فقلت له: (أيرضيك ما تفعله فرنسا في بيروت ودمشق؟ إن فرنسا كانت تبكي على حريتها منذ حين، فما بالها تقتل الحرية في غير بلادها، ولم تروع الآمنين في ديارهم؟ إن الشرقيين لم يقفوا من قضية الديمقراطية موقفا عدائيا طوال الحرب، بل قدموا للحلفاء ما استطاعوا من مساعدات! فهل يكون هذا جزاؤهم؟). ولكن الرجل لم يجب وأنتقل إلى موضوع أخر: (أكنتم تقفون حقا في صف الديمقراطية؟) قلت: (بلى) قال: (فلم قتل رئيس وزرائكم؟ (المغفور له أحمد ماهر باشا (، قلت: (إن هذه جريمة فردية ولا تؤخذ أمة بجريمة فرد، والدليل على صدق ما أقول أنه لم يوجد للقاتل شركاء) وانتقل الرجل إلى حديث آخر قال (أعندكم نظام برلماني سليم؟ أتجرى انتخاباتكم كما يجب أن تجرى الانتخابات؟) قلت له: (مهلا.
إن كان في نظامنا البرلماني بعض الهنات فإنها ستصلح سريعا وسنتغلب عليها إن شاء الله) ثم استأنفت حديثي قائلا: (إن نظامك البرلماني الذي تفخرون به كان نظاما فاسدا في القرن التاسع عشر، وقد أصلح، فلم لا يصلح نظامنا البرلماني كما أصلح نظامكم؟) عيوب: كان النظام البرلماني الإنجليزي في القرن الثامن عشر موضع إعجاب المفكرين الفرنسيين أمثال مونتسكيو، ولكن الإصلاحات التي جاءت بها الثورة الفرنسية جعلته يظهر بعيدا كل البعد عن تحقيق الديمقراطية، فقد كان أعضاؤه من كبار الملاك والأشراف الذين وصلوا إلى مقاعد النيابة بنفوذهم وبالرشوة، ولم يكونوا يمثلون الشعب البريطاني بحال منالأحوال.
وقد صبر الشعب على مساوئ النظام البرلماني أثناء الكفاح بين إنجلترا وفرنسا في عصر الثورة ونابليون، ولكن بعد سقوط نابليون تطلع الشعب إلى إصلاح النظام البرلماني.
وهنا أحب أن أذكر أن الإصلاح قد تم تدريجا ودون حدوث ثورات خطيرة أو انقلابات عنيفة كما حدث في فرنسا.
وقد كان أهم عيوب النظام البرلماني في أوائل القرن التاسع عشر ما يأتي: أولا: سوء توزيع الدوائر الانتخابية: فقد بقى على ما كان علية في عصر شارل الثاني 1660 رغم التطورات التي حدثت في حياة إنجلترا وفي توزيع سكانها، وقد كان من نتائج ذلك أن حرمت مدن كبيرة - نشأت نتيجة للانقلاب الصناعي مثل مانشستر وليدز وبرمنجهام - ومن التمثيل النيابي، بينما كانت (دنوتش) التي غمرتها مياه بحر الشمال ترسل نوابها إلى البرلمان، وكذلك (سارم القديمة) كانت عبارة عن تل من الخرائب ومع هذا كان لها نواب في البرلمان! ثانيا: لم يكن التوزيع عادلا من ناحية أخرى: فقد كانت إرلندا تنتخب مائة نائب عن ستة ملايين من السكان، وكانت إسكتلندا تنتخب 45 نائبا عن مليونين، وكانت إنجلترا تنتخب 513 نائبا عن 12 مليونا من السكان.
وكذلك كان يمثل الأقاليم 186 عضوا ويمثل المدن 467 عضوا. ثالثا: تقييد حق الانتخاب: فقد كان قاصرا على طبقات معينة، هم كبار الملاك في الأقاليم وأعضاء البلديات في المدن، وقد كان عدد الناخبين في دائرة جاتن سبعة فقط. رابعا: كان كثير من الدوائر يقع في أملاك اللوردات؛ وكان لهؤلاء تأثير كبير على الناخبين، ونتيجة لذلك أختار الدوق نورفوك أحد عشر نائبا في البرلمان، ولورد لونسدول تسعة، ولورد دارلنجتون سبعة، بل إن بعض اللوردات كان يبيع دوائره لمن يدفع أغلى ثمن. خامسا: كان حق الانتخاب مباحاً لمن يدفع الضرائب سنوية قدرها أربعون شلنا، ولكن اختفاء الملكيات الصغيرة قلل عدد الناخبين لدرجة أنه كان في دائرة (بوت) واحد، وفي أحدالانتخابات حضر هذا الناخب وحضر معه العمدة وضابط يشرف على الانتخاب، وأجريت عملية الانتخاب، وانتخب النائب نفسه، وأصبح نائبا. سادسا: كانت قلة عدد الناخبين مدعاة لانتشار الرشوة، فكان الصوت يباع بجنيهين وربما وصل إلى عشرة جنيهات. سابعا: عدم سرية الانتخابات. وهكذا نرى أن مجلس العموم كان في الواقع لا يمثل الشعب البريطاني، وقد لمس كبار رجال بريطانيا الحاجة إلى الإصلاح، واقتنع به بت الأكبر ثم بت الأصغر، ولكن حوادث الثورة الفرنسية والصراع بين إنكلترا وفرنسا أوقف حركة الإصلاح.
ولما انتهت الثورة قام كثير من المفكرين يدعون إلى الإصلاح وزاد الحركة قوة بؤس الطبقات العاملة وسوء حالها وانتشار الغلاء بسبب قانون الغلال الذي صدر عام 1815 لحماية كبار الملاك.
ورأى هؤلاء المفكرون أن الإصلاح لن يكون إلا إذا تم الإصلاح النيابي، وزج بكثيرين منهم أمثال وليم كوبت في السجون. وأخيرا في 1819 قامت مظاهرات في مانشستر للمطالبة بالإصلاح، لكن الحكومة استخدمت الشدة في قمعها، فقتل وجرح الكثيرون، وقد سميت هذه المعركة بمعركة (بيترلو) تهكما.
وأصدرت الحكومة قوانين قيدت بها حريةالصحافة وحرية الخطابة وحرية الاجتماع.
ورغم هذا ظلت حركة الإصلاح سائرة، وتبناها كثير من أغنياء التجار والصناع. ولما قامت ثورة 1830 في فرنسا سقطت وزارة المحافظين في إنجلترا، وقامت وزارة من الأحرار بزعامة لورد جراي، وقدم اللورد جون رسل مشروعا بالإصلاح إلى مجلس العموم، ولكن المشروع لقي معارضة، فحل المجلس وأجريت انتخابات، وجاءت النتيجة في جانب الأحرار فوافق المجلس إلى قانون 1832، ولكن مجلس اللوردات عارض فاستقال جراي.
وقد عجز الملك عن تأليف وزارة أخرى، فاضطر إلى استدعاء جراي ثانية، وصرح له برفع بعض الأحرار إلى مرتبة اللوردية حتى تكون له أغلبية، وإزاء هذا التهديد قبل اللوردات المشروع. وبمقتضى قانون 1832 ألغيت مقاعد المدن البالية، ووزعت الدوائر الانتخابية توزيعا عادلا بحيث تمثل المدن الجديدة في البرلمان، وأنقص النصاب المالي للناخب فزاد عدد الناخبين إلى 656 ألف بعد أن كان 535 ألف. ولكن القانون لم يحقق الديمقراطية كما كان ينشدها أفراد الشعب البريطاني، وقد أنتفع به أفراد الطبقة الوسطى، أما العمال فقد بقوا بدون تمثيل، ولذلك فبرغم صدور قانون 1833 يحدد ساعات العمل، نراهم ينهضون بزعامة روبرت أون ويطالبون بالإصلاح وقد ضمنوا مطالبهم وثيقة سميت (وثيقة الشعب) وأهمها: 1: الاقتراع العام 2: سرية الانتخاب 3: تجديد مجلس العموم سنويا 4: صرف مكافئات للنواب تشجيعيا للفقراء الأكفاء 5: عدم تقييد النواب بمؤهلات مالية 6: تقسيم البلاد إلى دوائر انتخابية متساوية على أن هذه الحركة لم تنجح وذلك لتحسن حالة العمال بعد إلغاء قانون الغلال سنة 1846، ولكن ظل العمال يطالبون بحقوقهم السياسية، وفي عام 1867 تبنى حركة الإصلاح غلادستون زعيم الأحرار ودزرائيلى زعيم المحافظين، كل يحاول أن يجعل نفسه محبوبا لدى الشعب بالاستجابة إلى رغباته، ونتيجة لذلك صدر قانون 1867 وبه عدل توزيع الدوائر الانتخابية توزيعا عادلا، وقلل النصاب المالي للناخب فزاد عدد الناخبين وأصبح لبعض العمال حق الانتخاب، ولكن ظلت الأغلبية محرومة. وفي 1870 تقررت مجانية التعليم الأولى وجعل إجباريا.
وفي عام 1872 تقرر سرية الانتخابات. وفي عام 1884 صدر قانون آخر يبيح للزراع حق الانتخاب، وأعيد توزيع الدوائر بحيث أصبح لكل 50 ألف من السكان نائب في مجلس العموم. وفي 1918 تقرر حق الانتخاب للبالغين من الرجال والنساء على السواء، وبذلك أصبح مجلس العموم يمثل الشعب البريطاني تمثيلاً كاملاً. وأحب أن أذكر أيضا أن مجلس العموم عمد إلى تركيز السلطة في يده وسحبها من يد اللوردات، فتقرر سنة 1911 أن الميزانية تصبح نافذة إذا أقرها مجلس العموم ولو لم يقرها مجلس اللوردات، وكذلك تقرر أن القوانين التي يوافق عليها مجلس العموم (النواب) ثلاث مرات تصبح نافذة ولم يوافق عليها مجلس اللوردات.
وهكذا أصبح مجلس العموم الذي ينتخبه الشعب البريطاني صاحب الكلمة العليا في بريطانيا، والوزراء ليسوا إلا منفذين لتوجيهاته وإرشاداته. أبو الفتوح عطيفة مدرس أول العلوم الاجتماعية بسموند الثانوية

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١