أرشيف المقالات

صحبة العبقرية

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 للأستاذ خليفة التونسي مجال العبقرية (الخالقة) هي السريرة الإنسانية. فالعبقرية إنما تتوجه برسالتها واعية وغير واعية إلى هذه السريرة التي لا مجال لها تعمل فيه عملها سواها، وهي تعدي بإيمانها من يقدر له الاتصال بها (شخصيا) (من المستعدين) لتقبل فيوضها، والتشبع بها إلى درجة الامتلاء ويبلغ من تأثير هذه (العدوى) أن تستجيش في سريرة المستعد لها كل بواعث الحياة والوعي والشعور بالواجب حتى ليبدو بعدئذ كأنه قد خلق في (صحبتها) خلقا جديدا، ويبلغ من تأثيرها أن ترفعه حتى يبلغ مرتبة (الاجتهاد) في رسالة العبقري، بل في غيرها من وجوه النشاط البشري، حتى يظهر كأنه هو أيضا (ملهم) كالعبقري، وذو رسالة كرسالته وهذه ظاهرة تلازم كل عبقرية (خالقة) في الوجود، من خلال صلاتها بأتباعها الذين (صحبوها) وقد أشرنا إلى هذه الملاحظة في مقال سابق نشر بهذه المجلة (الرسالة 883) عنوانه (مجال العبقرية)، وضربنا هناك مثلا لهذه الظاهرة حواريي السيد المسيح الذين (صحبوه) في حياته التبشيرية القصيرة ثم استطاعوا أن ينهضوا بحمل رسالته من بعده، وما كانوا أولا غير طائفة من صيادي السمك وأشباههم سذاجة وعامية، ومع ذلك استطاعوا أن يثبتوا في الجدل والكفاح لأساطين كهنة اليهود وأحبارهم (الذين كانوا قد فقهوا حق الفقه صفوة الثقافات الدينية والعلمية والفلسفية التي كانت معروفة في عهدهم، وانتصروا عليهم حتى في تفسير الشريعة الموسوية التي هم كهنتها وأحبارها، وكانوا إذا خطبوا أو تحدثوا - وهم العوام - نطقوا بالبيان الساحر الذي يزلزل القلوب ويهز العقول، فلا تملك حيال بلاغته العارمة ما يدفعها، فإما أن تؤمن بها، وإما أن تنحرف عن طريق سيلها الغامر) كما مثلنا لهذه الظاهرة أيضا ببعض صحابة النبي الأقربين، وفيهم باري النبال والجزار والحداد وراعي الغنم والعبد المسخر المستضعف، وقد بلغوا ما بلغوا من الاقتدار والأستاذية في التشريع، والحكم، والنصح للخلفاء وعامة المسلمين، وتسكين الهزاهز التي نجمت أمامهم من كل أفق، فأبلوا فيها كأعظم ما ينبغي البلاء، مع أنهم كانوا (رواد) مجاهل لا عهد لهم بمثلها، ولم تكن لديهم سوابق كافية يستأنسون بها في توسم تلك المشكلات الضخمة الكثيرة، وفي الطب لها وإذا صحت هذه الملاحظة تكشف لنا مدى ما تغدقه العبقرية الهادية على (صحابتها) المستعدين لها من فضل في تصفية سرائرهم، وتصحيح ضمائرهم وأذواقهم وعقولهم، كي يتوجه كل منهم الاتجاه الذي ينبغي له في الحياة حينما يتيسر له، وحيثما يتيسر، وهذا الاتجاه لا يظهر إلا متى نضجت ملكات (الصاحب) وتهيأ لها المجال الذي يناسبها، فتتمرس فيه بالتجارب التي تثير دفائنها، وتشحذها وتصقلها، وقد يتأخر ظهور اتجاه (الصاحب) إما لعدم تمام نضوج ملكاته، وإما لأن المجال المناسب لها لم يتهيأ لها والمجالات الكثيرة المتنوعة التي تناسب كل (أصحاب) العبقري قد لا تتهيأ له ولهم غالبا في حياته كي يوجه فيها أصحابه، بل تتهيأ بعد ذهابه على يد (أصحابه) أنفسهم إذا كتب لمبدإه الاستمرار بعده، وظلوا معتصمين به والعبقرية تستعمل أصحابها على طريقتين نستطيع أن نصطلح على تسميتهما بالطريقة (الكمية) أو (الجمعية) أو (الكتلية) والطريقة (الكيفية) أو (الفردية) أو (الذرية) ونعني بالأولى الطريقة العادية التي تسخر بها الجماعات العامية في الحياة اليومية، فنرى الفرد في الجماعة العامة - مهما يكن ممتازا - لا بعدو أن يكون (رقما) صغيرا ضمن عملية جمع حسابية كبيرة أو صغيرة، وهذه الطريقة لا يمكن أن تظهر (كل امتياز) الفرد إذا كان ممتازا وإنما يلجأ العبقري إلى استعمال أصحابه على هذه الطريقة إذا ذاق أمامه أو توحد المجال الذي يوجههم فيه، ولم تتح له المجالات المتعددة المتنوعة ليختار لكل صاحب منهم المجال الذي يناسب كفايته.
فاستعمالهم على هذه الطريقة المسرفة التي يبتذلون فيها آية فقر من المجالات، ولا مسوغ لهذا الإسراف وهذا الابتذال إلا الضرورة، و (من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) وموقف العبقري في هذا الحرج يذكرني بالقصة الآتية: أرسلني أبي - وأنا غلام - إلى حقل لنا، لأشرف على أجراء يعملون لنا فيه، ولمحت هناك فلاحاً كنت أعرفه ميسور الحال، كان هو صاحب الحقل المجاور لحقلنا وعجبت له إذ كان يلبس جبة وقباء أثناء عمله في حقله، والمقام مقام ابتذال لا تناسبه هذه البزة القيمة، بل يتناسبه لبس جلباب أو نحوه، فملت إلى شيخ كان يقوم بخدمتنا خاصة - وكنت أعجب بعقله ودعته - وهمست في أذنه: (ألا ترى يا عم جارنا فلانا وما يلبس، يا لإسرافه وكبريائه!) وما أسرع أن همس الشيخ الأديب في أذني: (لا إسراف يا بني ولا كبرياء، بل هو الفقر) فكان عجبي لقوله أشد من عجبي لما يلبس جارنا، فسألته دهشا: (وكيف يا عم) فأجابني مبادرا: (لو كان فلان - يعني جارنا - يملك جلبابا صالحا يبتذله في الحقل للبسه، أفكان يظل قعيد بيته ويترك العمل في حقله، أم يخرج إليه عريان، أم يلبس ثوبا ممزقا قد يجده ولكنه يفضحه، إن هذا كله غير ممكن، فلم يبقى أمامه صالحا له إلا جبته وقباؤه فابتذلهما توقيا للزوم البيت وإهمال الحقل والفضيحة أمام الناس في الخروج، ولكنه مع هذا الزي وقع في فضيحة لا يفهمها إلا قليل، وشر أهون من شر) وأبي الشيخ - رحمه الله وغفر له - إلا أن يدل بمعرفته على الغلام المعتز بما وعى على أيدي معلمه وأبيه، وبما درس من كتب كان يعكف على قراءتها عكوف الوثني المخلص على وثنه، وأبى إلا أن يصدم غروره وما كان بغرور، فعقب على ذلك بقوله: (أفهمت أيها التلميذ النجيب؟ هذا علم ليس من الكتب يا بني) فأجاب الغلام (فهمت يا عمي، وصدقت فما تغني الكتب عن تجارب مثلك) وشغلته فراسة الشيخ عن الوقوف عند تبكيته وإدلاله، وكانت هذه الملاحظة من أول ما شكك الوثني في وثنه، وزعزع إيمانه به والحق أنها ملاحظة صادقة تنطبق على جارنا الفلاح كما تنطبق على كل عبقري صاحب مذهب إصلاحي جديد حين يبتذل أصحابه فيستعملهم فيما هو دون كفايتهم وفضلهم مضطرا، إذ لا تتوفر الأعمال المناسبة لكل كفاية وفضل ونحن نشير إلى هذا السبب لأنه أكثر شيوعا في حداثة الدعوة عند الضرورة، ولسنا غافلين عن غيره من الأسباب، فمثلا قد يحول العبقري مختاراً كمكره بين ممتاز من أصحابه والعمل الذي يناسبه، لأن إسناده إليه غير مأمون العواقب عليه وعلى العمل معا، إذ لا يزال العبقري غير واثق كل الثقة من القوى الكابحة في نفس صاحبه، ولا أمان لامتياز الممتاز إلا بهذه الكوابح الذاتية التي تحول بينه وبين الطغيان، فلو ضعف وطغى الممتاز لأفسده طغيانه وقد يفسد معه غيره، ولا احتمال لذلك والمذهب لم يستقر في السرائر كل الاستقرار، وهناك أسباب غير ذلك سنشير إلى بعضها بعد حين والطريقة الثانية هي الطريقة التي يرعى فيها امتياز كل ممتاز أو خصائص كل ذي اختصاص، وتوجيهه الوجهة التي تلائم اختصاصه، فيسند إليه العمل الذي يستجيش ملكاته ويجليها ويصقلها، ويحفظ عليه ثقته بمبدإه حتى تبدو شخصيته على أوضح ما يمكن أن تكون.
فما من قوة ولا استعداد في الإنسان قد خلقه الله عبثا، بل خلقه لوظيفة في الكون، فكل مواهبه إنسانية لها مجال نشاط في الحياة يقابلها، فإذا أطلقت فيه وتمرست بتجاربه تفتحت ونضجت وازدهرت ومجالات النشاط في الحياة متعددة، والمهم أنها - مع تعددها - متنوعة، فكل مجال منها يختلف قليلا أو كثيرا عن المجالات الأخرى، فالكفاية التي يحتاج إليها تختلف قليلا أو كثيرا عن الكفاية التي يحتاج إليها غيره من المجالات والسير على هذه الطريقة هو السير العادل الذي يعطي فيه كل ذي حق حقه، ويضعه حيث تضعه كفايته، فيتاح لكل (ممتاز) المجال الذي يزدهر فيه (امتياز) ويترك غير الممتاز في دركه الخامل حيث يمسكه قصوره الذاتي متخلفا عن الممتازين دون خطأ أو إجحاف غير أن السير على هذه الطريقة - مع عدله - ليس ميسورا للعبقري في كل أحواله ولا سيما في أول ظهوره، وقد ألمعنا منذ سطور إلى أهم الأسباب وهو ضيق المجالات وقلبناها أمامه، كما ألمعنا إلى سبب آخر هو تخوفه من طغيان الممتاز إذا أعجبته نفسه وأخرجه الغرور عن حده، وهناك أسباب غير ذلك، على أن كل الأسباب التي تحمل العبقري على تجنب الاستقامة على هذه الطريقة العادلة، منها الضرورية الخارجة عن إرادة العبقري فلا اختيار له فيها، ومنها الاختيارية التي تستلزمها السياسة العليا للمبدأ، في هذه الأحوال لا يبدو العبقري في حيفه مختارا كل الاختيار، بل مختارا كمضطر أشد الاضطرار فالعبقري - وهو يعرف لكل ذي فضل فضله - قد يلجأ مثلا إلى تأخير الفاضل وتقديم المفضول اعتمادا على الثقة بالفاضل دون المفضول، استرضاء لغرور المفضول أو ضعفه، أو لأن الفاضل لا يضيره تقديم المفضول عليه، أو لأن تقديم المفضول على الفاضل هو الذي يكفل للعمل الجمع بين كفايتهما معا، أو لأنه بقى الناس الأخطار التي تتهددهم من تقديم الفاضل، إذ يحمل عليهم فيض امتيازه دون ضابط يكبحه عن الطغيان إذا حاوله، أو بقى الناس الفتنة به، فمن وراء فتنة الناس (بالصاحب) الفاضل دون المبدأ نسيانهم المبدأ الذي فتح إيمانهم به سبل النمو والازدهار لمواهبهم، وبلغهم ما بلغوا من الفضل والكفاية، وفي ذلك ما فيه من خسران كل جهاد في سبيل استقرار المبدأ وانتشاره، فإن الناس إذا تحولوا عن الإيمان بالمبدأ إلى الإيمان بتابعه الذي لم يكن فاضلا إلا به خسروا كل قوى الإيمان الدافعة التي استجاشها المبدأ في سرائرهم، وفقدوا الإحساس بكل الصلات التي تربطهم بالوجود، وما كانوا ليحسوا بها دون الإيمان بهذا المبدأ، وبذلك يفسد إيمانهم ذاته وتفسد معه كل آثاره، وفي ذلك فساد الفاضل الذي هم مناط فتنتهم، وفسادهم هم لكل أسباب الفساد التي ذكرنا.
وقد لا تفسد فتنة الناس بالفاضل فضله، فلا يفسدون طول حياته مع فساد إيمانهم بالمبدأ، ولكنهم خليقون بعد موته أن يخسروا أنفسهم بذهابه بعد أن خسروا في حياته إيمانهم بالمبدأ، وخسروا كل قوى الدفع والتماسك التي ابتعثها الإيمان بالمبدأ في نفوسهم، على أن خسران الإيمان بالمبدأ وخسران آثاره لا بد أن تظهر بعض عواقبه الوخيمة في حياة الفاضل، ولا بد أن تظهر كلها بعد موته.
هذا إلى أن عمر الفاضل - مهما يطل - قصير، أو هو على الأقل غير قابل للامتداد كعمر لمبدأ.
ومن أجل ذلك كان هم المصلحين في كل زمان ومكان أن يثبتوا في نفوس الناس الإيمان بالمبادئ دون الأشخاص ولو كانوا هم عباقرتها، لأن أعمار الأشخاص قصيرة، وأعمار المبادئ قابلة للامتداد، ولقد أصاب أبو بكر إذ قال بعد موت النبي (ص) وهو يخطب الصحابة (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) وإذا كنا قد أشرنا قبل إلى أن الممتاز في استعمال العبقري على الطريقة الأولى لا يعدو أن يكون (رقما) في عملية جمع حسابية كبيرة أو صغيرة، فما أحرانا أن نشير إلى أنه يبدو في استعماله على الطريقة الثانية (رقما) في عملية ضرب حسابية سواء أكان المضروب فيه كبيرا أم صغيرا، فكل رقم في المضروب فيه الرقم الممتاز يبدو أعظم من حقيقته، وحسبنا لفهم ذلك أن نقارن بين حالين لجماعة من الجماعات سواء كانت أمة أم قبيلة أم حزبا أم نقابة أم جيشا: حالها وقد ولى أمرها رئيس عاجز، وحالها والمدبر لأمرها رئيس كفء، إن الجماعة في حالها الأولى تبدو مختلفة اختلافا كثيرا عنها في الحالة الثانية، وقد تبدو في الحالتين وكأنها جماعتان مختلفتان كل الاختلاف، لا جماعة واحدة في حالين لا اختلاف فيهما عليها إلا استبدال رئيس فرد برئيس فرد.
والبيانات من التاريخ على ذلك ولا سيما تاريخ الحروب، فكثيرا ما فشل جيش في مهمته بعد أن حاول النجاح فيها طويلا، فلم يكن من الحاكم إلا أن استبدل قائدا بغيره، فنجح هذا الجيش في مهمته، كأنما أمده الحاكم بالألوف من الجنود والمعدات ولم يمده بقائد فرد.
إذ يبدو كل مقاتل تحت لواء القائد الممتاز وكأنه شريك قائده في امتيازه، وله منه مثل ماله.
فالقائد هنا ليس رقماً جمع إلى أرقام، بل رقماً يضاعف الأرقام التي تسند به أضعافاً بمقدار امتيازه.
ولا تقل البينات على ذلك في تاريخ الإدارة عنها في تاريخ الحروب وما أشبه استعمال العبقري أصحابه على الطريقة الأولى بإحراقنا عدة أرطال من الفحم تحت قدر لإنضاج ما فيها من الطبيخ واستعمالنا المراد بكميات كبيرة في أغراض كثيرة كهذا الغرض، بينما هباءات من الفحم تفنى في إنضاج ملء مئات من القدور لو فجرت قواها تفجيراً ذريا، وكذلك لو استعملنا تفجير الذرات في نحو هذا الغرض كتسيير القطر والسفن وإدارة الآلات المختلفة لأغني عن الكميات الكبيرة التي نستعملها من المواد في هذه الأغراض، معشارها أو أقل منه، واستعمال العبقري صحابته على الطريقة الثانية يشبه استعمالا ذريا كما أشرنا هنا، فقد يفنى الممتاز وحده في موضع امتيازه ما لا تفنى أمة كاملة من غير الممتازين. للكلام بقية محمد خليفة التونسي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن