أرشيف المقالات

عبد العزيز البشري

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 بمناسبة ذكراه السابعة للأستاذ منصور جاب الله بين تخوِّن الظروف وطغيان الحوادث، عدا الموت قبل سبع سنين على نابغة البيان العربي في عصره، فطويت صفحة المغفور له الشيخ عبد العزيز البشري بعد ما أمضّه المرض الوجيع وأضناه حقبة من السنين. وإذ قضى الشيخ البشري في مارس من عام 1943، كانت المجزرة العالمية ما تبرح طامية صاخبة، تفرّق المنايا باليمين والشمال، وتلعق الدم بالأيدي والأرجل جميعاً، ومن ثم مضى شيخنا إلى برزخه غير مذكور إلا من قلة عرفوا فضله ولم يجحدوه، ودرسوا أدبه ولم يجتووه. ويوم مات أستاذنا لم ترسل في تمجيده المقالات الضافية، ولا القصائد الباكية، لا عن كنود ولا عن نكران، وإنما هي (الاستحالة المادية) التي جاءت بها تلك الحرب الزبون فحدّت من حجم الصحف وصيرتها أشبه ما تكون بنشرات عسكرية تكاد تكون مقصورة على أنباء المعارك وأخبار الانتصارات والهزائم! وكذلك كان البشري هو الأديب المصري الواحد - إذا لم تخن الذاكرة - الذي لم يعقد له حفل تأبين يتوافى إليه أصُدقائه ليرسلوا فيه المقال شعراً ونثراً.
وما بنا أن نرد هذا إلى قصور أو إهمال، فالعذر القائم إنما ينصب على الحرب وويلاتها، فالحرب هي التي جنت على الشيخ البشري يوم وفاته، وهي التي جنت على ذكراه فغدا اليوم في المنسيين، وضاع في أطوار الزمن أدبه الرفيع، وذهبت أصداء تلك الضحكات التي تكاد تخلع الأشداق إذ يرسل دعاباته ومفاكهاته بأسلوبه الذي لا يُبارى. عرفت البشري عن كثبُ وصادقته زماناً إذا قيس إلى العمر الإنساني عد طويلاً، وكان بيننا في الإسكندرية جيرة قريبة، ومن خلال مجاورتي لهذا الرجل عرفت الكثير عن أديب من أدباء العربية الذين قل أن يجود بمثلهم الزمان. كان رحمه الله من حواريي المدرسة الأدبية المحافظة التي نشأت في أعقاب الثورة العرابية، تأثر أكثر ما تأثر بأسلوب المرحوم إبراهيم المويلحي بك، ثم بأسلوب ابنه محم المويلحي من بعده، وأسلوب (المويلحي الصغير) يبين أكثر ما يبين في كتاب (حديث عيسى بن هشام) وكان الشيخ البشري يرى في هذا الكتاب البيان العربي المثالي، وقد طالما سمعته يقول: وددت لو أكتب سطراً في مثل أسلوب حديث عيسى بن هشام! وكان هذا القول تواضعاً منه - رحمه الله - فقد بصرنا به في بعض كتاباته يحلق ويحلّق حتى ليكون المجّلى على أستاذه ويقنع أستاذه بأن يكون مع المصلين! وعبد العزيز البشري - كما يعرف سائر الناس - نشأ في بيت علم ونعمة وحفاظ، فأبوه الشيخ سليم البشري شيخ جامع الأزهر في عهد من أينع عهوده، ولقد أراد ابنه على أن يكون من شيوخ الأزهر، فلم يشأ (البشري الصغير) أن يخالف عن تقاليد أسرته فانخرط في سلك طلاب الجامع العتيق على تكره منه واستثقال، فقد أخذته أضواء النهضة الحديثة التي كانت تتوامض أضواءها في أفق الأزهر بين الحين وبعد الحين، وهو إذ يحضر جلسات الدرس إنما كان يحضرها بجسده، أما ذهنه فكان يشرد بعيداً، إذ يقلب الطالب الشاب عقله ولسانه في بلاغة المويلحي التي تطالعه بها كل أسبوع صحيفة (مصباح الشرق) وكذلك فتن شيخنا البشري بالأدب وعزف عن حلقات الفقه في الأزهر الشريف، ودأب على مراسلة الصحف الأدبية القائمة حينذاك، حتى إذا ظفر بإجازة العالمية أبى أن يكون في عداد مدرسي الأزهر شأن أنداده وإنما انكفأ إلى وزارة المعارف ليعمل محرراً فنياً فيها. وكان رحمة الله شديد الولوع بالفن، أغرم به من مشرق الصبا، وكانت له صحبة ومخالطة بأهل صناعة الغناء، وحدثنا فيما حدثنا أنه وقد أدرك من كبار المطربين عبده الحمولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وإضرابهم، كان لا يفوت مجلس من مجالسهم المونقة، ولكن ما كان ينفذ إلى هاتيك المجالس وهو ناشئ صغير إلا بشق الأنفس، لأن الناس في ذاك العهد كانوا ما يبرحون على الحفاظ والاحتشام، ودون مجالس اللهو حفظة وأحراس! وقال لنا رحمة الله إنه كان في صباه يمضي الليل ساهراً، ولا ينام إلا غراراً مع مطالع الصبح، فتحطم من ذلك جسمه، وتضعضعت في الكهولة صحته.
وكذلك طوى الأعوام العشرة الأخيرة من حياته مريضاً ما يكاد ينقه حتى تعاوده العلة فيرتكس حتى وطأتها ويستحث شبح الموت والموت منه بعيد! وإذ كان الشيخ البشري موظفاً حكومياً، فقد قيدته الوظيفة الحكومية بأمراس من حديد، واشتد شعوره بالقيد الحكومي بعد أن عين قاضياً شرعياً، فما كان يستطيع الكتابة بتوقيعه الصريح؛ بيد أنه وقد خشي أن تنسب مقالاته إلى غيره من الكتاب، كان يعمد إلى مطالعة كل مقال يكتبه على ملأ من الصحاب ممن يتذوقون الأدب، فإذا دفع المقال للنشر وطالعه الناس من مصبحهم في صحيفة سيارة، أدركوا أن هذه الجزالة اللفظية وهذا الترف البياني وهذا الترصيع الإنشائي، كل أولئك من صنعة عبد العزيز البشري! ورسائل (في المرآة) التي كانت تنشرها صحيفة (السياسة الأسبوعية) قبل خمسة وعشرين عاماً، فترن رنينها، وتحدث دويها، وتتصل رجفتها الأدبية أسبوعاً بعد أسبوع لم تكن ممهورة بتوقيع عبد العزيز البشري، ولكن قارئاً من القارئين لم يكن لينسبها لغير عبد العزيز البشري. وكان أسلوب البشري وسطاً بين الترسل والسجع، وكانت فواصله بعيدة المدى، ولكنها تتقاصر حينما يمزح أو يداعب.
ولما أراد أن يسوي من مقالاته المبثوثة في الصحف كتاباً أذكى النساخين في المكتبات العامة فجمعوا له قدراً صالحاً مما كتب، فقد كان - أحسن الله إليه - لا يحتفظ بشيء مما يكتب، ثم جعل ينخل مقالاته نخلاً ويغربلها بغربال دقيق، حتى استوى له كتاب (المختار) في مجلدين.
ومن حق التاريخ على الشيخ البشري أن نقول إنه لم يحرف في مقالاته شيئاً، فهي كما نشرت لوقتها في الصحف لم يغير منها حرفاً. وقال البشري الشعر في شبابه الأول، وكان ينشر قصائده في جريدة (الظاهر) التي كان يصدرها المرحوم محمد أبو شادي بك، هجواً في المغفور له الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد تشييعاً منه للمرحومين مصطفى كامل ومحمد المويلحي، ثم أجبل ثلاثين عاماً أو تزيد، ولكن قبل بضعة عشر عاماً أسمعنا قصيدة باكية قالها رثاء في صديق له مات وهو في مشرق العمر وريق الشباب، ثم لم يقل بعدها شعراً إلى أن وافاه الأجل المقسوم. وبعد وفاة الشيخ البشري جمعت إحدى دور النشر مقالاته التي لم يضمها (المختار) وطبعتها للناس طبعاً أنيقاً فكان ذلك وفاء لذكرى أديب أجدى على الأدب الشيء الكثير، ولكن هذا المجهود الفردي لا يكافئ أدب البشري، فهناك قصائده في صحيفة (الظاهر) ودعاباته في مجلة (الكشكول) ويومياته في (السياسة الأسبوعية) وكل هذه تبين خصائص أدب البشري، بما يتميز به من فكاهة وعمق وتدسس إلى مداخل الأشياء، لو أن هذه الذخيرة جمعت لأجدت على الأدب ولأفادت الأدباء. رحم الله شيخنا البشري فقد كان أديباً ملء إهابه، وأفسح له المقام في دار المقام. منصور جاب الله

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١