أرشيف المقالات

من معاهد العلم في عصر الحروب الصليبية:

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
8 المدرسة الصلاحية للأستاذ أحمد أحمد بدوي كان التعليم في مصر قبل مقدم صلاح الدين إليها، في الجوامع والمساجد، وأول ما عرفت مصر إقامة درس من قبل الخليفة بمرتب ثابت كان في عهد خلافة العزيز بالله الفاطمي، فقد سأله وزيره يعقوب بن كلس صلة رزق جماعة الفقهاء، يقومون بالتدريس في الجامع الأزهر، فأطلق الخليفة لهم ما يكفي كل واحد منهم من الرزق، وأمر لهم بشراء دار وبنائها، فبنيت بجانب الأزهر، فإذا كان يوم الجمعة حضروا إلى الجامع، وتحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى العصر، وكانت عدتهم خمسة وثلاثين رجلا، وكان لهم أيضا من مال الوزير صلة في كل سنة، كما كانوا موضع عطف الخليفة وحبه. ثم أنشأ الحاكم بأمر الله دار الحكمة وجعلها أشبه بجامعة نلقى فيها الثقافة العالية من فقه ونحو وحديث وأدب ولغة وهيئة وطب ورياضة ومنطق وفلسفة، وأجرى على أساتذتها الأرزاق الواسعة وجهزت بمكتبة ضخمة. وكان الهدف من التعليم في الجامع الأزهر ودار الحكمة مبادئ الشيعة ونشر مذهبهم.
ولم تذع المدارس في مصر في عهد الفاطميين، بل لم ينشأ فيها سوى هذه المدرسة التي أنشأها ابن السلار وزين الظافر العبيدي وكان من غلاة السنيين، فبنى بالإسكندرية سنة 546 مدرسة للشافعية أسند أمرها إلى العالم الشهير أبي طاهر السلفي.
وقبل هذه المدرسة أنشأ أحد وزراء الحافظ مدرسة لتعليم الشريعة بالإسكندرية أيضا. فلما جاء صلاح الدين عمل على تأسيس المدارس المختلفة، ليشيع في البلاد مذهب أهل السنة ويعيدها إلى طريق الجماعة؛ فأنشأ بجوار الجامع العتيق مدرستين: إحداهما للشافعية والأخرى للمالكية، وحول قصر الوزير المأمون البطائحي مدرسة للحنفية اتخذت اسم المدرسة السيوفية؛ لأن سوق السيوفيين كان حينئذ على بابها، وبنى مدرسة مجاورة للمشهد الحسيني، وأخرى بالإسكندرية ومدارس بالقدس ودمشق. ويظهر أن أعظم ما شيده هو المدرسة الصلاحية التي أقامها بجوار قبر الإمام الشافعي؛ ولعل صلاح الدين، وكان شافعيا، أراد بإنشائه هذه المدرسة أن يحي بها ذكرى الش ناحية، وأن يكون انبعاث مذهبه قريبا منه حيث يرقد؛ فوكل أمر إنشائها إلى نجم الدين الخبوشاني، فنهض ببناء مدرسة لم يعمر بهذه البلاد مثلها؛ لا أوسع مساحة ولا أحفل بناء؛ وكان يخيل لمن يطوف بها أنها بلد مستقل بذاته، بازائها الحمام وغيره من مرافقها، فكانت أشبه بمدينة جامعية؛ ولم يضن عليها صلاح الدين بمال، بل كان يقول لنجم الدين: زد احتفالا وتألقا، وعلينا القيام بمئونة ذلك كله.
ووقف عليها حماما بجوارها، وفرنا تجاهها، وحوانيت بظاهرها، والجزيرة التي كانت تسمى جزيرة الفيل بالنيل خارج القاهرة.
ولعلها بعد أن تم بناؤها سنة 572 أصبحت أعظم مدرسة في العالم الإسلامي كله، فكانت لذلك تدعى: تاج المدارس. وجعل صلاح الذين أمر التدريس، والنظر فيها لنجم الدين الذي تولى أمر بنائها، ورتب له في الشهر أربعين دينارا عن التدريس، وعشرة دنانير عن النظر في أوقاف المدرسة، وجعل له من الخبز في كل يوم ستين رطلا، وراويتين من ماء النيل، ولما مات وليها شيخ الشيوخ محمد بن حمويه الجوبني في حياة صلاح الدين.
فلما مات السلطان ولى النظر في وقفها بنو السلطان واحدا بعد واحد، ثم خلصت بعد ذلك، وعاد إليها الفقهاء والمدرسون. ويدلنا على ما لهذه المدرسة من القدر أن جماعة من أعيان العلماء قد تولوا التدريس فيها، نذكر من بينهم شيخا الأول نجم الدين الخبوشاني، وهو فقيه شافعي ولد بناحية نيسابور سنة 510، وتفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وكانت له معرفة بنجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين، وعندما قدم إلى مصر نصب نفسه لذم الفاطمين وثلبهم، وجعل تسبحه سبهم؛ ويقال إن الفاطميين حاولوا استمالته فلم يقبل.
ولما عزم صلاح الدين على قبض العاضد وأشياعه واستفتى الفقهاء أفتوه بجواز ذلك، وكان أكثرهم في الفتيا نجم الدين الخبوشاني، كما كان أول من خطب بن العباس. ولنجم الذين كتاب تحقيق المحيط في شرح الوسيط الذي ألفه الغزالي في فقه الشافعية، وكتب الشرح في ستة عشر مجلدا وقد اختلف المؤرخون فيه؛ فالسبكي يراه إماما جليلا ورعا آمرا بالمعروف.
وشاهده ابن جبير وأثنى عليه.
وابن خلكان يقول: رأيت جماعة من أصحابه وكانوا يصفون فضله ودينه، وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا.
وابن أبي أصيبعة يراه ثقيل الروح متقشفا في العيش يابسا في الدين يأكل الدنيا بالناموس. والذي يظهر من أعماله أنه كان شديد المغالاة فيما يعتقد، وكان بينه وبين الحنابلة فتنة قائمة يكفرونه ويكفرهم؛ رمسه الذي كان بجانب قبر الشافعي قائلا لا يتفق مجاورة زنديق لصديق.
ولكن كرهه للفاطميين وشدة إخلاصه للأيوبيين هي التي جعلت صلاح الدين يثق به ويكرمه ويقربه؛ برغم أنه مات وجدت له ألوف الدنانير، فلما سمع ذلك صلاح الدين قال: يا خيبة المسعى! وتوفي نجم الدين سنة 587. وفي عهد صلاح الدين أيضا درس فيها محمد بن هبة الله البرمكي الحموي، وهو فقيه فرضي نحوي متكلم أشعري العقيدة مرجع أهل مصر في فتاويهم، وله نظم تعليمي كثير: ألف أرجوزة في العقائد لصلاح الدين وأخرى في الفرائض أهداها إلى القاضي الفاضل. ودرس بها كذلك سيف الدين الآمدي أذكى أهل زمانه وأكثرهم معرفة بالعلوم الحكمية والمذاهب الشرعية والمبادئ المنطقية. وأفضل الدين الخونجي ممن قام بالتدريس فيها، وهو فقيه شافعي يقول عنه ابن أصيبعة: (سيد العلماء والحكماء أوحد أهل زمانه وعلامة أوانه، قد تميز في العلوم الحكميه، وأتقن العلوم الشرعية)؛ وجعله الصالح أيوب قاضي قضاة مصر؛ ولنميزه في المعقولات كانت أكثر آثاره فيها؛ فله مقالة في الحدود والرسوم، وكتاب الجمل في علم المنطق، وكتاب كشف الأسرار في علم المنطق أيضا، وكتاب الموجز فيه كذلك.
وكان الخونجي عالما بالطب أيضا وله فيه: شرح ما قاله ابن سينا في النبض، وكتاب أدوار الحميات.
ولما مات سنة 646 رثاه عز الدين الإربلي بقول: قضى أفضَّل الدنيا فلم يبق فاضل ...
ومات بموت الخونجي الفضائل فيأبها الحبر الذي جاء أخرا ...
فحل لنا ما لم تحل الأوائل ومستنبط العلم الخفي بفكرة ...
بها اتضحت للسائلين المسائل فليت المنايا عنه طاشت سهامها ...
وكانت أصيبت عن سواه المقاتل فإن غيبوه في الثرى عن عيوننا ...
فما علمه خاف ولا الذكر خامل ومنهم قاضى القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز الذي ولى المناصب الجليلة، واجتمع له منها ما لم يجتمع لغيره، فأسند إليه نظر الدواوين والوزارة وقضاء القضاء وتدريس قبة الشافعي، والصلاحية والصالحية، والخطابة.
وكانت له منزلة كبرى عند الظاهر بيبرس ومات في رجب سنة 665. ودرس بالصلاحية، وتولى قضاء القضاة أيضا ابنه عمر، فسار على طريقة أبيه، بل أربى عليها شدة هيبة.
وسلك في ولايته طريق الخير والصلاح، وتحرى الحق والعدل، وتصلب في الأحكام.
قال السبكي: (ولا يوجد أهل بيت بالديار المصرية أنجب من هذا البيت، كانوا أهل علم ورياسة وسؤدد وجلالة)؛ ثم عزل نفسه واقتصر على تدريس الصلاحية وتوفى سنة 680. ولما مات ولى أخوه عبد الرحمن المدرسة الصالحية والتربة الصالحية عوضا عن أخيه مضافا لما بيده من نظر الخزائن.
وفي أيام قلاوون عرضت على عبد الرحمن الوزارة فأبى ثم قبلها بعد إلحاح، فلما نقلت عليه تركها.
وكان للكارهين للملك الأشراف خليل، وبينه وبين وزيره ابن السلعوس تنافس وعداء، فعمل الوزير وسعى حتى عزله عن كل ما بيده من المناصب، وكانت سبعة عشر منصبا، وبالغ في إهانته؛ ثم سعى له بعض الأمراء فعين بالمدرسة الصلاحية، ولكن ذلك لم يرض ابن السعلوس فعقد له في ذي العقدة سنة 691 مجلسا وندب له العلم ابن بنت العراقي الذي نسب إليه كثيرا من العظائم فاعتقل ووعد بالقتل، وظل في بلاء إلى أول شهر رمضان سنة 692، حيث أفرج عنه، ومضى مع الركب إلى الحج، وزار النبي صلوات اله عليه، وأنشده قصيدة يمدحه بها ومات عبد الرحمن سنة 195. ووكل أمر التدريس فيها سنة 678 إلى قاضي القضاة محمد ابن الحسن بن رزين بعد عزله من وظيفة القضاء؛ لأنه توقف في خلع الملك السعيد، وقرر له نصف المرتب الذي كان يتقاضاه الخبوشاني. ولما مات ابن رزين وليها الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد على أن يأخذ ربع المقرر، فلما عين بها الصاحب برهان الدين الخضر السنجاري قرر له المرتب كله، وقد عين الخضر قاضيا للقاهرة والوجه البحري، وجلس للحكم في المدرسة المنصورية بين القصرين، ورسم له أن يجلس في دار العدل فوق قاضي القضاة ابن بنت الأعز، ومات فجأة في 9 صفر سنة 686. وكانت هيئة التدريس في هذه المدرسة مكونة من مدرس وعشرة معيدين، ومر بها ثلاثون سنة خلت فيها من مدرس واكتفى بالمعيدين.
ولسنا ندري بالضبط تحديد تلك الفترة التي خلت فيها المدرسة من المدرسين، ولعلها سبقت تولية تاج الدين ابن بنت الأعز أمر التدريس فيها؛ لأن سلسلة مدرسيها متتابعة منذ ولايته، كما لا ندري السبب الذي دفع أولى الأمر إلى الاستغناء عن مدرس بها. وعرفنا من بين من قام بالإعادة في هذه المدرسة محمد بن علم الدين بن القماح الذي استقر معيداً بتوفيع شريف سنة 680، وجعفر ابن يحيى التزمنتي الذي كان شيخ الشافعية بمصر في زمانه وأخذ عنه فقهاء عصره، وألف شرح مشكل الوسيط، وكان مدرسا بالمدرسة القطبية وتوفى سنة 682؛ وشمس الدين الأصفهاني العالم المشهور في المنطق وأصول الدين وأصول الفقه والمؤلف فيها، والمعروف بالهيبة والوقار في دروسه.
وقد أنف هذا الأستاذ أن يكون معيدا بالمدرسة عندما عين ابن دقيق العيد مدرسا بها.
قال لاسبكي: (ونحن نقيم عذره، من جهة مشيخته وقدم هجرته، وإلا فحقيق به وبأمثاله الاستفادة من إمام الأئمة تقي الدين). ومن المعيدين فيها عماد الدين عبد الرحمن بن أبي الحسن الدمنهوري وهو فقيه شافعي ألف على التنبيه في الفقه كتاباً له دعاه النكت وتوفي سنة 694. وبقيت هذه المدرسة عامرة بالدراسات المتنوعة إلى أن لاشتها الحوادث في أوائل القرن التاسع. (حلوان الحمامات) أحمد أحمد بدوي مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

شارك الخبر

المرئيات-١