أرشيف المقالات

مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة:

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 4 - مدى الثقة في هيئة الأمم المتحدة: بوليس الأمن الدولي تثور مشكلة الجزاء بوجه عام في دراسة القانون بفروعه المختلفة، ولكنها تتخذ صورة خاصة دقيقة إذا ما نظرنا إليها من ناحية القانون الدولي العام حيث تنافرت الآراء حول وجود جزاء له أو عدم وجوده ويتبع ذلك إنكار الصفة القانونية على هذا القانون أو إثباتها له.

غير أن أغلب الفقهاء يعتقدون بحق أن القانون الدولي له كل مقومات القوانين ومميزاتها وإن كان لا يزال ضعيف الجزاء. وقبل أن يولد ميثاق سان فرنسيسكو.
.
كانت أقصى مرحلة من التهذيب وصلتها الجزاءات الدولية - وذلك غير الحرب طبعاً - ما نصت عليه المادة السادسة عشرة من عهد عصبة الأمم البائدة، وهي قائمة بمفردها تتناول في أغلبها الجزاءات الاقتصادية وتشير إلى الجزاءات العسكرية باقتضاب دون تفصيل أو إيضاح. ويعزو بعض الكتاب انهيار العصبة إلى عدم الالتفات جيداً إلى اللون العسكري من الجزاءات وهذا النقص الأخير قد تداركه ميثاق هيئة الأمم المتحدة وفصله تفصيلاً في أكثر من مادة. لقد قلنا إن لمجلس الأمن اختصاصين: الأول منهما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدولي ويختص الثاني بالأحوال التي يقع فيها تهديد للسلم أو إخلال به أو حصول عدوان معين وهذه الأحوال التي تدخل في الاختصاص الثاني ليس لها صفات معينة أو حدود تقف عندها، بل إن مجلس الأمن له مطلق الحرية في تقرير هذه الحالات الخطيرة (انظر المادة 39) وترتيب الجزاءات لها. ويمكن القول بأن الجزاءات المنصوص عليها في الميثاق تتفاوت في الشدة والطبيعة فهناك ما يسمى بالتدابير المؤقتة (المادة 40) ويوضحها الميثاق بقوله: إنه منعاً لتفاقم الموقف، لمجلس الأمن قبل تقديم توصيات أو اتخاذ التدابير المنصوص عنها في المادة التاسعة والثلاثين.

أن يدعو المتنازعين للأخذ بما يراه ضرورياً أو مستحسناً من تدابير مؤقتة، ولا تخلو هذه التدابير المؤقتة بحقوق المتنازعين ومطالبهم أو بمركزهم، وعلى مجلس الأمن أن يحسب لعدم أخذ المتنازعين بهذه التدابير المؤقتة حسابه. وهناك الجزاءات غير العسكرية (المادة 41) وعندها يقرر مجلس الأمن ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً كما تقطع العلاقات الدبلوماسية. وأما الجزاءات العسكرية (م42) فقد نص عليها الميثاق بأنه إذا رأى مجلس الأمن أن الجزاءات غير العسكرية لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه، ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات البرية والجوية والبحرية التابعة لأعضاء هيئة الأمم المتحدة وهذا القوات هي (بوليس الأمن الدولي) وأما تكوين بوليس الأمن وتنظيمه فقد فصل ذلك الميثاق (م43) بأنه في سبيل المساهمة في حفظ السلم والأمن الدولي يتعهد جميع أعضاء هيئة الأمم المتحدة بأن يضعوا تحت تصرف مجلس الأمن بناء على طلبه وطبقاً لاتفاقات خاصة ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي وتحدد تلك الاتفاقات عدد هذه القوات وأنواعها ومدى استعدادها وأماكنها عموماً ونوع التسهيلات والمساعدات التي تقدم.
كما قضى (م47) بتشكيل لجنة من أركان الحرب تكون مهمتها أن تسدي المشورة والمعونة إلى مجلس الأمن وتعاونه في جميع المسائل المتصلة بما يلزمه من حاجات حربية واستخدام القوات الموضوعة تحت تصرفه وقيادتها.
ولما كان هذا التنظيم يستغرق وقتاً طويلاً لكي يوجد.
فقد نص الميثاق (م106) على أن الدول الخمس الكبرى تقوم بالنيابة عن الهيئة بالأعمال المشتركة التي قد تلزم لحفظ السلم والأمن الدولي في فترة الانتقال أي إلى أن يتولى مجلس الأمن تبعاته.
لقد قدمنا أن حق الاعتراض هو السائد في جميع أعمال مجلس الأمن بنوعيها، ورأينا كيف استعملته الكتلتان: الشرقية والغربية أسوأ استعمال متوخية مصالحها وشهواتها في كل ما يدخل في الاختصاص الأول المتعلق بحفظ السلم والأمن الدولي وناقشا اقتراح مارشال الذي كان بمثابة رد فعل لهذا الاستعمال السيئ.
.
والآن يستطيع القارئ أن يستنتج مصير الاختصاص الثاني للمجلس الذي لن يكون أحسن حالاً من سابقه مادام هناك (الفيتو) وسوء تطبيقه.

ويمكننا أن نقول بملء الفم أن النصوص التي تقتطع جانباً خطيراً من الميثاق والتي تتعلق بمسألة الجزاءات.
.
قد حكم عليها بالعدم والموت.
ففي فترة الانتقال هذه لم تتفق كلمة الدول الخمس الكبرى على فض أي نزاع أو عدوان يخل بالأمن الدولي.
وليس ذلك راجعاً لندرة العدوان أو التهديدات الدولية بل يرجع قبل كل شئ إلى الخلاف الناشب بين المعسكرين المعروفين.
والمثل البارز لذلك في مسألتي البلقان وإندونيسيا.
. ولندع فترة الانتقال وننظر فيما بعدها.
.
هل نظمت هيئة الأمم حقاً قواتها؟ وهل عقدت تلك الاتفاقات التي تحدد هذا التنظيم؟ ثم ما حال لجنة أركان الحرب الدولية.
.
أين هي؟. والجواب عن كل ذلك حاضر يبعث على الأسف: لم يحدث شئ، ولن يكون شئ مادام هذا النزاع المصلحي قائماً بين الدول يدعي كل فريق أن حق الاعتراض عقبة كبيرة في سبيل التنفيذ، ولكن الحقيقة أن الأهواء والشهوات هي أصل الداء، فهي التي جرت إلى إساءة استعمال هذا الحق بل هي التي خلقته ودفعته إلى الوجود وما كنا في حاجة لمثله.
. إن بوليس الأمن الدولي جيش فوق الجيوش، وقوة عظيمة تجب جميع القوى وكان أمل الشعوب الصغيرة فيه كبيراً، لأنه سندها ودرعها في نضالها ضد اضطهاد الدول المستعمرة الظالمة، وليس غريباً أن تنشر الصحف نبأ النصيحة التي قدمها مسيو تريجف لي سكرتير هيئة الأمم لرئيس وزراء مصر حين تقرر نهائياً عرض القضية على مجلس الأمن.
.
فقد ذكرت أنه أشار عليه بالتريث حتى تتكون قوة بوليس الأمن الدولي. على أية حال ليس أمامنا سوى الأسف العميق نقابل به مثل هذه الأمور المحزنة ولعله من المفيد أن نذكر شيئاً عن مشروع أمريكي للدفاع المشترك قيل أنه يغني مؤقتاً عن البوليس الدولي.
فقد روت الأنباء أن وفد أمريكا في الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة قد أعد مشروعاً بمعاهدة للدفاع المتبادل تسندها قوات الدول الموقعة وسيعرض الوفد هذا المشروع على الجمعية العمومية.
وهذه المعاهدة المقترحة يمكن أن تتمخض عن إنشاء قوة بوليس دولية لحماية اليونان في القريب العاجل من اعتداء يوغوسلافيا وألبانيا وبلغاريا عليها كما أنها تتمشى مع الميثاق وتخضع لمادة معينة منه (م51) تشير إلى أن للدول الحق في الدفاع الفردي أو الجماعي إذا وقع هجوم مسلح على دولة من أعضاء هيئة الأمم وذلك إلى أن يتسنى لمجلس الأمن اتخاذ التدابير الضرورية للمحافظة على السلام والأمن الدوليين، ومن شروط هذا الاقتراح الأمريكي أن هذه المعاهدة مفتوحة لكل دولة من أعضاء هيئة الأمم تريد توقيعها بما في ذلك روسيا ولكنها تصبح نافذة في القريب العاجل سواء وقعتها روسيا والدول المرتبطة بها أو لم توقعها، ولن يكون تنفيذ هذه المعاهدة بما في ذلك استخدام القوات المسلحة للدول الموقعة موضوعاً خاضعاً لحق الدول الكبرى في الاعتراض - الفيتو - وتقول المصادر الأمريكية أن هذه المعاهدة تهدف إلى التغلب على عقبتين في سبيل المحافظة على السلام في اليونان وغيرها: أولاً: استخدام روسيا لحقها في الاعتراض على أية محاولة لحماية اليونان من عدوان جيرانها في الشمال. وثانياً: العوائق التي يضعها الوفد السوفيتي في سبيل إتمام اتفاقات حربية بين هيئة الأمم المتحدة والدول الأعضاء بينما كان المأمول أن تنشأ قوة بوليس دولية لتنفيذ قرارات هيئة الأمم. ويشبه مشروع هذه المعاهدة بروتوكول جنيف في سنة 924 الذي كان يهدف إلى تقوية عصبة الأمم ويبرز العمل الجماعي ضد العدوان تمشياً مع روح ميثاق العصبة. هذا هو المشروع الأمريكي الذي لم يطرح بعد على بساط البحث، ورأينا فيه أنه - كما هو واضح - موجه ضد الكتلة الشرقية وقد أملته روح التحدي والعداء وكان الأجدر بأمريكا أن تتمسك بنصوص الميثاق بدلاً من أن تهدرها وتستبدل بها مشروعات أخرى لن تكون خيراً منها أو أكثر اتساقاً مع الغرض من قيامها ثم إن هذه المعاهدة الدفاعية تدعو للتساؤل: فهي دفاعية ضد من؟ لابد لوجود الدفاع من هجوم.
.
فضد من يوجه هذا الدفاع.

إن كانت دول العالم أجمع ستنضم إلى المعاهدة؟ والظاهر أن الكتلة الغربية تعلم مقدماً أن مشروعها لن يجوز رضاً من الكتلة الشرقية، ولهذا جعلت المعاهدة مفتوحة للانضمام، والغالب أن الدول الموقعة ستكون سياستها موافقة لأهواء الكتلة الأولى ومناهضة للثانية الأمر الذي يؤكد في الذهن أن هذا المشروع ليس وليد الإيمان الخالص بخير الإنسانية وتقديس المعاني السامية لذاتها.

وقد نفذت الولايات المتحدة مشروعها المقترح تنفيذاً جزئياً في نصف الكرة الغربي حين عقدت معاهدة الدفاع المشترك بين دول الأمريكيتين في الأسابيع القليلة الماضية.
وبعد: فإن حق الاعتراض يجب أن يلغى، وأن تزيد الثقة المتبادلة بين الدول، وتعود للمثل العليا قيمتها واعتبارها، وأن نؤمن من جديد بالعدالة والحرية والمساواة.
. يجب أن تختفي من السطور كلمات الحرب والحياد، فالجراح التي خلفتها الحرب لم تلتئم، والمداد الذي كتب به الميثاق لم يجف بعد.
إننا نخشى على مولود سان فرنسيسكو أن يلحق بفقيد الأطلنطي.
.!! عبد الحميد عثمان عبد المجيد كلية الحقوق

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣