نداءات الرحمن لأهل الإيمان 42


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم.

امتحن الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في النداء السابق، وقد نجحوا بتفوق، وهم في تلك الأزمة الحادة الشديدة، وكانوا قد حيل بينهم وبين دخول مكة وهم محرمون ملبون بالعمرة، وهذا قضاء الله وقدره، وابتلاهم الله بكثرة الصيد، فكانت الأرانب والغزلان والظباء والطيور تغشاهم في مخيماتهم، وهم صابرون، وقد تحك الغزالة جسمها بجسم أحدهم ولا يلمسها؛ لأن الله أعلمهم أنه سيبتليهم؛ ليظهر طيبهم، وليعلي درجاتهم، ويرفع مكانتهم، وفي نفس الوقت يؤهلهم لأن يصبحوا أعدل الخلق وأرحمهم، وأوفاهم بالعدل وأسبقهم. وهذا الابتلاء ذكره تعالى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:94] ] وهم لم يعتدوا.

والآن [ النداء الأربعون ] وهذا لنا نحن، فلنستمع إلى هذا النداء الموجه إلينا، وهو [ في حرمة الصيد حال الإحرام ] وفي الحرم [ وبيان جزاء من قتل الصيد عامداً وهو محرم والعياذ بالله ] وهيا نتغنى بالنداء أولاً؛ لنزكي به أنفسنا، ونطيب به ألسنتنا، وبعد ذلك نشرح ونعرف مراد الله منه، ونلتزم.

[ الآية (95) من سورة المائدة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95] ] وهذا الذي نتلوه قرآن كلام الله ربنا والله، والحمد لله فلا أحد يعادلنا أو يساوينا أو يكون مثلنا من أولئك الذين ما عرفوا الله ولا آمنوا به ولا برسوله ولا بكتابه، بل هم الآن في المقاهي والمراقص والمقاصف، يأكلون كما تأكل البهائم، ويعودون سكارى، وينامون إلى الساعة الثامنة، ثم يقومون إلى العمل يجرون ويهرولون، حتى لا يفصلوا من العمل، ويشتغلون إلى قبل المغرب، ويعودون إلى الأكل والشرب والضحك والباطل والعبث، وما هي إلا سنيات معدودة ويموتون، فيجعلونهم في توابيت ويرمونهم في الأرض، فتنتقل أرواحهم إلى عالم الشقاء، فتبقى فيه أبداً مليارات السنين. إذاً: فاحمدوا الله، وقولوا: الحمد لله.

وها نحن مع كلام ربنا، فهذا نداؤه، ينادينا به ليعلمنا علوماً ومعارف نستقيم عليها؛ لنرتفع ونسمو في سماء الكمالات.

[ الشرح: اذكر أيها القارئ والمستمع! ما جاء في النداء ] السابق [ التاسع والثلاثين قبل هذا ] النداء [ فإن فيه اختبار الله تعالى للمؤمنين بشيء من الصيد ] بقوله: لَيَبْلُوَنَّكُمُ [المائدة:94]، أي: ليختبرنكم [ واختبار أهل عمرة الحديبية، وقد نجحوا أجمعين، فلم يصيدوا مع ما كان يغشاهم في رحالهم من أنواع الصيد. فرضي الله عنهم وأرضاهم ] أجمعين. فقد امتحنوا ونجحوا. فقد كان الغزال يأتي إلى أحدهم وهو في خيمته، أو كان يرى الأرانب أمامه، بل تعلو وهو نائم على ظهره ولا يمد يده، وهذا هو الإيمان؛ لأن الله هيأهم لأن يصبحوا بعد أعوام أئمة الدنيا وهداة العالم، لا يعرفون إلا الحق والعدل والرحمة، فكان لهم هذا الامتحان، فنجحوا بأكبر جائزة، لأن الذي أجرى الامتحان عليهم الله مولاهم.

قال: [ وبما أن الإسلام هو الدين الباقي ببقاء هذه الحياة فلا ينسخ ولا يزاد فيه ولا ينقص ] منه [ علم الله أنه يأتي يوم يجهل فيه المؤمنون كرامتهم ومقامهم فيصيد منهم من يصيد وهو محرم، فسقاً عن أمر الله تعالى ] وذلك [ لغلبة الغفلة والجهل، ولرقة الإسلام وخفة الإيمان في نفسه ] وهذا قد حصل بعد القرون الثلاثة، واستمر ألف ومائة سنة، والآن ليس هناك من يصيد؛ لأننا نركب الطائرات والسيارات، ولكن قبل ستين أو سبعين سنة كان كل الحجاج يقطعون المسافات للحج، فكانوا يقطعون من الشام أربعين يوماً، ومن نجد شهراً كاملاً، وكل ليلة يبيتون في الطريق، سواء كانوا من صنعاء أو من أي جهة، ولابد وأن يغشاهم الصيد ويمرون به، وأما الآن فقد سلمتم من هذا، وليس إلا ساعتين وأنتم في مكة، وقد يأتي يوم نعود فيه كما بدأنا، إذا انتهت الطاقة ووقفت دواليب الحياة، وعندها ستركبون الخيول من جديد والبهائم والرواحل. وهذا الكلام أخبر به الرسول، وقاله علماء الذرة والكون، فقد قالوا: إن المادة الآن تنتهي شيئاً فشيئاً، ولابد وأن تنتهي. وهذا الشرع باقٍ.

حرمة الصيد على المحرم وعلته

قال: [ فنادى الله تبارك وتعالى المؤمنين في هذا النداء الأربعين من نداءاته لعباده المؤمنين، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] ] وقوله: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] جملة حالية، أي: والحال أنكم محرمون بحج أو عمرة، والحج مرة في العام، ولكن العمرة طول العام [ فحرم ] الله [ تعالى بهذا الصيد على المحرم بحج أو عمرة في الحرم وفي الحل على حد سواء ] ومعنى في الحل أي: قبل أن يدخل أرض الحرم، ومعنى وفي الحرم أي: أرض الحرم، فالصيد على المحرم حرام، ولو يحرم من دمشق حرم الصيد عليه إذا مر به، وليس شرطاً من الميقات فقط، بل لو يحرم من العراق ومشى في الصحراء فما دام محرماً لا يحل أن يصيد أبداً، وإلا فالعذاب كما تسمعون [ ومعنى (حرم): محرمون ].

قال: [ وعلة التحريم هنا ليست الامتحان والاختبار ] كما حصل لأصحاب الرسول، فقد كان لهم ذلك امتحاناً وتربية، وإعداداً لهم للكمالات، وقد نجحوا، وأما بالنسبة إلينا فليس هو امتحان ولا اختبار، بل تشريع؛ لنطيع أو نعصي.

قال: [ وإنما هي أن الصيد فيه لهو ولعب ] وإلى الآن الناس يخرجون للصيد للهو، وليس للحاجة إلى اللحم، ولكن ليلهوا أياماً في الصحراء. فالعلة ليست هي الامتحان، وإنما هي لأن المحرم لا يحق له أن يلهو ولا يلعب بحال من الأحوال [ والمحرم متلبس بعبادة الحج أو العمرة، فلا يصح منه لهو ولا لعب بحال من الأحوال؛ إذ هو كالمصلي في صلاته، فلا يتكلم ولا يضحك ولا يأكل ولا يشرب إلى غير ذلك مما هو مبطل للصلاة ] لأنه في عبادة [ فالمحرم شبيه بالمصلي، فبمجرد ما يقول: لبيك اللهم ] لبيك [ بعمرة أو حج فقد دخل في أعظم نسك، وأكمل شعيرة من شعائر الله، فلا ينبغي له أن يغفل عنها أو ينساها ] فقد أصبح كالمصلي، ولكنه مأذون له أن يتكلم لكن بغير الباطل، ومأذون له أن يأكل إذا جاع، ومأذون له أن يشرب إذا عطش، وأما أن يغني ويلهو ويلعب فهذا والله لا يصلح، وكذلك ظفره لا يقلمه، ولا يقص شعرة من رأسه؛ لأنه متلبس بالعبادة، فلا يصيد ويجري وراء الصيد [ فحرم لذلك تعالى الصيد، وخص الصيد، وإلا فكل لهو ولعب باطل محرم على المحرم، وإنما خص الصيد بالذكر لأن المحرم قد يكون في حاجة إلى طعام، فيمر به الصيد من ظبي أو أرنب أو غيرهما، فتدفعه نفسه لصيده فيصيده ] للحاجة. وقد كان هذا قبل السيارات كما قلت لكم، فالذي يأتي من الشرقية أو يأتي من اليمن أو يأتي من الشام يسافر على راحلته، وقد يبيت في الطريق عشرين .. ثلاثين .. أربعين يوماً، وهو في هذه الحالة يجوع، وقد يحتاج إلى الأكل، فيبحث بنفسه عن أرنب أو عن غزال، فلهذا حرم الله تعالى عليه الصيد، فلا يصيد؛ لأنه يلهو بذلك ويلعب. وأما اليوم فمعنا سيارات تحمل الطعام. فلو أذن الله تعالى لمن جاع مثلاً أو لمن احتاج لقال كل واحد: أنا جائع ومحتاج أيضاً، ولن تقوم هذه الشعيرة أبداً، ولكن منعنا منعاً كلياً، فإذا أحرمت ودخلت في العبادة فلا يحل لك أن تصيد، سواء جوعت أو شبعت.

قال: [ وعلى كل حال فقد حرم الصيد على المحرم في الحل ] كان [ أو ] في [ الحرم فلا يحل لمؤمن محرم أو مؤمنة محرمة أن يصيد بأي أداة من أدوات الصيد، سواء كانت رمحاً أو شركاً ] أو نبلاً [ أو غير ذلك ] أو رصاصاً الآن [ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] ] أي: والحال أنكم محرمون، وسواء كنتم في الحل من الأرض أو الحرم.

جزاء من قتل الصيد

قال: [ ثم بين تعالى جزاء من قتل الصيد ] أو رماه [ فمات بقتله ] وأما إذا لم يمت وهرب فلا شيء عليه، ولكن إذا وقع ميتاً؛ لأن الغالب أنه صاده ليأكله، فبين جزاء من قتل الصيد [ فقال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95]، أي: قتله بصيده ] قاصداً يريده [ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، أي: فجزاؤه يتصدق بحيوان يماثل ما قتله إن كان له مثل من الحيوان الإنسي ] وقد يوجد حيوان ليس له مثل [ فمن صاد نعامة كفر ببدنة من الإبل ] لأن النعامة كبيرة، فيكفر عن ذنبه بأن يتصدق ببعير .. بجمل .. بناقة .. ببدنة [ ومن صاد بقرة من الوحش كفر ببقرة ] من بقر الإنس [ ومن صاد غزالاً تصدق بعنز ] أي: شاة [ وهكذا، وما كان لا مثل له من الحيوان الإنسي فليتصدق بقيمته ] فمن صاد حيواناً وكان هذا الحيوان ليس له نظير عندنا لا في الغنم ولا في البقر ولا في الإبل فيتصدق بقيمته، فيُقوُم بألف ريال أو بمائة أو بعشرة، ويتصدق بقيمته.

جزاء قتل الصيد يحكم به اثنان من المؤمنين العدول

قال: [ غير أن هذا الحكم يجب أن يحكم به ذوا عدل من المؤمنين، فلا يترك للقائل وحده؛ إذ قد تحمله نفسه على عدم المماثلة وعلى نقص القيمة ] فإذا غرك الشيطان وصدقته ووقعت في فخه وصدت غزالاً أو أرنباً فإياك أن تقوم أنت بنفسك بتقويمها ودفع الجزاء، بل لابد وأن تحكم اثنين عدلين من المؤمنين، ولو ترك الأمر للناس لقال كل واحد: هذا يماثله عنز، وليس هناك حاجة إلى بعير مثلاً، فقطع الله عز وجل هذا الطريق بالمرة، فإذا صاد مؤمن صيداً وقتله ووجب عليه الفداء أو الكفارة فلابد وأن يحضر اثنين من المسلمين من أهل العدل؛ ليحكما [ إذ قال تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] ] أي: صاحبا عدل من المؤمنين. وأما الذي يعرف بالظلم أو ليس عدلاً فلا يحكم، ولا يحكم إلا ذو عدل [ والعدل ] عندنا [ هو المؤمن المجتنب ] والمتقي [ للكبائر ] الذي لم يعرف بكبيرة أبداً بين الناس [ والمتقي ] والمجتنب [ في الغالب الصغائر ] فذلك العدل بين المؤمنين. فاحفظوا هذا. فالعدل - يرحمكم الله- الذي يقبل القاضي شهادته: الذي لم يعرف بكبيرة، لا ربا ولا زنا، ولا قتل ولا كذب، ولا خداع ولا غش، ولا عقوق الوالدين، ويتقي في الغالب الصغائر ويتجنبها. فهذا إذا شهد تقبل شهادته، وإذا حكم يقبل حكمه. وأما الذي تلعب به الشياطين وتستهزئ به نفسه، ومرة يقول الباطل ومرة يفعل الحق فهذا لا ينفع، فلا يحكم. والذي فرض هذا الله. وهذا ما زال معمولاً به إلى الآن في المحكمة، فليس كل من يقول: أشهد يقبله القاضي، حتى يزكى أنه عدل، وأنه ما علم عليه كبيرة من كبائر الذنوب.

حكم المحرم الذي قتل الصيد مخطئاً أو ناسياً

قال: [ ولنذكر أن المخطئ هنا كالناسي، كلاهما تجب عليه الكفارة في قتل الصيد ] فالمخطئ الذي أراد أن يرمي مثلاً شيئاً غير الصيد فأصاب الصيد خطأً عليه كفارة، والناسي كذلك [ وعلى هذا الصحابة والأئمة الثلاثة ] أي: على أن الناسي هنا كالمتعمد؛ إذ ليس معقول هنا النسيان؛ إذ هو محرم يردد لبيك اللهم لبيك عشرين يوماً، فكيف ينسى ويصيد غزالاً؟! فرحم الله أئمة الإسلام. فالناسي هنا كالمتذكر، ودعوى النسيان لا تصح [ وخالفهم أبو حنيفة ] رحمه الله، وقال: إنه معفو عنه بالنصوص العامة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ). وقال الآخرون: لا، هذا لا ينسى، ولا يتصور منه النسيان، فرأسه مكشوف وهو محرم يلبي من كذا يوم في الصحراء، فمن غير الممكن أن ينسى ويأخذ رمحه أو بندقه ويصيد غزالاً، فهذا ليس بناسٍ، فإن قال: نسيت قلنا: لا نسيان هنا، فعليك الكفارة [ ولا التفاتة إلى ما رآه بعد أن قال بخلاف ما قال جل الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد رحمة الله عليهم أجمعين ] ولم تبق ثغرة لتقول: أنا حنفي نسيت فصدت، فلابد هنا من الكفارة.

مكان ذبح كفارة الصيد

قال: [ وقوله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] ] الهدي ما يهدى إلى الحرم من بعير أو بقرة أو غنم، والحرم لا يأكل الهدي، وإنما أهل الحرم وسكانه وحماته يأكلونه؛ لأن أرض ليس فيها زرع ولا تمر ولا عنب، وليس فيها إلا الماء واللحم فقط. فإذا قوم العدلان عليك هذا الذي قتلته ببقرة فيجب أن تسوق هذه البقرة إلى الحرم، أو تبعث بها إلى الحرم، ولا تذبح ولا تؤكل إلا هناك، وتكون حينئذ قد امتثلت قول الله تعالى: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] [ أي ما حكم به العدلان من مثل ما قتل المحرم، ينبغي أن يرسل إلى الحرم؛ ليذبح هناك، ويفرق لحمه على الفقراء والمساكين في الحرم لا خارجه ] وحدود الحرم المكي قد عرفتموها، والذي حددها هو جبريل عليه السلام وإبراهيم، فلا يبقى فيها مجالاً للكذب.

قال: [ إذ المراد من قوله تعالى بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] ] أي: واصل الكعبة [ أنه الحرم المحيط بالكعبة من جهاته الأربع المعروفة لدى المؤمنين ] لا أنه يصل إلى باب الكعبة، ويدخل البعير هناك أو البقرة، فالكلمة شيء وما تدل عليه شيء آخر. فقوله: بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] أي: واصلاً إلى الحرم الذي الكعبة فيه، فالكعبة في الحرم في وسطه، أي: بالغ الحرم الذي فيه الكعبة، وليس أنه يصل بالبعير ولا بالغنم إلى الكعبة [ ولا يجوز مع القدرة أن يذبح خارج الحرم؛ لقوله عز وجل: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95] ] لكن إذا عجز ولم يستطع فعند العجز يذبح حيث أمكن، لكن مع القدرة على أن يصل به أو يقوم أحد بإيصاله فلابد من إيصاله.

تخفيف الله على من لم يجد كفارة قتل الصيد أو قيمتها

قال: [ وقوله تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ [المائدة:95] ] هذه قراءة حفص [ فهذا تخفيف ورحمة من الله بعباده المؤمنين ] وهذه الرحمة هي أن من عجز عن شراء البعير أو البقرة أو التيس فهناك حل [ وذلك بأن يشتري بثمن ] وقيمة [ ما وجب عليه من بدنة أو بقرة أو تيس يشتري به طعاماً ] أو قمحاً أو شعيراً ويوزعه [ ويتصدق به حيث أمكنه ذلك ] فإذا حكم عليك العدلان بشراء عنز ولم تجد العنز فتسأل عن قيمة العنز فإن قالوا: بمائتين ريال فاشتر بها براً أو تمراً ووزعه على المساكين؛ حتى يمحى عتك ذلك الإثم الذي علق بنفسك؛ إذ اسمه كفارة، والكفارة ما يكفر به الذنب ويغطى، أو يمسح ويزال.

قال: [ وقوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95] وهذا تخفيف آخر ورحمة بالمؤمنين؛ فإن من قتل الصيد مأذون له أيضاً أن يصوم عن كل نصف صاع، أي: حفنتين ] لأن الصاع أربع حفنات [ براً أو تمراً أو شعيراً يوماً حتى يكمل الصيام بعدد ما وجب عليه من إطعام ] فالتخفيف الأول: إذا لم تجد البقرة لتذبحها فتصدق بقيمتها، والتخفيف الثاني: هو الصيام إن لم يكن عنده، مثل أن يجب عليه بعير وليس عنده بعير ولا قيمة البعير فيقوم ثمن البعير، فإذا كان يساوي ألف ريال ننظر كم تساوي الألف الريال من القمح أو الشعير، فيصوم عن كل نصف صاع - أي: مدين- يوماً.

فلو صاد جاهل منا أو ظالم غزالاً فقد وقع في الفخ، ثم بحثنا له عن عدلين يحكمان على جنايته في قتل الغزال، فحكما بعنز فنقول له: هيا اشتر العنز واذهب به إلى مكة، أو ابعث به مع من يصل به إلى الحرم؛ ليذبح هناك، فإن قال: لا أستطيع، فليس عندي عنزاً، أو لا أجد من يوصله إلى الحرم فالرخصة والتخفيف هي: أن يقوم ثمنه، فإذا قوم بمائتين ريال مثلاً يشتري بها طعاماً ويتصدق بالطعام، سواء تمراً أو براً أو شعيراً. هذا التخفيف.

وتخفيف آخر: إذا لم يكن عنده عنزاً ولا قيمته: فينظر ما قوم العنز به، ثم ينظر ما يساوي هذه القيمة من الطعام، فإن قوم بقنطار بر أو بوسق فيصوم عن كل حفنتين - أي: نصف صاع- يوماً، فإما أن يصوم شهراً أو شهرين أو غير ذلك بحسب كمية القمح أو الدقيق، فيصوم يوماً عن كل نصف صاع عن كل يوم. والذي قنن هذا القانون ليس أبو حنيفة ولا أبو بكر الصديق ، بل هذا تقنين الله تعالى وشرعه، ولا دخل للإنسان في هذا. سبحان الله العظيم!

وهناك من يقول: الشريعة الإسلامية ترجع بأصحابها إلى الوراء؛ لقصر مداها ولقلة قوانينها، وما ترك الله شيئاً في الحياة إلا بينه، حتى الصيد. لا إله إلا الله! ومع هذا خصوم الإسلام إلى الآن ينقدون ويطعنون، ويغسلون أدمغة التلاميذ الذين عندهم، ويقولون لهم: إنها شريعة جافة .. قاسية .. يابسة .. متخلفة، وأهلها كذا وكذا؛ حتى ينفرونهم من الإسلام. وهذه قضية من أبسط القضايا، وهي: أنه إذا كان المؤمن محرماً يذكر الله ويكبر ويصلي على النبي لا يجوز له أن يصيد ويلهو ويلعب، فهذا عبث بدين الله، فإذا غره الشيطان وصاد فلا يبقى في المحنة، بل يكفر ذنبه ويمحو أثره على نفسه، ويفزع إلى الله عز وجل، وليطلب اثنين من الصالحين يحكمان عليه، فإن حكما ببعير فاشتر بعيراً وابعثه إلى مكة، وإن لم تستطع أن تبعث به فاذبحه حيث أمكنك، فإن لم تقدر ولم تستطع أن تشتري البعير أو لم تجده فاشتر بقيمته طعاماً وتصدق به، فإن لم تجد الطعام أو لم تقدر على شرائه فصم عن كل حفنتين يوماً، والعدلان يقومان كمية البر أو التمر ويقولان: عليك الصيام خمسين يوماً، أو أربعين، أو ثلاثين.

والإطعام يكون حيث شاء، وأما الهدي ففي مكة؛ لقوله تعالى: بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95].

ويجوز عدم التتابع في الصيام، فالترتيب ما ذكر هنا، وإذا أطلق أطلق، فيجوز الصيام متقطعاً ومتتابعاً. والحمد لله فقد وضح هذا المعنى.

علة لزوم الكفارة على من قتل الصيد وهو محرم

قال: [ وقوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95] ] الذوق يكون في الحلوى [ أي: عقوبة مخالفته لشرعنا وما أمرنا به ونهينا عنه ] والقائل: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95] الله، وكلمة الذوق هذه فيها معنى التأديب، والذوق يكون في الطيب كالحلوى والمرق الجيد، وليس في العصا، ولكن هذا من باب التأديب المعنوي. والذين يسبون المؤمنون ويشتمونهم جزاءهم وحسابهم ليس معروفاً عندنا، بل هذا لله، وإذا كان من صاد صيداً وهو محرم يقول تعالى فيه: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [المائدة:95] فكيف بمن يرتكب كبائر الذنوب والآثام؟

حكم من صاد قبل نزول هذا النداء

قال: [ وقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [المائدة:95] ] أي: الذي مضى قبل نزول هذه الآية عفا الله عنه، ونحن الذين ما بلغنا هذا الخبر فمن الآن فقد علمنا، وعفا الله عما سلف [ فهو تفضل من الله تعالى بعفوه على من سبق أن صاد وقتل قبل نزول هذا الحكم ] لأن القرآن لم ينزل في يوم واحد، وهذه السورة مدنية، ويمكن أن تكون نزلت في السنة السابعة أو الثامنة أو قبلها من السنين، فالذين صادوا قبل نزول الآية طمأنهم الله وطيب خواطرهم بقوله: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ [المائدة:95]. والحمد لله.

حكم من تكرر منه قتل الصيد وهو محرم

قال: [ وقوله تعالى: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة:95] ] أي: ومن عاد فصاد مرة أخرى فينتقم الله منه، وانتقام الناس من بعضهم البعض معروف، ويكون بشر ما يكون، فكيف بانتقام الله إذا انتقم؟ ولا أحسب أن مؤمناً يبلغه هذا ويصيد أبداً؛ لهذه الجملة فقط: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة:95]. وهنا بعض أهل العلم قالوا: هذا يترك لله، فلا نطالبه بكفارة أبداً؛ لأنه لا تكفيه، ومنهم من قال: نحن نجري الحكم عليه، ونترك هذا لله.

قال: [ ففيه ] أي في قوله تعالى: وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة:95] [ تهديد ووعيد شديد، حتى رأى بعض أهل العلم من السلف أنه لا يجزئه الفداء ] ولو ذبح ألف بقرة ما يكفيه، ولا يجزئه الفداء مهما فدى نفسه؛ لأن هذا التهديد والوعيد عظيم، ويترك لله، ولا نطالبه بفدية أبداً؛ لأنه لا تنفعه [ والذي عليه الجمهور ] الثلاثة الأئمة وجل الصحابة وأكثر التابعين [ أنه كلما صاد وجبت عليه الفدية، ويترك أمره إلى الله تعالى ] إن شاء عفا وإن شاء آخذ. فنحن مسئولون عن الواقع، فكلما صاد نلزمه بالفدية، ونترك الجزاء لله عز وجل، ونحمي حرمات الشريعة. فإذا صاد مؤمن نصدر الحكم عليه ويدفع، والجزاء يترك إلى الله، هذا الذي علينا، ولا نعلمه أنه نجا الآن وبرئت ذمته لأنه كفَّر.

التحذير من معصية الله عز وجل

قال: [ وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95] ] العزيز الذي لا يمانع في شيء أراده أبداً، والغالب القاهر الذي لا يعجزه شيء، ولهذا تقول العرب: من عز بز، أي: من عز غلب وأخذ [ أي: يعاقب على معصيته، ولا يحول دون مراده حائل ] من الحوائل أبداً [ ألا ] أيها المستمعون والمستمعات! [ فلنتق الله تعالى، ولنحذر معصيته ] ولا نجاهر بها، ولا نتهاون بها، أو لا نعدها شيئاً [ سواء كانت صيداً محرماً أو غير ذلك من سائر المعاصي والذنوب ] فالله يهدد أصحابها بهذا التهديد: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [المائدة:95]. فكيف إذاً بالذي يرتكب كبائر الذنوب ويغشى الآثام، ولا ترتعد فرائصه، ولا يوجل قلبه [ اللهم احفظنا وقنا شر نفوسنا حتى لا نعصيك ] فأنت ربنا ونحن عبيدك [ وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ].

معاشر المستمعين هذا النداء الأربعون مضمونه ومحتواه والحكم التي يحملها لنا حرمة الصيد على المحرم، أي: أنه لا يجوز الصيد للمحرم. والمحرم هو الذي دخل في الإحرام بكلمة: لبيك اللهم لبيك، فيحرم عليه الصيد في الحرم وفي الحل، فلو أحرم من أبيار علي أو على مسافة عشرة أيام من مكة فبمجرد أن يقول: لبيك اللهم لبيك ويدخل في الإحرام لا يحل له أن يصيد، لا خارج الحرم ولا داخله، فالله يقول في الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]. فلنحفظ هذه.

ومن ركب رأسه وغطاه الشيطان وغمسه في هذا الوباء وصاد فهذا عليه جزاء، وهذا الجزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]. النعم هي الإبل والبقر والغنم، وتسمى الأنعام. فإن صاد نعامة أيام كان النعم متوفراً ثم قال: أنا صدت نعامة وأريد أن أتصدق ببقرة أو كبش لم يجز، بل لا بد من محكمة تنصب هناك، والذي يقوم على المحكمة ذوا عدل، أي: رجلان بالغان عدلان، أنت منهم.

ومن جاء بسيارته فصدم بعيراً فهذا ليس صيداً، ونقول له: ادفع قيمة البعير لصاحبه.

وصلى الله على نبينا محمد.