خطب ومحاضرات
إن خير دينكم أيسره
الحلقة مفرغة
الحمد لله مصرف الأوقات، وميسر الأقوات، فاطر الأرض والسماوات، أحمده سبحانه وأشكره؛ والى علينا نعمه وإحسانه، فهو أهل الفضل والمكرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلقنا لعبادته، ويسر لنا سبل الطاعات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، جاء بالحنيفية السمحة ويسير التشريعات، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد أفضل المخلوقات، وأكرم البريات، وعلى آله السادات، وأصحابه ذوي المقامات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعــد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واحذروا الغفلة؛ فإن الموت على جميع الخلائق قد كتب، والحساب عليهم قد وجب .. تشيعون الأموات وتودعونهم قبورهم، وتأكلون تراثهم وكأنكم مخلدون بعدهم .. خذوا بالمواعظ، وتيقظوا للحوادث .. إن بعد العز ذلاً، وبعد الحياة موتاً، وبعد الدنيا أخرى، وإن لكل شيءٍ حساباً، ولكل أجلٍ كتاباً، ولكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً .. فاستعدوا لملمات الممات، واستدركوا هفوات الفوات .. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
أيها المسلمون: شريعة الإسلام خاتمة الشرائع، أنزلها الله للناس كافة في مشارق أرض الله ومغاربها، للذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والعالم والجاهل، والصحيح والمريض، ومن أجل هذا جاءت بفضل الله ولطفه وحكمته ميسوراً فهمها، سهلاً العمل بها، تسع الناس أجمعين، ويطيقها كل المكلفين.
دين الإسلام رخصة بعد عزيمة، ولين من غير شدة، ويسرٌ من غير عسر، ورفعٌ للحرج عن الأمة .. والتيسير مقصد من مقاصد هذا الدين، وصفة عامة للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها؛ فربنا بمنه وكرمه لم يكلف عباده بالمشاق، ولم يردعنا كالناس، بل أنزل دينه على قصد الرفق والتيسير.
شريعة الله حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، فلله الحمد والمنة .. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28]، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ [الحج:78].
أحكام الشرع تطبع في نفس المسلم السماحة والبعد عن التكلف والمشقة، والتعلق الوثيق برحمة الله وعفوه وصفحه وغفرانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7].
واليسر يا عباد الله: كل عملٍ لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، والعسر: كل ما أجهد النفس وأضر بالجسم.
جاء في الحديث الصحيح: (إن هذا الدين متين؛ فأوغلوا فيه برفق ) وعن محجن بن الأذرع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره ) وفي لفظٍ: (إنكم أمة أريد بكم اليسر ) رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيح.
أيها المسلمون: وهذا شيء من بيان معالم اليسر ومظاهر التيسير، تتجلى في كتاب ربنا وفي شخص نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفي أصول الدين وفروعه.
اليسر في كتاب الله
الرسول صلى الله عليه وسلم والتيسير
اليسر في العقائد
والدلائل على ذلك ظاهرة من النظر في السماوات وفي الأرض وسائر المخلوقات، والسير في الأرض والاعتبار بآثار الأمم، ويأتي ذلك مسلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من السلف التابعين لهم لم يكونوا أهل تكلف ولا كثرة سؤال أو اختلاف، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[إياكم والتنطع، إياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق ]] أي: الأمر القديم الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو يسر، والبعد عن التنطع والتكلف والتشدد والتعمق.
اليسر في الأحكام الشرعية
ويجمع بين الصلاتين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء عند الحاجة، والمسافر يقصر الرباعية إلى ركعتين، وذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ تكثر من النوافل، فقال عليه الصلاة والسلام: {مه!! عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا } وقال صلى الله عليه وسلم: { من أم بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والمريض وذا الحاجة }.
والصيام مطلوب من الصحيح المقيم، وقد رخص فيه الإفطار من المسافر والمريض .. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] ولا زكاة ولا حج ولا جهاد إلا على القادر المستطيع: { والحج يوم تحجون، والأضحى يوم تضحون، والفطر يوم تفطرون }.
والمرأة لها أحكام تناسبها وتراعي أحوالها، والقلم مرفوع عن المجنون والصبي والنائم، ورفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
والأصل في الأشياء الحل والطهارة، والمشقة تجلب التيسير: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173].
والسيئة بمثلها أو يغفرها الله، والحسنة بعشر أمثالها ويضاعفها الله.
والمقصود من العبادات والطاعات استقامة النفس، والمحافظة عليها من الانحراف والاعوجاج، وليس المقصود الاستقصاء ولا الإحصاء، ولكن { سددوا وقاربوا واستقيموا ولن تحصوا }.. { وائتوا من الأعمال ما تطيقون }.
والاستقامة تحصل بمقدار سهل ينبه النفس فتتلذذ بالعبادة، وإذا دخل العبد في المشقة والملل فقد لذة العبادة، وابتعد عن بواعث الخشوع، بل لقد شرع لنا ديننا من الطاعات ما تقبل عليه النفوس بطبعها، بل مما تنشرح به صدورها وتتباهى به، من العيدين والجمعة وأخذ الزينة والتجمل باللباس والطيب في النفوس والمساجد، والاغتسال، والتغني بالقرآن، وحسن الصوت بالأذان، قال الله: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:31-32].
تحري الرفق في الأمر كله
عليكم بالتيسير في التربية والتعليم والدعوة إلى الله والرفق بالطلاب والمدعوين، ولقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف:66] لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [الكهف:73] خذوا الناس باليسير من الأمر .. لا تجشموهم المصاعب، ولا تكلفوهم عسراً: {بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا }، و{ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه }.
أخرج الترمذي بإسنادٍ حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {حرم على النار كل هينٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناس }.
وعلى أهل العلم -وفقهم الله- ملاحظة التيسير في الفتوى، ومراعاة أحوال المستفتين، وإبعادهم عن مواقف الحرج، مع ما يلزم من تحري الحق والصواب .. يقول سفيان الثوري رحمه الله: إنما العلم الرخصة عن ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد.
ويقول إبراهيم النخعي رحمه الله: إذا تخالجك أمران، فإن أحبهما إلى الله أيسرهما.
ويقول الشعبي رحمه الله: إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الله، يقول سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].
ومن رقى المنابر، وتبوأ صدور المجالس، فحسنٌ منه أن يقول برفق، ويعظ بلين، وأن يعين الموعوظين على حسن الظن بربهم، فخير دينكم أيسره، وحين بال الأعرابي في المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: {لا تزرموه -أي لا تقطعوا عليه بوله- إنما بعثتم ميسرين } حكمة في الدعوة، وسلامة في الحجة، وإخلاص في النصيحة، وإحسان في الموعظة.
اليسر في المعاملات والتعاملات
يسروا -وفقكم الله- على العمال والأجراء والموظفين والخدم، فلا تكلفوهم ما لا يطيقون، وإذا كلفتموهم فأعينوهم.
وعلى الولاة والأمراء والآباء والأمهات والأزواج وكل ذي مسئولية أن يرفق بمن تحت يده، ولا يأخذ إلا بحق، وليعف وليصفح .. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]؟
ادفعوا بالحسنى، وإذا أردت أن تطاع فاؤمر بما يستطاع، ولا تنفر ولا تشدد .. وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمران:159].
فاحملوا الزلات، واقبلوا الأعذار، وأعيدوا النظر، واحملوا الناس على السلامة.
ألا فسددوا -رحمكم الله- وقاربوا وأبشروا: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه.. إنه هو الغفور الرحيم.
أما الكتاب العزيز فقد أنزله الله ميسر التلاوة، وميسر الفهم، وميسر التدبر والذكر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً [مريم:97] فكتاب الله ميسر الفهم، تدركه العقول، وترق له القلوب، يلذ استماعه ولا يمل سماعه، وإن كان فيه من الأسرار ودقائق العلوم ما يختص به الراسخون من أهل الذكر.
استمع المزيد من الشيخ صالح بن حميد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
حق الطريق وآداب المرور | 3701 استماع |
وسائل الإعلام والاتصال بين النقد الهادف والنقد الهادم | 3092 استماع |
اللغة .. عنوان سيادة الأمة | 3073 استماع |
الطلاق وآثاره | 3020 استماع |
لعلكم تتقون | 3005 استماع |
الماء سر الحياة | 2961 استماع |
من أسس العمل الصالح | 2937 استماع |
الزموا سفينة النجاة | 2886 استماع |
قضية البوسنة والهرسك.. المشكلة والحل | 2875 استماع |
بين السلام وإباء الضيم | 2855 استماع |