Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

جهاد الحجة والبيان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فالحمد لله الذي جمعنا في هذا البيت من بيوته، ونسأله عز وجل أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن نكون إخواناً على سرر متقابلين، وفي الغرفات من الآمنين.

حديثنا عن العقيدة؛ هذه العقيدة التي أنزل الله بها كتابه وعلمنا إياها نبيه صلى الله عليه وسلم، هذه العقيدة التي تصوغ شخصية المسلم لتجعله خلقاً آخر، فقد كان يرجو ويرهب الدنيا، وأهل الدنيا وأصبح لا يرجو إلا الله ولا يخاف إلا الله.

إنها عقيدةٌ أيها الإخوة تجعل الإنسان يستمد من أسماء ربه وصفاته ما يتعامل به مع سائر الناس من حوله، فهو يطلب المغفرة من الله إذا أذنب، لأنه يعلم أن ربه غفورٌ رحيم تواب، وهو يطلب العفو من الله، لأنه عفوٌ كريم يتجاوز، وهذا من شأن الكريم، والمؤمن كذلك بعقيدته يسأل الله الرزق ولا يسأله غير الله: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17] فهو الذي يرزق، فلا يخشى هذا المسلم أن يقطع رزقه أحد، وهؤلاء الناس أسباب قد يأتي الرزق عن طريقهم، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فالذي ينفع هو الله، ولئن اجتمع الإنس والجن على أن يضروا إنساناً لم يكتب الله الضرر عليه ما استطاعوا.

فهذه العقيدة تصوغ شخصية المسلم، تجعله سلماً لأولياء الله، حرباً على أعداء الله، موالياً لأولياء الله، معادياً لأعداء الله، وهكذا تتميز فيه هذه العقيدة بمظهر الولاء والبراء من خلال هذا الكتاب العزيز وهذه السنة النبوية.

أيها الإخوة: هذه العقيدة التي تشتمل على العلاقة بالله والإيمان به: بربوبيته، بألوهيته، بأسمائه وصفاته، بقضائه وقدره، بأنبيائه وكتبه ورسله وباليوم الآخر الذي يحاسبنا فيه، هذه العقيدة المشتملة على أبواب الإيمان: قولٌ وعمل، وعلى الموقف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى غير ذلك من أمور؛ تحتاج إلى صيانة، وتحتاج إلى حفاظ عليها.

فمن أنواع الجهاد المهم جهاد الحجة والبيان، نكافح فيه عن عقيدتنا التي تتعرض لأخطار من قبل المشركين ومن قبل المبتدعين ومن قبل الغلاة ومن قبل المرجئة .

واليوم هناك أعداء كثر ومنحرفون ومبتدعة يشنون الغارات على العقيدة، ويشككون الناس فيها، ويدعون الناس إلى عقيدة غير العقيدة الصحيحة، ويهاجمون العقيدة الصحيحة، ويهاجمون الناس حتى في مصادر التلقي، ويجعلون لهم مصادر تلقٍّ غير المصادر الشرعية، غير الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويريدون أن ينسفوا ثوابت هذه العقيدة، وأن يجعلوا مكانها أسساً مبتدعة من عندهم.

العقيدة تتعرض لأخطار كثيرة، وواجبنا هو الدفاع والمنابذة والجهاد بالحجة والبيان، كما أن الجهاد يكون بالسيف والسنان أيضاً.

العلماء هم حراس العقيدة

فحماية هذه العقيدة من العاديات؛ وكف العدوان والمعتدين من أعظم وأخطر مهمات أهل العلم والإيمان وأشرفها، ولهم في ذلك القدح المعلى والحظ الأوفى، وسيرهم مملوءة بالعبر التي كثرت فيها مصارع أهل البدعة والزندقة والكفر على أيديهم، أي: أيدي أهل العقيدة وعلمائها، حتى حصحص الحق وزهق الباطل، فلا أقوى من سلطان الحجة، ولا أسطع من نور الدليل والبرهان، وهذا من أعظم ما يمتاز به دين الله الحق، إذ هو حجة وبينة ودليل وآية وبرهان ونور وشفاء لما في الصدور، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة، لأن السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً ودامغٌ لقول مخالفينا ومزهقٌ لهم أبداً، وربَّ قوةٍ باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته، وقد قتل أنبياء كثر وما غلبت حجتهم قط.

قال أحد الخلفاء وعنده السيف والسلطان: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء.

ولذلك لو قيل: المسلمون اليوم في هزائم، لقلنا: نعم، لكن أهل التوحيد منهم في علو شأن بالحجة، لا يمكن أن يهزم الموحد المسلم صاحب العقيدة الصحيحة أحد، بل إن العامي من الموحدين يمكن أن يهزم ألفاً من علماء المشركين.

قال لنا أحد الأفاضل: إن طفلاً سمع آية من كتاب الله تتلى عن اليهود: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] والطفل عمره خمس سنوات، فلما سمع الآية قال: فمن أغناهم؟!

واليهود يقولون: ( يد الله مغلولة ) ويقول أحدهم وهو عوفادا يوسف الحاخام الأكبر لليهود الآن: إن الله ندم على خلق الفلسطينيين، يسبون الله والرب، يسبون الإله عز وجل.

لكن لا يمكن أن يأتي منهم أو من أهل العقائد الزائفة المنحرفة وأهل البدع ويغلب موحداً صاحب عقيدة صحيحة، فالغلبة دائماً لـأهل السنة بالحجة والبيان، دائماً على مر العصور وتوالي الدهور الغلبة لـأهل السنة.

لقد قام أهل السنة بالصدع بالحق والرد على أهل البدعة من قديم، وأهل الباطل من كفار قريش قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، وجلسوا يجادلون في قضية المشيئة، فغلبتهم حجة أهل الإيمان، وعبد الله بن سبأ وأذنابه من اليهود الذين جاءوا بعقائد البداء والإمامة والرجعة وغير ذلك والقدرية والجبرية والمعطلة والمشبهة والجهمية أصولهم ترجع إلى اليهود فهم الذين أثاروا الفتن بين المسلمين، وهؤلاء النصارى يثيرون الشبه، وبعضهم وضع كتباً بعنوان: كيف تناقش مسلماً ، والاختلاط بالأمم الأعجمية سبب إثارة شبهات، وشيوع العجمة كذلك سبب أشياء كثيرة، وكذلك ظهور علم الكلام والفلسفة من خزائن من الكتب التي كانت عند الكفار؛ فكتب المأمون إليهم لما وجد الترف، وقال: أرسلوا لنا ما عندكم من الخزائن، فامتنع ملك الكفار عن إرسالها في البداية حتى قال له واحد عنده: يا أيها الملك إن أجدادنا وقعت بينهم مقتلة عظيمة بسبب هذه الكتب ثم دفنوها وحفظوها في الخزائن، وأقفلوا عليها بالمفاتيح، فإذا أردت أن تثير على هؤلاء المسلمين شراً وتنتقم منهم فأرسل لهم خزائن كتب علم الكلام والفلسفة.

ثم قام المأمون بحركة ترجمة واسعة لهذه الكتب، وكان يعطي على الكتاب وزنه ذهباً، وانتشرت جدليات وبدع جديدة.

تصوروا أن نصير الشرك الطوسي الذي يسمى: بـنصير الدين الطوسي -وهو بريء من اسمه واسمه منه بريء- بنى داراً تسمى دار الحكمة تدرس فيها الفلسفة وعلم الكلام؛ التي يجيد أهلها الشبهات والشكوك، وجعل للطالب في هذه المدرسة ثلاثة دراهم في اليوم، بينما صرف لأهل الحديث لكل محدث -لا كل طالب- نصف درهم.

عُربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ودخل على المسلمين بسببها شرٌ كبير؛ ظهرت الفرق، وظهرت البدع في أوائل هذه الأمة، الشيطان يثير وساوس وشبهاً، كل ذلك كان مدعاةً لظهور مواجهات وفتح جبهات على المسلمين قاموا بالتصدي لها.

عصر الشيخين وخلوه من البدع

في عهد الصديق والفاروق ما كان أحد يتجرأ أن يتلفظ ببدعة، لأن اليد الحديدية كانت تضربه وتقمعه، كذلك كان عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه أن صبيغ بن عسل يجلس في المجالس ويثير الشبهات ويسأل عن متشابه القرآن، والقرآن فيه آيات قد تخفى معانيها على العامة؛ فهناك آيات تتحدث أن الكفار يوم القيامة لا ينطقون، وهناك آيات تدل أنهم يتكلمون، فيأتي يقول: هذه تقول كذا وهذه تقول كذا فكيف؟! وما هي النازعات؟ وما هي العاديات؟ ويوم القيامة يوم طويل فهو خمسون ألف سنة، في وقت يتكلم فيه الكفار، ووقت يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وهكذا تنزل مثل هذه الآيات على حالٍ دون حال.

أول ما سمع عمر رضي الله عنه بهذا الرجل، استدعاه وقد أعد له عمر عراجين النخل، قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ ، قال: وأنا عبد الله عمر ، ثم أخذ العراجين، وأخذ يضرب بها على رأس صبيغ ضرباً متوالياً شديداً مبرحاً حتى سال الدم على وجهه ورأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فوالله لقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي؛ كل الشبهات تبخرت مع هذه العقوبة وهذا الضرب، ولم يكتف بذلك بل نفاه ومنع المسلمين أن يكلموه في المنفى حتى مرض الرجل نفسياً وتأزم، وكتب إلى عمر خطاب استرحام فأذن عمر للناس أن يكلموه ويكلمهم، من كان إذاً يتجرأ أن يرفع رأسه ببدعة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه؟

ولما دخل الضعف على المسلمين بدأت بدع القدرية وبدع الخوارج ، هذه العوامل أدت إلى ظهور مناقشات ومناظرات، وقام أهل الحق يردون على أهل الباطل، وألفت الكتب وعقدت المجالس، فنريد أن نعرف كيف ندافع عن عقيدتنا، خصوصاً الآن، إذ يوجد -كما قلت لكم- أناس يريدون اللعب بثوابت الأمة ومصادر تلقي الأمة، يريدوننا أن نتحاكم إلى العقل ونترك النص، والنص إذا لم يجئ على مزاجهم نسفوه، ولو كان في صحيح البخاري ، ويقومون بليِّ أعناق النصوص لتوافق ما عند الغربيين، ويضعفون أشياء صحيحة، ويصححون أشياء ضعيفة، وربما لم يأخذوا بالحديث أصلاً، وهكذا قام من يشكك بأحكام ثابتة في الشرع كالربا والحجاب وتعدد الزوجات، ويثيرون الشبهات على المسلمين، نريد أن نعرف كيف ندافع، فما هو وضع المنهج؟ وما هي الأصول؟ ما هي الآداب في المناظرة؟ وما هي الأحوال التي يمكن أن تقع فيها؟ ما هي طرق المناظرة؟

فالجهاد بالحجة والبيان قضية في غاية الأهمية، خصوصاً في هذا العصر الذي كثر فيه الرماة على العقيدة والدين وعلى المسلمين، مقالات تكتب، وأشياء تقال في الهواء والفضائيات، وأمور تثير الشبهات، ونحن لا يصح أن نسكت إطلاقاً، بل يجب أن نقوم لله بالواجب، وأن نرد، وأن نعرف كيف نرد، وأن نكون أصحاب علم وحجة وبيان وبلاغة، ويتكلم منا القادر بعلمه وبيانه، فيسكت أهل الباطل ويقمعهم، وسنعرف أمثلة كثيرة لهذا إن شاء الله من خلال هذا الدرس.

فحماية هذه العقيدة من العاديات؛ وكف العدوان والمعتدين من أعظم وأخطر مهمات أهل العلم والإيمان وأشرفها، ولهم في ذلك القدح المعلى والحظ الأوفى، وسيرهم مملوءة بالعبر التي كثرت فيها مصارع أهل البدعة والزندقة والكفر على أيديهم، أي: أيدي أهل العقيدة وعلمائها، حتى حصحص الحق وزهق الباطل، فلا أقوى من سلطان الحجة، ولا أسطع من نور الدليل والبرهان، وهذا من أعظم ما يمتاز به دين الله الحق، إذ هو حجة وبينة ودليل وآية وبرهان ونور وشفاء لما في الصدور، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة، لأن السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً ودامغٌ لقول مخالفينا ومزهقٌ لهم أبداً، وربَّ قوةٍ باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته، وقد قتل أنبياء كثر وما غلبت حجتهم قط.

قال أحد الخلفاء وعنده السيف والسلطان: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء.

ولذلك لو قيل: المسلمون اليوم في هزائم، لقلنا: نعم، لكن أهل التوحيد منهم في علو شأن بالحجة، لا يمكن أن يهزم الموحد المسلم صاحب العقيدة الصحيحة أحد، بل إن العامي من الموحدين يمكن أن يهزم ألفاً من علماء المشركين.

قال لنا أحد الأفاضل: إن طفلاً سمع آية من كتاب الله تتلى عن اليهود: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] والطفل عمره خمس سنوات، فلما سمع الآية قال: فمن أغناهم؟!

واليهود يقولون: ( يد الله مغلولة ) ويقول أحدهم وهو عوفادا يوسف الحاخام الأكبر لليهود الآن: إن الله ندم على خلق الفلسطينيين، يسبون الله والرب، يسبون الإله عز وجل.

لكن لا يمكن أن يأتي منهم أو من أهل العقائد الزائفة المنحرفة وأهل البدع ويغلب موحداً صاحب عقيدة صحيحة، فالغلبة دائماً لـأهل السنة بالحجة والبيان، دائماً على مر العصور وتوالي الدهور الغلبة لـأهل السنة.

لقد قام أهل السنة بالصدع بالحق والرد على أهل البدعة من قديم، وأهل الباطل من كفار قريش قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، وجلسوا يجادلون في قضية المشيئة، فغلبتهم حجة أهل الإيمان، وعبد الله بن سبأ وأذنابه من اليهود الذين جاءوا بعقائد البداء والإمامة والرجعة وغير ذلك والقدرية والجبرية والمعطلة والمشبهة والجهمية أصولهم ترجع إلى اليهود فهم الذين أثاروا الفتن بين المسلمين، وهؤلاء النصارى يثيرون الشبه، وبعضهم وضع كتباً بعنوان: كيف تناقش مسلماً ، والاختلاط بالأمم الأعجمية سبب إثارة شبهات، وشيوع العجمة كذلك سبب أشياء كثيرة، وكذلك ظهور علم الكلام والفلسفة من خزائن من الكتب التي كانت عند الكفار؛ فكتب المأمون إليهم لما وجد الترف، وقال: أرسلوا لنا ما عندكم من الخزائن، فامتنع ملك الكفار عن إرسالها في البداية حتى قال له واحد عنده: يا أيها الملك إن أجدادنا وقعت بينهم مقتلة عظيمة بسبب هذه الكتب ثم دفنوها وحفظوها في الخزائن، وأقفلوا عليها بالمفاتيح، فإذا أردت أن تثير على هؤلاء المسلمين شراً وتنتقم منهم فأرسل لهم خزائن كتب علم الكلام والفلسفة.

ثم قام المأمون بحركة ترجمة واسعة لهذه الكتب، وكان يعطي على الكتاب وزنه ذهباً، وانتشرت جدليات وبدع جديدة.

تصوروا أن نصير الشرك الطوسي الذي يسمى: بـنصير الدين الطوسي -وهو بريء من اسمه واسمه منه بريء- بنى داراً تسمى دار الحكمة تدرس فيها الفلسفة وعلم الكلام؛ التي يجيد أهلها الشبهات والشكوك، وجعل للطالب في هذه المدرسة ثلاثة دراهم في اليوم، بينما صرف لأهل الحديث لكل محدث -لا كل طالب- نصف درهم.

عُربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ودخل على المسلمين بسببها شرٌ كبير؛ ظهرت الفرق، وظهرت البدع في أوائل هذه الأمة، الشيطان يثير وساوس وشبهاً، كل ذلك كان مدعاةً لظهور مواجهات وفتح جبهات على المسلمين قاموا بالتصدي لها.

في عهد الصديق والفاروق ما كان أحد يتجرأ أن يتلفظ ببدعة، لأن اليد الحديدية كانت تضربه وتقمعه، كذلك كان عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه أن صبيغ بن عسل يجلس في المجالس ويثير الشبهات ويسأل عن متشابه القرآن، والقرآن فيه آيات قد تخفى معانيها على العامة؛ فهناك آيات تتحدث أن الكفار يوم القيامة لا ينطقون، وهناك آيات تدل أنهم يتكلمون، فيأتي يقول: هذه تقول كذا وهذه تقول كذا فكيف؟! وما هي النازعات؟ وما هي العاديات؟ ويوم القيامة يوم طويل فهو خمسون ألف سنة، في وقت يتكلم فيه الكفار، ووقت يختم على أفواههم فلا يتكلمون، وهكذا تنزل مثل هذه الآيات على حالٍ دون حال.

أول ما سمع عمر رضي الله عنه بهذا الرجل، استدعاه وقد أعد له عمر عراجين النخل، قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ ، قال: وأنا عبد الله عمر ، ثم أخذ العراجين، وأخذ يضرب بها على رأس صبيغ ضرباً متوالياً شديداً مبرحاً حتى سال الدم على وجهه ورأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فوالله لقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي؛ كل الشبهات تبخرت مع هذه العقوبة وهذا الضرب، ولم يكتف بذلك بل نفاه ومنع المسلمين أن يكلموه في المنفى حتى مرض الرجل نفسياً وتأزم، وكتب إلى عمر خطاب استرحام فأذن عمر للناس أن يكلموه ويكلمهم، من كان إذاً يتجرأ أن يرفع رأسه ببدعة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه؟

ولما دخل الضعف على المسلمين بدأت بدع القدرية وبدع الخوارج ، هذه العوامل أدت إلى ظهور مناقشات ومناظرات، وقام أهل الحق يردون على أهل الباطل، وألفت الكتب وعقدت المجالس، فنريد أن نعرف كيف ندافع عن عقيدتنا، خصوصاً الآن، إذ يوجد -كما قلت لكم- أناس يريدون اللعب بثوابت الأمة ومصادر تلقي الأمة، يريدوننا أن نتحاكم إلى العقل ونترك النص، والنص إذا لم يجئ على مزاجهم نسفوه، ولو كان في صحيح البخاري ، ويقومون بليِّ أعناق النصوص لتوافق ما عند الغربيين، ويضعفون أشياء صحيحة، ويصححون أشياء ضعيفة، وربما لم يأخذوا بالحديث أصلاً، وهكذا قام من يشكك بأحكام ثابتة في الشرع كالربا والحجاب وتعدد الزوجات، ويثيرون الشبهات على المسلمين، نريد أن نعرف كيف ندافع، فما هو وضع المنهج؟ وما هي الأصول؟ ما هي الآداب في المناظرة؟ وما هي الأحوال التي يمكن أن تقع فيها؟ ما هي طرق المناظرة؟

فالجهاد بالحجة والبيان قضية في غاية الأهمية، خصوصاً في هذا العصر الذي كثر فيه الرماة على العقيدة والدين وعلى المسلمين، مقالات تكتب، وأشياء تقال في الهواء والفضائيات، وأمور تثير الشبهات، ونحن لا يصح أن نسكت إطلاقاً، بل يجب أن نقوم لله بالواجب، وأن نرد، وأن نعرف كيف نرد، وأن نكون أصحاب علم وحجة وبيان وبلاغة، ويتكلم منا القادر بعلمه وبيانه، فيسكت أهل الباطل ويقمعهم، وسنعرف أمثلة كثيرة لهذا إن شاء الله من خلال هذا الدرس.

ذكرت مسألة المجادلة والمناظرة في قول الله سبحانه وتعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] يوجد جهاد لكن بالتي هي أحسن، قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] الرسل من وظيفتهم محاجة الكفار، قال تعالى: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود:32] قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258].

وهكذا قام الأنبياء بواجب المجادلة بالحسنى والدفاع عن العقيدة، هذا إبراهيم يدافع عن عقيدته في الله وأنه يحيي ويميت، ويرغم أنف النمرود ويسكته، وينتقل من موضوع إلى موضوع إفحاماً له.

نقاش منكري البعث

الله عز وجل علمنا في القرآن كيف نناقش، وضرب لنا أمثلة في نقاش منكري البعث فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً [يس:77-78] أخذ عظمة ففتتها، وقال: أيستطيع ربك أن يحيي هذا؟

وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] لما خلقناه من العدم، ما هو الأصعب: الخلق من العدم أو الإحياء بعد الموت؟

الخلق من العدم هو الأصعب، ولكن الله عز وجل لا يصعب عليه هذا ولا هذا، وإذا كان قادراً على الإيجاد من العدم، فهو من باب أولى -عز وجل- يحيى العظام وهي رميم، قال تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79].

وضرب مثلاً آخر في نقاش منكري البعث فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:80-83].

ادعاءات اليهود والنصارى حول ديانة إبراهيم والرد عليهم

وذكر لنا نقاشات لأهل الكتاب كان اليهود يقولون: إبراهيم يهودي، وكانت النصارى تقول: إبراهيم نصراني، فقال الله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:65] ولما كل فريق يدعيه لنفسه، انظر الحجة الدامغة: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65] فما كان هناك يهودية ويهود وتوراة إلا بعد إبراهيم، والإنجيل كذلك بعد إبراهيم.

انظر الحجة بالتاريخ، جادلهم بالتاريخ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ كيف تدَّعون أن إبراهيم لكم؟ كيف يصير إبراهيم يهودياً أو نصرانياً والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده؟ واليهودية والنصرانية ما ظهرت إلا من بعده؟!! مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:67-68].

تقول المشركين حول مصدرية القرآن والرد عليهم

لما قال المشركون بـمكة : لقد عرفنا من أين أتى محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، إنما يعلمه بشر، رأيناه يذهب إلى نجار رومي بـمكة ، فهذا النصراني هو الذي يعلمه ويلقنه، فالله دمغهم بالحجة وقال في كتابه: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] النجار النصراني الرومي الذي لا يحسن العربية يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم قرآناً عربياً فصيحاً بليغاً في منتهى البلاغة؟! كيف؟! فدمغهم بالحجة.

الرد على الذين حرموا ما رزقهم الله من الأنعام

وكذلك فإنه سبحانه وتعالى أخبر مثلاً في مناقشة المشركين الذين ابتدعوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، أول مولود للناقة لا نأكله ولا نذبحه ولا نشرب من لبنه ولا نركب ظهره ولا نستعمله، فهو محرم، قال وهو سبحانه وتعالى يدمغهم بالحجة: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143] نحن نعرف أن الضأن اثنان والماعز اثنان، والبقر اثنان والإبل اثنان، كل واحد من الأصناف الأربعة فيه ذكر وأنثى، فيكون المجموع من الأزواج ثمانية سبحان الله! انظروا إلى الحجة البالغة، فلله الحجة البالغة، وهذا ليس كلام بشر يناقش المشركين، هذا كلام الله، كيف يقيم ربنا سبحانه وتعالى الحجة على المشركين؟

لما حرموا هذه الأشياء على غير دليل ولا برهان، قال: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ [الأنعام:143-144] هذا الاحتمال الثالث: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144].

هذه طريقة السبر والتقسيم كما يسميها العلماء، فالله عز وجل خلق من كل زوجٍ ذكراً وأنثى، فلم حرمتم يا أيها العرب ويا كفار الجاهلية هذا المولود المعين؟! لماذا حرمتوه؟! ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأنه ذكر وأنثى؟!

أنت تقول يا أيها المشرك العربي: إن أول بطن للناقة لا نستعمله إطلاقا،ً فلماذا؟ ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأن في بطن الناقة ذكراً وأنثى أم أن لديك دليلاً من رب العالمين على التحريم؟!

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [الأنعام:144] إذا كانت العلة في التحريم عندكم هي الذكورية، فحرموا كل الذكور، لماذا تحرمون أول نتاج فقط؟! وإذا كانت العلة هي الأنوثة، فحرموا كل الإناث، وإذا كانت العلة أنهما جميعاً، فحرموا الزوجين كليهما، وإذا كان عندكم من الله دليل على التحريم فهاتوه: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [الأنعام:144] فماذا يملكون إلا الاستسلام أمام الحجج الدامغة!

الرد على اليهود في مسألة القربان

يبين لنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز تناقض هؤلاء، مثل نقاش اليهود الذي قالوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:83] لماذا يا يهود المدينة لا تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؟

قالوا: ما جاء بقربان تأكله النار، ونحن عندنا في كتابنا المقدس أن النبي يأتي بقربان فتنزل نار من السماء تأكله فنعرف أنه نبي، وهو لم يأت بذلك، فما هو الرد؟

قال الله عز وجل: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] جاءت نار وأكلت القرابين فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] هناك أنبياء من قبلي جاءوا بالذي تقولون وتصفون وتشترطون، لكنكم قتلتموهم: فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] هذا يدل على أنكم لا تريدون الإيمان، وأن الحجة التي أتيتم بها حجة تافهة، فقد قتلتم من جاء بهذا الوصف الذي ذكرتموه.

الرد على الدهرية الذين ينكرون الخالق

وانظر إلى نقاش القرآن للمنحرفين عن العقيدة، الزائغين الظالمين المشركين الذين ينكرون الخالق، وانظر كيف يحاصرهم بأسلوب عجيب: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطور:35-43] أنت يا أيها المنكر لله كيف وجدت؟ خلقت نفسك؟! جئت من العدم هكذا من غير أي موجد؟! أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور:35] أم أنت الذي خلقت نفسك؟! فما بال السماوات والأرض أأنت خلقتها أيضاً؟!

يحاصر الملحد فعلاً فلا يستطيع أن يجيب، إذ ليس عنده حجة، فيستسلم رغم أنفه.

وكان من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة أنه حبس أسرى بدر بقرب المسجد يستمعون القرآن، فلما سمع جبير بن مطعم هذه الآيات: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ [الطور:35-37] فلما سمع سورة الطور بجمال صوت النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (كاد قلبي أن يطير) رواه البخاري.

محاجة المشركين

قال تعالى محاجاً من يشركون به: أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:21-23].

لو كان هناك أكثر من إله في العالم مثلما يقول الآن المجوس وغيرهم -عندهم عدة آلهة- فماذا كان سيحدث في السماوات والأرض؟

ستفسد وتضطرب، هذا يقول: أنا أحرك الساكن، وهذا يقول: أنا أسكن المتحرك، وهذا يقول: أنزلوا المطر هنا، وهذا يقول: لا بل أنزلوه هنا، وهكذا ستفسد السماوات والأرض.

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] وصارت حروب بينهم ومنافسات عظيمة: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:91-92] فلو فرض وجود صانعين متكافئين لفسد العالم، ولو كان واحد أقوى من غيره، فهو الرب والبقية ليست آلهة: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً [الإسراء:42-43] فلو كان يوجد آلهة أخرى، لكانت لجأت إليهم إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء:42] وهذا من طرق المناظرة، يقول: لنفرض أن كذا وكذا قد تحقق فماذا كان سيحدث؟ سيحدث كذا وكذا، فيظل الشرك ممتنعاً.

وكذلك فإنه سبحانه وتعالى قرر المشركين بتوحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية: قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84-89].

تعبدون اللات والعزى وهبل ومناة، تعبدون الأصنام والأحجار والأشجار، وربكم خالق السماوات والأرض؟! بالربوبية يستدل على الألوهية ويفرضها عليهم ويلزمهم بها: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87].. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام:101-102] لماذا تشركون به؟

الرد على اليهود في زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه

هناك تحد عجيب في القرآن لليهود على قضية أفحموا منها إفحاماً عجيباً، ماذا قال اليهود؟ قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ؛ وإذا متنا فسيدخلنا الله الجنة، هذا زعم اليهود، يقولون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه، والجنة لنا وأنتم في النار، والذين يدخلون الجنة هم اليهود فقط، فقال تعالى رداً عليهم: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:94] يا يهود تمنوا الموت إن كنتم صادقين.

ثم أخبر الله عنهم بقوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95] فهم ظلمة كفرة فجرة فسقة، كيف يتمنون الموت والحياة كل همهم وكل أملهم، وهم يعرفون أنهم بعد الموت سينتقلون إلى عذاب النار؟!

وقال عنهم في سورة الجمعة: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة:6] ثم قال الله: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [الجمعة:7] ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: [لو تمنى يهود الموت لماتوا] كما جاء في الحديث الصحيح عنه رضي الله عنه، قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، لكنهم لا يتمنونه أبداً، وإلى الآن يزعمون أنهم أحباب الله، ولا يمكن أن يتمنوا الموت إطلاقاً.

وقال الله عنهم: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111] أماني كاذبة قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].

وهكذا استمرت الآيات في جدال هؤلاء وإفحامهم ودمغهم بالحجج البينات والرد عليهم، وفي ادعائهم أن لله ولداً وأن له صاحبة، وقام أنبياء الله يجادلون الكفار.

فهذا موسى يجادل فرعون قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:104] فماذا كان رد فرعون؟ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف:106-108].

وكان المفترض في فرعون أن يستسلم، ويقول: إني اقتنعت لأني رأيت أشياء ما يقدر عليها البشر، فهي آيات من رب العالمين، لكنه ظل يجادل في الله قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49] أعاده موسى إلى حلبة الصراع قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] لماذا لم يقل موسى: ربنا الله؟ بل قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؛ أي: يا فرعون أنت لا تخلق ولا تهدي المخلوقات، والله يخلق وأنت لا تخلق فكيف تكون إلهاً؟

وفرعون مرة ثانية يحول الموجة ويريد أن يخرج من المأزق، يقول: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] فما دخل القرون الأولى، نحن نناقشك حول ادعائك للألوهية أنت تقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وتقول: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29] وتقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] فنقاشنا معك في هذه القضية فلماذا تزوغ وتروغ، وتقول: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؟!

أعاده موسى إلى الحلبة مرة أخرى، انظر سبحان الله! كيف يكون استخدام الحجج؛ الأنبياء مؤيدون من الله، فلا تضييع وقت ولا لف ولا دوران، مرة ثانية بقوة يقول موسى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] يقول له: أنت يا فرعون لا تعرف لكن الرب الإله يعرف من خلق ويعرف الأول والآخر والمتقدم والمتأخر كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر:24] كلهم علمهم في كتابٍ لا يضل ربي ولا ينسى.

هكذا أفحمه ودمغه، وجحد فرعون ولم يذعن وهو مستيقن بالحق، قال تعالى حاكياً لنا ذلك عن موسى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] في البداية كان الكلام ليناً كما أمره الله هو وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] لكن بعد ذلك لما تولى فرعون قال له موسى: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102] أي: هالكاً، وهدده بعذاب الله عز وجل.

وحكى الله لنا كيف يحيد فرعون عن النقاش: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء:18] ما دخل هذا في النقاش؟ النقاش الآن في الربوبية، وفرعون يعدد صنائعه مع موسى: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء:18-19] وعملت لك جريمة وقتلت وهربت.

فرد موسى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء:20] قبل أن يهديني ربي فعلتها، تلومني على شيء قبل الهداية، ثم تقول: أعطيناك ملابس وتمراً وأعطيناك أكلاً وشرباً وأعطيناك: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ [الشعراء:22] يعني: تمنُّ علي لأنك أطعمت واحداً وكسوته، وشربت واحداً، وأذللت أمةً بأسرها؛ تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم وتجعلهم عبيداً وتذلهم، وتمنُّ على واحد، فهل هذه نعمة تمنها علي أن عبدت قومي كلهم وأذللتهم، أهذه مِنَّة يا فرعون؟! وهكذا لم يجد عدو الله مهرباً، والمغلوب ماله إلا استعمال البطش، وتلك حيلة العاجز، فهزم فرعون هزيمة شنيعة في المناظرة.

الله عز وجل علمنا في القرآن كيف نناقش، وضرب لنا أمثلة في نقاش منكري البعث فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً [يس:77-78] أخذ عظمة ففتتها، وقال: أيستطيع ربك أن يحيي هذا؟

وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] لما خلقناه من العدم، ما هو الأصعب: الخلق من العدم أو الإحياء بعد الموت؟

الخلق من العدم هو الأصعب، ولكن الله عز وجل لا يصعب عليه هذا ولا هذا، وإذا كان قادراً على الإيجاد من العدم، فهو من باب أولى -عز وجل- يحيى العظام وهي رميم، قال تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79].

وضرب مثلاً آخر في نقاش منكري البعث فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:80-83].

وذكر لنا نقاشات لأهل الكتاب كان اليهود يقولون: إبراهيم يهودي، وكانت النصارى تقول: إبراهيم نصراني، فقال الله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:65] ولما كل فريق يدعيه لنفسه، انظر الحجة الدامغة: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:65] فما كان هناك يهودية ويهود وتوراة إلا بعد إبراهيم، والإنجيل كذلك بعد إبراهيم.

انظر الحجة بالتاريخ، جادلهم بالتاريخ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ كيف تدَّعون أن إبراهيم لكم؟ كيف يصير إبراهيم يهودياً أو نصرانياً والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده؟ واليهودية والنصرانية ما ظهرت إلا من بعده؟!! مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:67-68].

لما قال المشركون بـمكة : لقد عرفنا من أين أتى محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن، إنما يعلمه بشر، رأيناه يذهب إلى نجار رومي بـمكة ، فهذا النصراني هو الذي يعلمه ويلقنه، فالله دمغهم بالحجة وقال في كتابه: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] النجار النصراني الرومي الذي لا يحسن العربية يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم قرآناً عربياً فصيحاً بليغاً في منتهى البلاغة؟! كيف؟! فدمغهم بالحجة.

وكذلك فإنه سبحانه وتعالى أخبر مثلاً في مناقشة المشركين الذين ابتدعوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، أول مولود للناقة لا نأكله ولا نذبحه ولا نشرب من لبنه ولا نركب ظهره ولا نستعمله، فهو محرم، قال وهو سبحانه وتعالى يدمغهم بالحجة: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143] نحن نعرف أن الضأن اثنان والماعز اثنان، والبقر اثنان والإبل اثنان، كل واحد من الأصناف الأربعة فيه ذكر وأنثى، فيكون المجموع من الأزواج ثمانية سبحان الله! انظروا إلى الحجة البالغة، فلله الحجة البالغة، وهذا ليس كلام بشر يناقش المشركين، هذا كلام الله، كيف يقيم ربنا سبحانه وتعالى الحجة على المشركين؟

لما حرموا هذه الأشياء على غير دليل ولا برهان، قال: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ [الأنعام:143-144] هذا الاحتمال الثالث: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144].

هذه طريقة السبر والتقسيم كما يسميها العلماء، فالله عز وجل خلق من كل زوجٍ ذكراً وأنثى، فلم حرمتم يا أيها العرب ويا كفار الجاهلية هذا المولود المعين؟! لماذا حرمتوه؟! ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأنه ذكر وأنثى؟!

أنت تقول يا أيها المشرك العربي: إن أول بطن للناقة لا نستعمله إطلاقا،ً فلماذا؟ ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأن في بطن الناقة ذكراً وأنثى أم أن لديك دليلاً من رب العالمين على التحريم؟!

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [الأنعام:144] إذا كانت العلة في التحريم عندكم هي الذكورية، فحرموا كل الذكور، لماذا تحرمون أول نتاج فقط؟! وإذا كانت العلة هي الأنوثة، فحرموا كل الإناث، وإذا كانت العلة أنهما جميعاً، فحرموا الزوجين كليهما، وإذا كان عندكم من الله دليل على التحريم فهاتوه: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [الأنعام:144] فماذا يملكون إلا الاستسلام أمام الحجج الدامغة!

يبين لنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز تناقض هؤلاء، مثل نقاش اليهود الذي قالوا: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمران:83] لماذا يا يهود المدينة لا تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم؟

قالوا: ما جاء بقربان تأكله النار، ونحن عندنا في كتابنا المقدس أن النبي يأتي بقربان فتنزل نار من السماء تأكله فنعرف أنه نبي، وهو لم يأت بذلك، فما هو الرد؟

قال الله عز وجل: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] جاءت نار وأكلت القرابين فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] هناك أنبياء من قبلي جاءوا بالذي تقولون وتصفون وتشترطون، لكنكم قتلتموهم: فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] هذا يدل على أنكم لا تريدون الإيمان، وأن الحجة التي أتيتم بها حجة تافهة، فقد قتلتم من جاء بهذا الوصف الذي ذكرتموه.