مقومات النصيحة الناجحة [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

إخواني في الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كلمتين موجزتين، تعبران عن ركن عظيم من أركان الدين، وأركان الأخوة الإسلامية، وهذا الحديث الصحيح هو قوله صلى الله عليه وسلم بأبلغ عبارة وأوجز لفظ: (الدين النصيحة) يعرف الدين بأنه هو النصيحة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (الحج عرفة) فجعل عليه الصلاة والسلام النصيحة هي الدين كما جعل عرفة هي الحج، ليس لأن الدين كله هو النصيحة، ولا أن الحج كله هو عرفة ، ولكن لما كانت عرفة أعظم ركن من أركان الحج وهي الموقف الأكبر؛ كان ذلك دلالة على أهميتها وعظمها، كذلك يومئ عليه الصلاة والسلام لأمته بأن النصيحة هي من أعظم الأشياء في الدين.

عاقبة ترك النصيحة

أيها الإخوة: لما وقع الإهمال بين المسلمين في النصيحة؛ رأيت الانحرافات الكثيرة في العقائد والسلوكيات؛ نظراً لأن هذه المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن النصيحة أعم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النصيحة تدخل حتى في الأشياء الدنيوية، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيحة من أركان بيعته لبعض الناس، فقد أخبر الصحابي في الحديث الصحيح: (أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة -وعلى أشياء- فذكر منها: والنصح لكل مسلم) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترط في البيعة النصح لكل مسلم.

أيها الإخوة: إن النصيحة معلم بارز من معالم المجتمع الإسلامي ومن أساسيات الأخوة، ولما غابت النصيحة؛ فقدنا أشياء كثيرة، لما تواكل كل إنسان على غيره في إسداء النصيحة؛ عم الفساد وطمت الشرور، لما أهملنا النصيحة وتقاعسنا عن أدائها ودخل الشيطان على كل إنسان فقال له: عليك نفسك لا توجه نصائح للناس؛ حصلت هذه المفاسد التي ترونها اليوم والانحرافات العامة في حياة المسلمين التي أدت إلى غياب وضوح صورة الإسلام الصحيحة في أذهان كثير من المسلمين اليوم.

أيها الإخوة: النصيحة جعلها عليه الصلاة والسلام ركناً من أركان الأخوة، فقال في حق المسلم على المسلم: (وإذا استنصحك؛ فانصحه) قال العلماء ومنهم ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: إن هذا الأمر للوجوب، فتجب النصيحة لعموم الأدلة الأخرى الدالة على أهميتها والتشديد في أمرها.

نظرة الناس إلى النصيحة

أيها الإخوة: صار الواحد منا اليوم إذا رأى أخاه على منكر، أو رآه واقعاً في خطأ ما؛ يستحي أو بعبارة أدق يخجل أن يوجه إليه النصيحة، وصارت النصيحة عند بعض الناس اليوم عيباً لا ينبغي ذكره ولا إسداؤه أو التوجه به.

سيقول السفهاء من الناس: إن النصيحة تعتبر تعدياً على الحرية الشخصية للإنسان، وهذه فكرة قائمة في أذهان الكثير، فإنك ترى أحدهم اليوم إذا جئت توجه إليه نصيحة في أمر من الأمور؛ قال لك: وما دخلك أنت، وما حشرك في الموضوع، أنا حر فيما أفعل، هذه هي الحرية الشخصية، الحرية المزعومة التي ادعاها هؤلاء تقليداً للكفرة من الغربيين والشرقيين؛ الذين جعلوها صنماً يعبد من دون الله، فأدت إلى ما أدت إليه من الشرور والمفاسد.

أيها الإخوة: الحرية مكفولة للمسلمين -والحمد لله- في هذا الدين، ولا يحتاج المسلم لضمان حريته إلى أكثر من التقيد بشرائع الإسلام.

إن الإسلام يضمن لكل مسلم حريته بالأشياء التي جاء بها في إقرار حقوق المسلم وتحريم التعدي عليه، والذي يزعم أن الحرية مطلقة؛ فإن كلامه يؤدي إلى نسف عبودية الإنسان لله بالكلية؛ لأنك إذا عممت هذا المفهوم كما يراه بعض الناس اليوم؛ فإنك ستقول: أنا حر أن أؤدي الصلاة أو لا أؤديها، وأنا حر أن ألتزم بالزكاة أو لا ألتزم بها، أو أنا حر أن أصوم أو أحج إلى غير ذلك، فتصير الحرية بهذا المفهوم وبالاً شديداً ومطعناً عظيماً في دين الإسلام، فإن الإنسان عبد لله عز وجل شاء أم أبى، فيجب أن يقدم حقوق هذه العبودية، ولهذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الإنسان لا يمكن أن يعيش من غير عبودية مطلقاً، لا بد أن يعبد شيئاً ما، فإما أن يكون عبداً لله تعالى، أو عبداً لأهوائه أو شهواته، أو غيرها من طواغيت الإنس، أو الأصنام وما شابهها.

لذلك -أيها الإخوة- لابد أن يستقر في عقول هؤلاء الناس أن النصيحة ليست تعدياً على الحرية الشخصية مطلقاً، وهذه القصة أو الحوار الذي سمعته يوماً ما من أحد الإخوان -والعهدة على الراوي- تبين حال الناس في قضية النصيحة: فإن إنساناً أتى لرجل من المسلمين فقال له: يا أبا فلان! إن ثوبك طويل يسحب، هلا رفعته وقصرته كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأى مسلماً واقعاً في منكر؛ فأسدى إليه نصيحة، فقال له الشخص المخاطب بلهجته: يا فلان! هذا ثوبي وإلا ثوبك؟ قال: لا. ثوبك، قال: فما دام أنه ثوبي؛ فأنا حر أفعل به كما أشاء، فانطلت هذه الكلمة على ذلك الرجل الناصح المسكين فقال: إي والله صدقت.

أيها الإخوة: هذا مثل بسيط من الأمثلة التي تعبر فعلاً على أن الناس اليوم يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسداء النصيحة لهم هو تدخل في حرياتهم ومظاهرهم الشخصية، لذلك لا يرون التقيد أو قبول النصيحة أصلاً، وقد أتى الخلل من كون بعض المسلمين يرون بأنه لا علاقة للإسلام وأحكام الإسلام في مظاهرهم الشخصية، فلذلك هو حر في مظهره الشخصي، وهذه نقطة خطيرة؛ لأن المظهر -أيها الإخوة- من شعارات الإسلام، وقد اهتم الإسلام بالباطن كما اهتم بالظاهر؛ ولأن اللباس والهيئة والمظهر من شعارات المسلمين الدالة على تميزهم عن غيرهم من الأمم الكافرة، ولذلك أمر الإسلام بمخالفة أعداء الدين وأصحاب الملل الأخرى من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، فأمر بإرخاء اللحى، وقص الشوارب، وتقصير الثياب، وغير ذلك من الأشياء تظهر المسلم متميزاً متفرداً في مظهره وهيئته.

أيها الإخوة: لما وقع الإهمال بين المسلمين في النصيحة؛ رأيت الانحرافات الكثيرة في العقائد والسلوكيات؛ نظراً لأن هذه المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إن النصيحة أعم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النصيحة تدخل حتى في الأشياء الدنيوية، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيحة من أركان بيعته لبعض الناس، فقد أخبر الصحابي في الحديث الصحيح: (أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة -وعلى أشياء- فذكر منها: والنصح لكل مسلم) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترط في البيعة النصح لكل مسلم.

أيها الإخوة: إن النصيحة معلم بارز من معالم المجتمع الإسلامي ومن أساسيات الأخوة، ولما غابت النصيحة؛ فقدنا أشياء كثيرة، لما تواكل كل إنسان على غيره في إسداء النصيحة؛ عم الفساد وطمت الشرور، لما أهملنا النصيحة وتقاعسنا عن أدائها ودخل الشيطان على كل إنسان فقال له: عليك نفسك لا توجه نصائح للناس؛ حصلت هذه المفاسد التي ترونها اليوم والانحرافات العامة في حياة المسلمين التي أدت إلى غياب وضوح صورة الإسلام الصحيحة في أذهان كثير من المسلمين اليوم.

أيها الإخوة: النصيحة جعلها عليه الصلاة والسلام ركناً من أركان الأخوة، فقال في حق المسلم على المسلم: (وإذا استنصحك؛ فانصحه) قال العلماء ومنهم ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: إن هذا الأمر للوجوب، فتجب النصيحة لعموم الأدلة الأخرى الدالة على أهميتها والتشديد في أمرها.

أيها الإخوة: صار الواحد منا اليوم إذا رأى أخاه على منكر، أو رآه واقعاً في خطأ ما؛ يستحي أو بعبارة أدق يخجل أن يوجه إليه النصيحة، وصارت النصيحة عند بعض الناس اليوم عيباً لا ينبغي ذكره ولا إسداؤه أو التوجه به.

سيقول السفهاء من الناس: إن النصيحة تعتبر تعدياً على الحرية الشخصية للإنسان، وهذه فكرة قائمة في أذهان الكثير، فإنك ترى أحدهم اليوم إذا جئت توجه إليه نصيحة في أمر من الأمور؛ قال لك: وما دخلك أنت، وما حشرك في الموضوع، أنا حر فيما أفعل، هذه هي الحرية الشخصية، الحرية المزعومة التي ادعاها هؤلاء تقليداً للكفرة من الغربيين والشرقيين؛ الذين جعلوها صنماً يعبد من دون الله، فأدت إلى ما أدت إليه من الشرور والمفاسد.

أيها الإخوة: الحرية مكفولة للمسلمين -والحمد لله- في هذا الدين، ولا يحتاج المسلم لضمان حريته إلى أكثر من التقيد بشرائع الإسلام.

إن الإسلام يضمن لكل مسلم حريته بالأشياء التي جاء بها في إقرار حقوق المسلم وتحريم التعدي عليه، والذي يزعم أن الحرية مطلقة؛ فإن كلامه يؤدي إلى نسف عبودية الإنسان لله بالكلية؛ لأنك إذا عممت هذا المفهوم كما يراه بعض الناس اليوم؛ فإنك ستقول: أنا حر أن أؤدي الصلاة أو لا أؤديها، وأنا حر أن ألتزم بالزكاة أو لا ألتزم بها، أو أنا حر أن أصوم أو أحج إلى غير ذلك، فتصير الحرية بهذا المفهوم وبالاً شديداً ومطعناً عظيماً في دين الإسلام، فإن الإنسان عبد لله عز وجل شاء أم أبى، فيجب أن يقدم حقوق هذه العبودية، ولهذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الإنسان لا يمكن أن يعيش من غير عبودية مطلقاً، لا بد أن يعبد شيئاً ما، فإما أن يكون عبداً لله تعالى، أو عبداً لأهوائه أو شهواته، أو غيرها من طواغيت الإنس، أو الأصنام وما شابهها.

لذلك -أيها الإخوة- لابد أن يستقر في عقول هؤلاء الناس أن النصيحة ليست تعدياً على الحرية الشخصية مطلقاً، وهذه القصة أو الحوار الذي سمعته يوماً ما من أحد الإخوان -والعهدة على الراوي- تبين حال الناس في قضية النصيحة: فإن إنساناً أتى لرجل من المسلمين فقال له: يا أبا فلان! إن ثوبك طويل يسحب، هلا رفعته وقصرته كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد رأى مسلماً واقعاً في منكر؛ فأسدى إليه نصيحة، فقال له الشخص المخاطب بلهجته: يا فلان! هذا ثوبي وإلا ثوبك؟ قال: لا. ثوبك، قال: فما دام أنه ثوبي؛ فأنا حر أفعل به كما أشاء، فانطلت هذه الكلمة على ذلك الرجل الناصح المسكين فقال: إي والله صدقت.

أيها الإخوة: هذا مثل بسيط من الأمثلة التي تعبر فعلاً على أن الناس اليوم يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإسداء النصيحة لهم هو تدخل في حرياتهم ومظاهرهم الشخصية، لذلك لا يرون التقيد أو قبول النصيحة أصلاً، وقد أتى الخلل من كون بعض المسلمين يرون بأنه لا علاقة للإسلام وأحكام الإسلام في مظاهرهم الشخصية، فلذلك هو حر في مظهره الشخصي، وهذه نقطة خطيرة؛ لأن المظهر -أيها الإخوة- من شعارات الإسلام، وقد اهتم الإسلام بالباطن كما اهتم بالظاهر؛ ولأن اللباس والهيئة والمظهر من شعارات المسلمين الدالة على تميزهم عن غيرهم من الأمم الكافرة، ولذلك أمر الإسلام بمخالفة أعداء الدين وأصحاب الملل الأخرى من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، فأمر بإرخاء اللحى، وقص الشوارب، وتقصير الثياب، وغير ذلك من الأشياء تظهر المسلم متميزاً متفرداً في مظهره وهيئته.

النصيحة لها شروط في الناصح والمنصوح والنصيحة في ذاتها، ولا يسعنا الوقت للكلام عن هذه الأشياء جميعها. ولكن لا بد للناصح أن يكون -يا إخواني- رفيقاً بمن ينصح، وألا يكون متعالياً عليه بنصيحته، أو ينصب نفسه أستاذاً له في إلقاء النصيحة؛ لأن هذا الأمر يسبب نفور الشخص المقابل؛ لأنه يشعر بأنك تتعالى عليه وتتكبر عليه أثناء نصحه، وقد جبلت النفوس على رفض مثل هذه الطرق التي تؤدي إلى إهانتها في الظاهر، لذلك كان لا بد من الرفق بالناس، وعدم التكبر أو التعالي عليهم أثناء إسداء النصح لهم، وتجنب الألفاظ الجارحة التي تؤدي إلى صدود كثير من المسلمين عن تقبل النصيحة.

بعض الناس عندما يرى شخصاً لا يطبق شيئاً من شرائع الدين في مظهره أو أعماله، فقد يقول له: أنت فاسق، أنت فاجر، أنت كذا، أنت كافر، أنت لا تفعل كذا، أنت عاصٍ، أنت مرتد، أنت خارج عن الدين، أنت كذا وأنت كذا، من هذه الألفاظ التي تنفر الناس بظاهرها، وقد يكون الحق مع هذا الرجل الناصح أن هذا الأمر الذي ينصح به هو حقيقة إذا لم يطبقه الشخص المقابل فإنه قد يكون فاسقاً؛ لأن الفسق معناه: الخروج عن طاعة الله عز وجل، ومعصية الله، فلذلك سميت الثمرة إذا انشقت عن قشرتها أنها فسقت كما تقول العرب، فإذاً الخروج عن طاعة الله ومعصيته فسق، هذا لاشك فيه مطلقاً، ولكن يا أخي عندما تقول للشخص الآخر مباشرة قبل أن تقيم عليه الحجة، تقول: أنت فاسق، أنت كذا، أنت مرتد، أو أنت كافر، أو أنت عاصٍ، مثلاً، هل حلت المشكلة؟ الجواب: كلا، لم تحل المشكلة مطلقاً، لذلك كان لا بد من الترفق في النصيحة. لقد حدثت في عهده صلى الله عليه وسلم من الأحداث التي هيأها الله حتى نرى بها الطريقة الصحيحة في إسداء النصيحة، حدثت أشياء عظيمة كان موقفه عليه السلام منها مدعاةً ومثاراً للتعجب والاندهاش من حلم ذلك الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم. هل هناك ذنب أقبح من أن يبول إنسان في المسجد أمام الناس؟! كلا، وربما لا يكون هناك في ذلك الموضع ما هو أقبح من ذلك، أفترى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف عالج الأمر؟

لما همَّ الصحابة بذلك الرجل الأعرابي الجاهل الذي أتى ليبول، قال: (لا تزرموه، تقطعوا عليه بوله) وبعدما انتهى الرجل؛ ناداه عليه الصلاة والسلام وعلمه حق المساجد وواجب المسلم نحو المسجد، وأن هذا الأمر لا يجوز وذلك بكل رفق وتؤده.

كذلك الصحابي رضي الله عنه الذي تكلم في الصلاة جاهلاً بحكم الكلام في الصلاة، ماذا قال بعدما نصحه عليه الصلاة والسلام؟ قال: (فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلماً قط قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، والله ما كهرني ولا نهرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن).

فإذاً أيها الإخوة، هذا الأسلوب الجذاب في النصيحة هو الذي يحمل الناس على قبول النصيحة، وهذه المسألة فيها خطورة كبيرة؛ لأن كثيراً من الناصحين يقولون كلاماً حقاً، فالحق معهم في كل كلمة يقولونها، فالحكم الذي أمروا به صحيح والدليل صحيح، والمنكر الذي نهوا عنه فعلاً منكر، وقامت الأدلة من الكتاب والسنة على أنه منكر، وتوجيههم للناس أن هذا طريق الحق صحيح، والمعالم التي في هذا الطريق صحيحة، لكن المشكلة أن أسلوبهم يعمي على الناس قبول هذا الحق.

أيها الإخوة: هذه مسألة خطيرة؛ أن نعرض على الناس حقاً، ولكن لا يقبلونه بسبب أسلوبنا نحن، هذا يؤدي إلى نكوص الناس عن شرع الله وارتدادهم عن دين الله واتباع الباطل، إذا كان معك الحق يا أخي كما أنه حسن في ذاته؛ فكن أنت حسناً في تأديته إلى الناس، ولذلك نجح كثير من أهل الباطل في إيصال باطلهم للمسلمين مع أنه باطل بسبب حسن الأداء، فأنت ترى كثيراً من المبشرين النصارى قد نجحوا في إدخال كثير من المسلمين في دين النصرانية أو إبعادهم عن دين الإسلام، هل كان ذلك بسبب أن الأشياء التي عرضوها على المسلمين صحيحة أو حق أو حسنة أو طيبة؟ كلا، إنها شرك أو كفر أو ردة عن دين الله أو فسق أو معصية، ولكن نجحوا في ذلك بسبب الأسلوب الحسن الذي استطاعوا به أن ينفذوا إلى قلوب الناس، فمن أشد الأمور ألماً أن ترى أهل الباطل يصلون إلى قلوب الناس بحسن تخطيطهم، وجودة أسلوبهم، ورقة ألفاظهم، وجمال حديثهم وكلامهم، وما هم عليه باطل، وترى أصحاب الحق الصحيح أصحاب الحنيفية السمحة لا يستطيعون أن يوصلوا ما لديهم إلى قلوب الناس.

هذه أيها الإخوة من أشد ما في واقع المسلمين ألماً، هذه واحدة، ومع ذكرنا لهذا الجانب فإننا لابد أن نعرج على أولئك المنصوحين الذين توجه إليهم النصيحة، فأقول لكل واحد أسديت إليهم نصيحة صحيحة تيقن أنها حق: يا أخي! لا يحملنك شيء من فضاضة أخيك المسلم أو تعديه عليك بجزء من اللفظ أو خشونة في الأسلوب -لو حدث هذا- لا يحملنك هذا على رفض ما لديه من الحق؛ لأن هذه من أعظم المنكرات أن ترفض الدليل وترفض نص الكتاب والسنة، وترفض الحق؛ لأن فلاناً قد قسا عليك شيئاً ما في الأسلوب، لأن هذا استبدل الحسنة بالسيئة، ألأنه قسا عليك قليلاً في الأسلوب ترفضه؛ وترفض ما لديه من الحق العظيم الذي أتى من عند الله؟! ترفض أحكام الدين وترفض أحكام المنكر الذي أنت مقيم عليه؛ بسبب خطأ في الأسلوب، هذه رعونة وطيش وحمق، لا ينبغي مطلقاً أن يحصل، نرفض الحق لمجرد أنه أسيء إلى شخصياتنا في طريقة عرضه، كلا يا إخواني، لنكن أصحاب حق ومبدأ وإن واجهنا شيئاً من الخشونة أو القسوة، فالحق عندنا أعلى وأعظم وأغلى من الأسلوب، وإن كان الأسلوب مهماً ولكن الحق أهم، وإذا استطعنا فهم هذين الجانبين زال الإشكال واقترب الناس من الدين وسمع كل منصوح لناصحه.

ومن الأمور التي ينبغي عقلها وفهمها وفقهها للناصح: أن يعرف الفرق بين النصيحة والتعيير، أن يعرف الفرق بين النصيحة والتشهير، لأن الناس لهم كرامة، والناس لهم مشاعر وأحاسيس، ولذلك لا بد من احترام أحاسيسهم ومشاعرهم.

أيها الإخوة: النصيحة تسدى بقالب حسن سراً بين الناصح والمنصوح؛ لأن الناس لا يريدون بطبيعتهم أن تقرأ على الآخرين أخطاءهم وعيوبهم، ففي المجالس تقول: يا فلان! لماذا فعلت أمس كذا؟ ولماذا قلت كذا؟ أنت مخطئ وأنت كذا وكذا، هذا تشهير لا يصح أبداً، لا بد أن نحفظ حقوق الناس وكرامتهم، لا بد أن نصون مشاعرهم وأحاسيسهم.

لكن يحصل أحياناً أن الشيء الذي تنصح به لو أخرته يفوت وقته، فلا بد أن تنصح به الآن قبل أن يفوت وقته، كما لو أنني قلت لهذا الأخ: قم واركع ركعتين، فإن هذا لا يعتبر تجريحاً ولا تشهيراً؛ لأنه لو ما قام الآن وصلى فإن وقتها يفوت، ولأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر المسلم إذا دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين، تحتم عليه أن ينفذ الأمر الآن، فإذا تركته ونصحته بعد الصلاة مثلاً؛ فإن هذا الأمر يفوت عليه، ولذلك فإن سليكاً الغطفاني لما دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب كما ورد في صحيح مسلم جلس سليك مباشرةً، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أركعت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين) هذا أمام الناس لا يسمى تشهيراً ولا تعييراً، لأن هذا وقته وإذا ترك؛ يفوت الوقت، ولكن لا يمكنك أن تؤجل النصيحة إلى ما بعد انفضاض المجلس وانتهاء هذه الجلسة التي يجلسها الناس، ومع ذلك تنصح الرجل أمام الآخرين، هذا غير صحيح.




استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة اسٌتمع
اقتضاء العلم العمل 3611 استماع
التوسم والفراسة 3608 استماع
مجزرة بيت حانون 3530 استماع
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] 3497 استماع
اليهودية والإرهابي 3425 استماع
إن أكرمكم عند الله أتقاكم 3425 استماع
حتى يستجاب لك 3393 استماع
المحفزات إلى عمل الخيرات 3370 استماع
ازدد فقهاً بفروض الشريعة 3348 استماع
الزينة والجمال 3336 استماع